قضايا المواطنين غير المسلمين في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة

مؤتمر
” اتجاهات التجديد والإصلاح
في الفكر الإسلامي الحديث”

(المحور الخامس: التجديد والإصلاح بين الحاضر والمستقبل:قراءات في
الخطاب الإسلامي المعاصر.)

عن قضايا “المواطنين” غير المسلمين
“الدينية” و”المدنية”
في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة
وعن مسألة الحكم
(الحالة المصرية نموذجا)

سمير مرقس

2009

كاتب وباحث، رئيس مجلس أمناء مؤسسة المصري للمواطنة والحوار،
وعضو الأكاديمية النرويجية للآداب وحرية التعبير، والحائز على جائزتها السنوية (2004) التي تحمل اسم أول أديب نرويجي يحصل على نوبل للآداب(1903) ،وحائز على الدبلوما العلمية للأكاديمية.
من مؤلفاته:
المواطنة و التغيير:دراسة أولية حول تأصيل المفهوم وتفعيل الممارسة.
الآخر.. الحوار.. المواطنة.
مفتتح أول:

“… مشكلة الأقباط… هي مشكلة الشعب ،

إذا أضطهد اضطهدنا

و إذا تحرر تحررنا…”

السكرية… نجيب محفوظ

مفتتح ثان:
تاريخ المجتمع هو تاريخ الجهر بأفكاره،وتاريخ الجهر بتعدديته.

دون هذا الجهر،لا يكون المجتمع إلا ركام أشياء- نباتا أو جمادا أو هياكل لها شكل إنسان.

لا تاريخ لمجتمع صامت، أو لمجتمع أحادي النظر و الفكر.

المعنى مرتبط بالفكر المتعدد –جهرا.

الفكر المتعدد – جهرا هو ما يؤسس لتاريخ المعنى.

المجتمع الذي لا يفكر متعددا، وجهرا، لا يمكن أن يخلق معنى إنسانيا عظيما.أنه يعيش خارج المعنى.

بالفكر المتعدد – جهرا،يصير للإنسان تاريخ.

الأحادية صحراء.

زوال التعددية في المجتمع زوال لتاريخه.المجتمع نفسه يفقد اجتماعيته،ويتحول إلى
قطيع.

الوجود هو أن يقال بأفكار وطرائق متعددة.ذلك أن الوجود، تحديدا، متعدد.
لا أحادية إلا أحادية الخالق

الآخر الحر شرط لوجودي الحر.

الشاعر الكبير” أدونيس”

المحتويات
(1) تمهيد: عن المواطنة.
(2) عن العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر قبل الدولة الحديثة.

(ج) عن مسيرة المواطنة منذ محمد على (1805 )،
و عن مسألة الحكم.

(د) عن قضايا المواطنين غير المسلمين في المجتمعات
ذات الأغلبية المسلمة.

(ه) عن الخطابات الإسلامية حول قضايا غير المسلمين.

(و) نحو جهد مشترك لدعم المواطنة الثقافية:الاندماج والتعددية.
(أ)
تمهيد:
عن المواطنة

