يأتينى بشكل مستمر باحثون من داخل مصر وخارجها طلباً للمساعدة فيما يعدون من أبحاث، يرون أن لدىّ ما أقدمه لهم.. ولاحظت كيف أن معظم الباحثين القادمين من الخارج يملكون ناصية البحث الذى يعملون فيه، من حيث الخريطة المعرفية الأساسية للموضوع قيد الدراسة من حيث: أهم مَن كتب فيه، وأهم من تناوله.. كذلك قدر من المعرفة اللغوية بالعربية، قراءة أو كتابة أو الاثنتين معا..
هذا بالإضافة إلى الاستعداد الجيد للنقاش حول الموضوع محل البحث، أما باحثونا المحليون فإن عدداً غير قليل منهم يكونون غير مسيطرين على موضوع البحث، لا من حيث خريطته المعرفية الأولية ولا من حيث جديد العلم فى هذا المجال، بسبب عائق اللغة أساسا وغياب الترجمات المحلية.. وهنا تحديدا تكمن المشكلة.
(1)
يقفز العالم علميا فى شتى المجالات قفزات مذهلة.. ليس فقط فى مجال العلوم التطبيقية من هندسة وكيمياء.. إلخ، وإنما أيضا فى مجال العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية.. وأنا بصفتى من عشاق متابعة جديد الفكر العالمى وحريصاً على إحضار كل الكتب التى تدخل فى مجال اهتمامى، يمكن أن أقول إننا بعيدون جدا عن هذا الجديد وأفكاره المثيرة للذهن، خاصة فى مجال العلوم الإنسانية (نترك الحديث عن العلوم الطبيعية لمن يدهم فيه).. فمن اليسير أن نلحظ كيف لا تجد عند الباحث المصرى ذكراً لأى دراسات أو كتب حديثة حول موضوع البحث واعتماده على كتب سيّارة ذات طابع صحفى فى الأغلب.. وتحاول أن تقول للباحث إن هناك اجتهادات حديثة جدا فى هذا المقام لابد من قراءتها ولابد من العودة إليها.. بيد أن عائق اللغة وعدم اعتبار الترجمة جزءا من رسالة المؤسسة العلمية يجعل الانقطاع عن العالم وأفكاره محنة بكل المقاييس.
(2)
وأحيانا، تجد جهات تحضر لمؤتمرات بحثية لمناقشة مصطلحات حديثة عن المواطنة، والمسؤولية الاجتماعية.. ويفاجأ المرء بأن عليه أن يعلق على بعض الأوراق.. فلا تجد مرجعا أساسيا واحدا لمنظّرى هذه الموضوعات.. فتجد من يلجأ لكتب يمكن أن تنسبها لأدبيات الديمقراطية لأنه غير ملم بأدبيات المواطنة – التى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية – وبأصحابها وتطور المفهوم نفسه، وأنه لم يعد هو المصطلح الذى كان يتحدث عنه اليونانيون الأول، ولا هو المصطلح القانونى الواقف عند تصور الحقوق والواجبات، فلقد طاله الكثير والكثير بفضل مارشال وتيرنر وكيملكا.. إلخ.. ويقوم الباحث بتسكين مراجع ليست لها علاقة بالبحث، أو باللجوء بكثافة إلى مصادر من الإنترنت يشك المرء كثيرا فى جديتها ودقتها.. وتجدر الإشارة إلى توقف الباحث فى معرفته عند الموجات الأولى من الاجتهادات لمفكرى القرن العشرين، فلا أحد يعرف مثلا اجتهادات كازانوفا أو جوشيه أو هاينز أو بيير فى علم الاجتماع الدينى، وعلاقة الدين بالعولمة والمجتمع والثقافة، وكلهم من مثقفى نهاية الألفية ولهم مجلدات ومراجع معتبرة وتمس فى جانب منها المنطقة بتفاعلاتها الداخلية وفى علاقاتها بالعالم وتطرح أفكارا أصيلة وتأصيلية.
(3)
الأخطر، أنه بعد الموجات الثلاث التى مرت بها مدارسنا الوطنية فى علم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية.. إلخ (المرحلة القومية مع مطلع القرن العشرين، مرحلة ما بعد الاستقلال وتأسيس مؤسسات متخصصة، مرحلة الانتشار).. انتكست هذه المدارس ويكفى أن نشير مثلا إلى مدرسة علم الاجتماع المصرى التى وصلت مع نهاية الثمانينيات إلى أن تكون لها دورية متميزة كانت تنشر دراسات متميزة وتترجم وتتابع وترصد جديد العالم فى مجالها، هذا بالإضافة إلى سلسلة رائدة فى هذا المجال تتراوح بين الترجمات والدراسات.. ويبدو لى أنه مع مطلع التسعينيات تأثرت كل مدارسنا الوطنية فى العلوم الإنسانية وانقطعت بدرجة أو أخرى عن العالم.
(4)
وهكذا تحول الأمر من موجة تضم عناصر متنوعة المشارب إلى جهود فردية متناثرة، يحتضنها الآخرون من حين لآخر، مثل الجهد الرائع الذى بذله الدكتور الجوهرى مثلا فى ترجمة مراجع معبرة ونشرت من خلال سلسلة عالم المعرفة (سوسيولوجيا الفن والاستبعاد الاجتماعى 2007).. كذلك ما يقوم به المثقف الكبير شوقى جلال من توفير ترجمات مهمة لمراجع يتحدث عنها العالم ويبذل فى ذلك جهدا يساوى مؤسسة بكل عناصرها.. وأيضا ترجمات بدر الرفاعى وبشير السباعى.. أو يحتضنها المركز القومى للترجمة.. ولكنها لا تجد لها حضورا فى البحث العلمى.. ولهذا حديث آخر.