نعالج في هذه الورقة القضايا التي تمثل هموما  لغير المسلمين في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من جهة، ونحاول الاقتراب من مسألة الحكم من جهة أخرى،وذلك من خلال الخبرة المصرية،بالأساس،والتركيز على الشأن القبطي  في هذا المقام.
ومن الأهمية بمكان تحديد مقاربتنا لهذا الموضوع من البداية،وهو أمر نحرص عليه دوما في كل ما نكتب حول الأقباط و الشأن القبطي،ذلك أننا نقترب منهما من منظور المواطنة كما يلي:
(1) التزام السياق التاريخي لحركة المواطنين المصريين، المسلمون والأقباط؛ فبغير ذلك تكون الرؤية مبتورة. وسوف يتم التعامل مع الأقباط وكأنهم يتحركون في فضاء اجتماعي وسياسي منفصل عن الواقع ككل، وأتصور الحال كذلك بالنسبة للمواطنين المسلمين، فعلى سبيل المثال، إذا أردنا الحديث عن ظاهرة “عزوف” الأقباط عن المشاركة السياسية؛ فإننا لا يمكننا الحديث عنها وكأنها ظاهرة تخص الأقباط وحدهم من دون قراءة الظاهرة في إطار سياقها التاريخي العام كونها إشكالية مصرية عامة.
(2) إن الأقباط مواطنون في المقام الأول وأعضاء في الجماعة الوطنية المصرية لا يشكلون ” جماعة مستقلة ” أو “كتلة مغلقة ” وهو ما نبهنا منه مبكرا عشية انتخابات 1984 ، فالأقباط غير متماثلين من حيث الانتماء الاجتماعي والسياسي ، فهم منتشرون في جسم المجتمع رأسيا ومنهم العامل والفلاح والمهني والحرفي ورجال الأعمال والتجار ، ولا يربط بينهم سوى الانتماء إلى مصر من جانب ، والانتماء الديني من جانب آخر ، وبين هذين الانتماءين تفترق المصالح والتحيزات والرؤى.
(5) إن المواطنة التي هي تعبير عن حركة المواطن على أرض الوطن تتجاوز مفاهيم
الطائفة والملة والذمة حيث إن الوطن يستوعب كل ما سبق، كما تتجاوز المواطنة
مفهوم الأقلية بتداعياته.
في ضوء ما سبق، سنحاول الاقتراب من الشأن القبطي وما يترتب عليه من علاقات مسيحية إسلامية في محاولة لتفسير الإشكاليات الآنية –المزمنة بعض الشيء –وكيفية علاجها ، وهو ما يلزم أن نمهد له تاريخيا من أجل حضور فاعل للأقباط على قاعدة المواطنة، أي إننا ندرس الشأن القبطي في إطار دراستنا للمسار التاريخي للمواطنة، ونقصد بذلك حركة المصريين، ومن ضمنهم الأقباط في سعيهم نحو بلوغ المواطنة التي تعني مركبا متعدد العناصر (المشاركة، والمساواة، والحقوق بأبعادها، واقتسام الموارد)، وهو تعريف يتجاوز الدستوري والقانوني إلى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ فهذه العناصر هي التي تعكس مدى تحقق المواطنة أو تراجعها، وما هي المقومات التي دفعت إلى تحققها، أو المعوقات التي تؤدي إلى تراجعها.
صفوة القول أن أي دراسة للأقباط (غير المسلمين) لابد وأن تتم في إطار دراستنا للمسار التاريخي للمواطنة،ونقصد بذلك حركة المصريين ككل،ومن ضمنهم الأقباط بحسب موقع كل قبطي في البناء الاجتماعي ،بلغة أخرى يمكن القول أن هناك علاقة جدلية تكاد تكون شرطية بين محاولة جموع المصريين الاقتراب من المواطنة وبين التكامل بين المصريين بكل فئاتهم النوعية ومن ضمنهم المسلمين والمسيحيين ومن ثم تراجع قضايا غير المسلمين .وعليه فمتى توفرت الشروط اللازمة التي من شأنها أن تفعل المواطنة فانه يترتب على ذلك اندماجا وطنيا للجميع على قاعدة المساواة.
وقبل أن نعرض للمسيرة التاريخية للمواطنة منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر، سأضع تعريفا إجرائيا للمواطنة بحسب فهمنا له في ضوء الخبرتين المصرية والغربية i واطلاعنا على الأدبيات المعتبرة في هذا المقام وهو تعريف نقترح للأخذ به وذلك كما يلي:

المواطنة هي تعبير عن ” حركة “الإنسان اليومية…
مشاركا ومناضلا…
من أجل… حقوقه بأبعادها ” المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية”…
على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب(اللون/ الجنس/العرق/الدين/المذهب/المكانة/الثروة/الجيل/المنطقة/اللغة…)…
واندماج هذا المواطن في” العملية الإنتاجية” ومن ثم “المجتمعية”…
بما يتيح له تقاسم الموارد في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين.

اقتسام المواردالعامة المدنية السياسية الثقافية المساواة المشاركة
منظومة الحقوق
الاجتماعية الاقتصادية
على قاعدة اقتصاد إنتاجي
المواطنة

جدول رقم(1)

والمواطنة بهذا المعنى تتجاوز الرؤى التي تساويها بالولاء و الانتماء خاصة و أن الأدبيات المعتبرة في هذا المجال و التي جاءت تعبيرا عن خبرة عملية و حياتية تؤكد على أنه لا يستقيم الحديث عن المواطنة من دون السياق الاجتماعي الذي تمارس فيه, و ما يعنيه من ضرورة لفهم المواطنة و علاقاتها بالبناء الطبقي السائد و الأيديولوجية المهيمنة و هيكل الدولة و طبيعتها و نمط الإنتاج و موازين القوى الاجتماعية.
إن المتتبع لحركة المصريين عبر التاريخ سوف يجد مدى الجهد والكفاح الذي بذلته الجماعة الوطنية من أجل تحقيق المواطنة، فعلى مدى مئات – آلاف السنين، كانت المواجهة بين المحكومين والحكام – أجانب ووافدين في الأغلب – من أجل استخلاص حقوقهم والتي يأتي في مقدمتها حكم البلاد. إنها حركة ظل يراكمها المصريون عبر التاريخ حتى أثمرت في لحظات النهوض الوطني بداية من تأسيس الدولة الحديثة،فاتخذت مسارا آخرا لم يقف عند مسألة الحكم وإنما بدأ في الانتباه تدريجيا إلى منظومة الحقوق بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ،بدرجة أو أخرى، أيضا إلى المساواة.

وانطلاقا مما سبق سوف نتتبع العلاقة بين المصريين من المسيحيين والمسلمين قبل تأسيس الدولة الحديثة وبعدها.ويمكن القول أن العلاقات بينهما في المرحلة الأولى ii، لم تثر فيها الإشكاليات الفقهية في بعدها النظري مثل الوضع القانوني لغير المسلمين أو حرية إقامة الكنائس حيث كان يحكم هذه الأمور ما يمكن تسميته بفقه الواقع أو الإسلام في خبرته المصرية.وأن أغلب الإشكاليات التي حدثت كانت في الأغلب الأعم مواكبة لضعف الدولة وتعسف الحكام.
والمفارقة أن الإشكاليات الفقهية النظرية بدأت مع انطلاق مسيرة المواطنة في مصر مع تأسيس الدولة الحديثة، أخذا في الاعتبار تأثير السياق المجتمعي في ذلك، وهو ما درسناه تفصيلا وسوف نقدمه في إيجاز.
(ب)
عن العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر قبل الدولة الحديثة.
جدلية قائمة على قاعدتي التفاعل الاجتماعي و التعددية الواقعية

قامت العلاقات المسيحية الإسلامية في مصر على جدلية بين قاعدتين هما:
“التفاعل الاجتماعي” و”التعددية الواقعية “،
فالقارئ لتاريخ العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في مصر لابد أن يقف عند حقيقة
غاية في الأهمية ألا وهي أن هذا العيش لم يكن مجرد تعبير عن وجود فيزيقي لأفراد ينتمون إلى ديانتين مطلقين يعيشون في إطار جغرافي واحد، بحيث لا يترتب على وجودهم أية تفاعلات على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، وإنما كان هذا العيش يعكس خصوصية الحياة المصرية في استيعاب المسيحية والإسلام. فتعايش المصريون من أبناء الديانتين – المطلقين بفضل مقومات اتسم بها الكيان المصري مثل التجانس وسيادة العرق المصري الواحد، ووجود وسيلة إنتاج رئيسية ودولة ذات نظام سياسي يتسم بالوحدة السياسية والتداخل الجيو ديموغرافي . وعليه لم يبتلع التجانس التعدد من خلال هيمنة أحد المطلقين لمحي وجود الآخر، ولا صار التعدد عاملاً يكرس الفرقة. ولكن الحياة المشتركة الاجتماعية والإنتاجية والثقافية والحضارية حالت دون حدوث الاستقطاب أفرزت بديلا ثالثا- غير الاستيعاب والاستبعاد المتبادل – هو الحياة المشتركة من خلال ” جدل التجانس والتعدد”، حيث الاحتفاظ بالمقومات الواحدة والموحدة ولا ينفى وجود الآخر ، فالجماعة باتت تعيش التعدد على أرض الوحدة . إن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الخبرة المصرية قامت على أمرين هما:
(1) التفاعل الاجتماعي.
(2) التعددية الواقعية.
نعم كانت هناك فترات تعثرت فيها هذه العلاقة ولكن القراءة التاريخية المتأنية والدقيقة و المنصفة تدل على أن هناك قاعدة حاكمة لهذه العلاقة ، ذلك إن درجة التكامل – الاندماج – التماسك بين مكوني الجماعة الوطنية تزداد مع فترات النهوض القائم على قاعدة اقتصادية واجتماعية ناهضة ، والعكس صحيح ، فان درجة التكامل – الاندماج – التماسك تتراجع لصالح استبعاد ونفى الآخر في فترات الأزمة المجتمعية، ويمكن مراجعة هذا الأمر بداية من عصر الولاة في مصر وإلى يومنا هذا مرورا بالعصور التالية :

(1) عصر الدولة الطولونية 868 – 905م.
(2) عصر الدولة الإخشيدية 935-969م.
(3) العصر الفاطمي (الأول والثاني ) 969-1171م.
(4) عصر الدولة الأيوبية 1174-1250م
(5) المماليك 1250-1517م.
(6) الدولة العثمانية 1517-1805م.
(7) الدولة الحديثة منذ محمد على والتي تأسست في عام 1805م.

وتعكس القراءة التاريخية للمراحل السابقة أن صعود – هبوط العلاقة بالآخر، إنما تحكمه ما يمكن تسميته ” بالجدلية المجتمعية ” وهل هي في حالة نهوض أم تخلف. حتى مع تكرار التعثر فإن التجربة التاريخية تقول انه لم يكن هناك ما يعوق أن تتجدد العلاقة بالآخر، مرة بعد مرة، متى تعثرت العلاقة، الأمر الذي جعل التعثر خبرة حية للجماعة الوطنية المصرية.
إن الحياة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين قد جعلت من الآخر حاضرا بقوة في الواقع وفى نفس الوقت أعطت العلاقة بينهما الأولوية ” للزمني” و”الإنساني” من خلال الحياة اليومية متجاوزة ” المقدس” والإلهي ” ليس إنكارا أو إهمالاً وإنما ” استلهاما “. فكلاهما يعيش نفس السياق الاجتماعي ويتعرض لما تعرض له.ولعل الفترة العثمانية دالة بقوة لما سبق حيث يذكر المؤرخون كيف أن ” الأقباط بالاشتراك مع كل المصريين كانوا يعانوا من الكوارث والفقر،إنها ” إرهاصات التحرك على المستوى القاعدي الذي وفر قدرا من التضامن الاجتماعي بين المحكومين قاعديا(أو المواطنة/ حركة الناس على المستوى القاعدي حيث جمعهما الظلم والمعاناة ) وبخاصة أن المعاناة لم تفرق بين مصري أو آخر ، فالتوافق الديني بين الحاكم وجانب من المحكومين لم يعط أي ميزة إضافية لهؤلاء المحكومين ، فالجميع وبخاصة الفقراء كان عليهم دفع المال وتلبية احتياجات الحكم العثماني ثلاثي العناصر (الوالي – المماليك – الأوجاقات) الذي كان هم كل عنصر فيه هو جمع المال ما جعل البلد فريسة لثلاث جهات ضريبية بدلاً من واحدة ” iii. وفي نفس الوقت على الجانب الآخر،على سبيل المثال، نجد بناء الكنائس يخضع لمزاج الحاكم قبل الفقه فمتى كان الحاكم منفتحا أو بلغة أخرى معنيا بتقدم المجتمع نجد مسألة بناء الكنائس متاحة بغير معوقات والعكس صحيح.

(ج)
عن مسيرة المواطنة منذ محمد على (1805 )،
وعن مسألة الحكم

أما بعد تأسيس الدولة الحديثة فقد سارت الجماعة الوطنية في مسار آخر مع تكون جيش وطني للمرة الأولى في تاريخ البلاد، كذلك تملك المصريين الأراضي، حيث بدأت ما يمكن أن نطلق عليه حركة المواطنة المصرية.والقارئ للتاريخ يمكنه أن يلحظ كيف تواكبت لحظات النهوض الوطني مع قدرة المواطن المصري على أن يمارس المواطنة والعكس صحيح. ففي لحظات الانتكاسة تتراجع المواطنة. ويمكننا أن نرصد حركة “المواطنة” في مصر الحديثة والمعاصرة، صعوداً أو هبوطاً كذلك ارتباط حركة المواطنين هذه بالموقف من المحتل الأجنبي، لذا فإن التحرك نحو المواطنة في مصر كان حصيلة تفاعلات داخلية من جهة ومحاولة لإنجاز الاستقلال الوطني من جهة أخرى.

وسوف نتتبع هذه المسيرة من خلال تقسيم التاريخ إلى خمس مراحل وذلك كما يلي:
أولاً: مرحلة بزوغ المواطنة – إقرارها من فوق (محمد علي)
ثانياً: مرحلة تبلور المواطنة – الالتفاف القاعدي حول المواطنة (ثورة 1919)
ثالثاُ: مرحلة ابتسار المواطنة – الاقتصار على البعد الاجتماعي للمواطنة (1952 – 1970).
رابعاً: مرحلة تغييب المواطنة – تديين الحركة السياسي
إضفاء المقدس على المجال العام (1970 – 1981).
خامساً : مرحلة محاولة استعادة المسار الطبيعي للمواطنة (1981 – )

ويلخص الجدول التالي ملامح كل مرحلة وذلك كما يلي:

مسيرة المواطنة في القرنين الأخيرين في مصر
بزوغ المواطنة تبلور المواطنة المواطنة المبتسرة(1952–1970) المواطنة المغيبة(1971-1981) محاولة استعادة المواطنة(1981 – )
* جيش وطني،
* المصريون يتملكون،
* البدء في تذويب الانتماءات الفرعية،
* الوعاء الجامع الوطني،
* مضمون جماهيري ،
* إجماع وطني،
* إرهاصة اندماج بغير تمييز،
* تقاليد دستورية،
* طبقات صاعدة،
* المواطنة في بعدها الاجتماعي،
* حضور للشرائح الوسطى والدنيا،
* إهمال الجانبين السياسي والمدني.
* عودة للانتماءات الأولية،
* إقصاء للتيارات المدنية،
* الديني محل المدني.
* إعادة النظر في الوضع القانوني للأقباط،
* انفراجة مدنية،
* إقرار مبدأ المواطنة دستوريا،
* الفجوة بين النص والواقع،
* الحاجة إلى التفعيل،
* إشكالية المدني والمقدس،

شكل رقم(1)

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المسيرة كانت تضم كل المصريين دون استثناء. وإذا كان تحركها البارز واللافت بدأ مع مطلع القرن التاسع عشر ، فإن هذا لا يعنى أنه لم تكن هناك وكان المصريون مستبعدون تماما من الجيش الذي يمثل النموذج الوطني للانصهار بين مكونات الجماعة الوطنية، ومع محمد على تأسس الجيش الوطني من المصريين المسلمين أولا ثم تبعهم الأقباط.
ويكشف لنا الجدول السابق، كيف أن الجماعة الوطنية نجحت في الاقتراب من المواطنة بأبعادها:الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية حيث عز تحقيقها كاملة بأبعادها في وقت واحد بمقدار ما كانت تتوفر الظروف والشروط المجتمعية. ، بدرجة أو أخرى.
فالمواطنة، يتوقف تحقيقها إلى حد كبير على ظروف الواقع المجتمعي وعلى مدى قدرة البناء السياسي (الدولة / المجتمع المدني) على الاستجابة للبناء الاقتصادي – الاجتماعي السائد. فكلما كان البناء السياسي متسقاً مع البناء الاقتصادي – الاجتماعي، كلما ارتبط ذلك بقدرة المواطن على ممارسة المواطنة. وفي المقابل إذا شهد التطور التاريخي عدم توافق بين البنائين فإن ذلك يعوق من حركة المواطنين لتحقيق المواطنة أو التغيير المطلوب.

في هذا السياق ونظرا للحضور القبطي في المجالين المدني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي من جانب، وللمشاركة في النضال المصري ضد الاستعمار، لم ينشغل الفقه في أي محاولة لتفسير أو تبرير هذا الحضور أو هذه المشاركة. وعليه وجدنا كتابات الشيوخ حسن العطار و الطهطاوي والأفغاني والإمام محمد عبده على التوالي تعكس الخبرة المصرية للإسلام بفقه واجتهادات سقفها عالي،وسياقها الدولة الوطنية. فلقد كانت الحياة المشتركة بايجابياتها وسلبياتها و النضال المشترك والمعاناة الممتدة عبر قرون من قبل الحاكم الوافد والمحتل والواقع المجتمعي المتخلف، سببا لأن يتحرك الجميع من أجل الوطن بغير تساؤل حول شرعية أو مشروعية ذلك التحرك وحدوده. وهكذا سارت حركة الجماعة الوطنية منذ تأسيس مجلس شورى النواب في 1866، وبلوغ ذروة هامة في تاريخ مصر هي ثورة 1919
ونشير هنا إلى دور المجددين الإسلاميين في مطلع القرن العشرين في تمهيد الطريق لدعم الدولة الحديثة القادرة على استيعاب مكوناتها من خلال ثلاثة محددات وذلك كما يلي:

طبيعة السلطة السياسية،
المجال العام،
دين الدولة.

أولا: طبيعة السلطة السياسية:

كان الموقف من طبيعة السلطة السياسية محسوما من قبل كل القوى الوطنية في مصر، من واقع الخبرة على أرض الواقع، ومن واقع التطور الفقهي الذي اختبرته مصر. فلقد كان الإمام محمد عبده رافضا أن يكون نصيرا لقيام سلطة دينية في المجتمع بأي وجه من الوجوه وفي هذا المقام كان يقول:

” إنه ليس في الإسلام سلطة دينية،سوى سلطة الموعظة الحسنة..وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها..وأن الحاكم مدني من جميع الوجوه.iv
ثانيا :أما عن المجال العام:

لقد كان المجال العام مجالا للقاء المصريين دون تمييز،حيث اتسم بأنه زمني / نسبي / مدني السمات لا يمكن وصفه بأنه “ثيوكراتيك” v(أي ديني) بحسب الإمام محمد عبده. ولا ينفي الإمام وجود السلطان الديني والسلطة الدينية عن القيادة السياسية العليا للمجتمع فحسب،بل وينفي اعتراف الإسلام بها أو إقراره لها بالنسبة لأية مؤسسة من المؤسسات التي تمارس سلطة من السلطات . ويقول الإمام:”إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام،وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قدرها الشرع الإسلامي،ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد،أو عبادته لربه،أو ينازعه في طريقة نظره”.vi
في هذا السياق يأتي الموقف من الأحزاب وضرورة أن تكون مدنية ،وتأتي صياغته لبرنامج الحزب الوطني المصري سنة 1881لتؤكد هذا التوجه.ففي المادة الخامسة من هذا البرنامج يقول:”الحزب الوطني حزب سياسي، لا ديني، (أي ليس حزبا دينيا..وليس بمعنى أنه ضد الدين، تعليق د.محمد عمارة في الجزء الأول من الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، ص 109)، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات…وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر.”vii.

ثالثا : أما عن الموقف من الدين

يمكن القول أن الدين كان من أجل الوطن وليس من أجل السياسة،ومثلت ثورة 1919 ودستورها حالة إدماجية،أنتجت صيغة تلاقي بين الحداثة والتحديث،وبين المسلمين والمسيحيين،وبين الوطن/الوطنية الدين/التدين ، وتفاعل الفقه مع حركة الواقع،ونتج عنه،إن جاز التعبير، ” فقها وطنيا “بامتياز خطابه إصلاحي مدني. لقد وثق المصريون بأنفسهم بحسب،أستاذنا طارق البشري،ومن ابتعاد حركتهم من شبهة الخلاف الطائفي،وبدوا مسيطرين على موقفهم تماما …وبدوا فرحين واثقين كانسان وجد نفسه viii.

صفوة القول أن مصر استقبلت القرن العشرين بغير خصومة بين المقدس والزمني،
فلقد كانت طبيعة السلطة السياسية “مدنية،
والمجال العام والسياسي/المدني غير مقدس،
والدين كان من أجل الوطن.

ويعكس شكل (2) ملخص للواقع السياسي لمصر مطلع القرن العشرين، كما يعكس الشكل (3) تصورا للباحث حول أن مصر في هذه الفترة استطاعت أن تدفع نحو تحقق المواطنة بعض الشيء بغير خصومة بين المقدس والزمني وهي في ظن الباحث التعبير الطبيعي للخبرة المصرية.

شكل (2)

شكل (3)
بيد أنه ولأسباب عدة يضيق المقام بذكرها خضعت المحددات الثلاث السابق ذكرها للمراجعة والتمحيص بداية مع كتابات الإمام محمد رشيد رضا ثم مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين.ومن ضمن ما خضع للمراجعة هو غير المسلمين. بيد أنه ولاعتبارات النضال الوطني من جهة ، والمرحلة الناصرية بتجلياتها الثورية والتقدمية من جهة أخرى أجلت الحديث الواضح والمكشوف حول قضايا غير المسلمين في مصر إلى ما بعد 1967، وبدء ظهور الجماعات الجهادية على أرض الواقع.
وبإلاضافة إلى خطاب المجددين الذي تبلور مع مطلع القرن العشرين،ويعد تعبيرا للخبرة الإسلامية المصرية، وورثته،تعددت الاتجاهات الإسلامية ومن ثن الخطابات التي تناولت من ضمن ما تناولت الموقف من الأقباط.
وقد حددنا هذه الاتجاهات كما يلي:

الإسلام السياسي: الإخوان،
الجماعة الإسلامية والجهاد،
الاجتهاديون،

الصوفيون،

الدعويون: السلفيون،
الدعاة الجدد.

ويوجز الشكل رقم (4)، خريطة أولية للاتجاهات الإسلامية المتعددة والتي سوف نتتبع خطابات بعضها فيما يتعلق بموقفها من غير المسلمين.
ولكن قبل ذلك سوف نرصد للسياق الذي ظهرت فيه قضايا غير المسلمين بشكل واضح حيث نصنفها ونعددها ثم نرصد كيف تعاملت معها أهم الاتجاهات الإسلامية بحسب الخريطة الأولية التالية.

شكل رقم (4)

(د)

عن قضايا المواطنين غير المسلمين
في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة

مع نهاية الستينيات،عرفت مصر والمنطقة صعودا بارزا للإسلام السياسي بجناحيه الغير عنفي والعنفي،الذي سعى إلى العودة إلى الإسلام باعتباره ،من وجهة نظره نسقا كليا يتضمن انساقا فرعية عديدة (اقتصادية وقانونية وسياسية وقيمية وثقافية) ix. وعمل الإسلام السياسي إلى هدف محدد منذ صعوده ألا وهو تأسيس الدولة الإسلامية الصحيحة،حيث تراوح موقف الإسلام السياسي بين عدم شرعية الأنساق القائمة بحسب الجناح الغير العنفي،و تكفير هذه الأنساق بحسب الجناح العنفي. وتوافق مع هذا الصعود أن أعيد النظر في الوضع القانوني للأقباط،وتوالت أحداث التوتر الديني،وتكررت أعمال العنف ضد غير المسلمين،وهي المرحلة التي وصفناها في قراءتنا التاريخية بمرحلة تغييب المواطنة وهي المرحلة التي شهدت بروز قضايا الأقباط بشكل غير مسبوق منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر.
وهنا بدأ ملف الشأن القبطي من ضمن كثير من الملفات يبرز على سطح الحياة السياسية والفكرية في مصر منذ السبعينات، وهى الفترة التي عرفت تاريخيا”بحقبة التوترات والاحتكاكات الطائفية” x، تم ذلك في سياق صحوة دينية إسلامية شملت مصر والمنطقة، يبدو أنه بدلا من أن تؤدى إلى دعم الإندماج على قاعدة المواطنة بين المصريين واستكمال مسيرة الحركة الوطنية على أرض الواقع والتي شارك فيها كل المصريين من مسلمين ومسيحيين من دون تميز، أدت هذه الصحوة إلى تزايد الشعور بالذات في مواجهة الآخرين والى الرغبة في إبراز أوجه التمايز عنهم – كما يشير أحد الباحثين- مما خلق مناخا من الريبة والشك والقلق.
ومع مرور الوقت،وضح وبحسب كثير من المراجعات النقدية التي تمت في نهاية الثمانينيات للإسلام السياسي، وفي القلب منها جماعة الإخوان، نجدها وقد أجمعت على أن الإسلام السياسي قد حمل أثناء صعوده حملا مزدوجا ؛ الحمل التاريخي من جانب،وحمل الانفتاح على الواقع بما يتضمن من مستجدات ومحاولة الإجابة على العديد من التساؤلات من عينة :
1. الموقف من التراث والذاكرة التاريخية 0 2. الموقف من الواقع بتعقيداته 0
3. التعددية السياسية 0 4. حدود الدعوي – الديني والمدني – السياسي 0
5. الموقف من المرأة. 6. الموقف من غير المسلمين 0

وربما يكون تأخر الإسلام السياسي في تقديم الإجابات المناسبة من هذه القضايا إنما يعود إلى تقديم السياسة على الاجتهاد أو أولية الحركة على الفكر، أخذا في الاعتبار الملاحظات التي طرحت (من خلال الأدبيات الإسلامية ) والتي نوجزها في الآتي:
* عدم قدرة الإسلام السياسي أن يستوعب ما سبقه من رؤى تجديد وانفتاح على الحركة الوطنية من جانب، ومنع ظهور الرؤى الأكثر تشددا من جانب آخر.
* عدم التمييز بين الدعوي والسياسي وأثر ذلك على المجال العام كحيز للقاء المختلفين بالأساس وليس المتماثلين .
*التراوح في القبول بالتعددية .
*الاستغراق والاستدراج في صراع ممتد مع النظام السياسي على مدى أكثر من 50 سنة وأثر ذلك على التعامل مع الشأن القبطي.
* الموقف الفقهي من غير المسلمين. xi

في هذا السياق تعددت القضايا والهموم والتي قمنا برصدها منذ وقت مبكر xii وفق منهجية تحرص على التمييز بين القضايا/الهموم ذات الطابع الديني والتي تؤثر على الأقباط في حركتهم في المجال الخاص Private Area  وهو المجال الذي يتحرك فيه المتماثلون في المعتقد أو ..الخ،وبين القضايا/ الهموم ذات الطابع المدني والتي يتعرض لها الأقباط أثناء حركتهم في المجالين العام والسياسي Political & Public Area  ،حيث يلتقي المختلفين وتتشكل بينهم تكافلات بحسب المهنة والاتجاه والنشاط النوعي. فالهموم التي يتعرض لها الأقباط ذات الطابع الديني يمكن أن يتكلف بها الكيان الديني لحلها لأنها تقع في سياق اختصاصاته،بينما الهموم التي تقع على الأقباط أثناء حركتهم في المجالين العام والسياسي فإنها يجب أن تتم مواجهتها من خلال الآليات والقنوات المدنية والسياسية شأنهم شأن باقي المواطنين الذين يعيشون على أرض مصر.
ويتسق هذا التصنيف مع حرصنا على أن نميز بين التعامل مع الأقباط كونهم جماعة دينية/ طائفة /ملة Religious Group / Sectوبين كونهم أقلية دينية لها مطالب سياسية Political Group / Minority Group. فالأقباط مواطنون لهم حق المواطنة الكاملة تتقاطع همومهم مع آخرين وخاصة في المجالين العام والسياسي.
ويلخص الجدول رقم (2) القضايا الدينية والمدنية التي يتعرض لها غير المسلمين في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية.

القضايا /الهموم الدينية القضايا / الهموم المدنية
1. بناء الكنائس. 1.التوتر الديني.
2. الأوقاف. 2.إضفاء المقدس على المجال العام / السياسي (تديين الحركة السياسية).
3. الحرية الدينية. 3.التراجع التاريخي عن المواطنة.
4.التشكيك في العقيدة الدينية. 4.الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص .

جدول رقم(2)

أولا: القضايا /الهموم الدينية

(1) بناء الكنائس:

منذ حادث حرق كنيسة الخانكة في نوفمبر 1972،لم ينقطع الحديث عن قضية بناء الكنائس في مصر. وعلى الرغم من أن المادة 46 من الدستور الحالي تنص على :
” تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”،
إلا أنه لا يوجد قانون منظم لبناء الكنائس،كما أن هناك أسطورة تسمى الخط الهمايوني يتصور الغالبية انه قانون منظم لهذا الأمر وهو أمر غير صحيح حيث يستدعيه كثيرون منهم قانونيون كسند يحال إليه فيما يتعلق ببناء الكنائس. والمفارقة أنه في القرارات الرسمية:الملكية ثم الجمهورية حول تصاريح بناء الكنائس تستند في ديباجتها إلى القانون رقم 15 لسنة 1927، وهو وهنا مفارقة أخرى خاص بتعيين الرؤساء الدينيين وتنظيم المعاهد الدينية.xiii ويشار في هذا المجال إلى أن هناك قرارات جمهورية متتالية قد صدرت، للتيسير في منح تصاريح للتعامل مع ما هو قائم من كنائس. بيد أنه لم تزل هناك مشكلات فقهية وعملية تجعل من هذا الأمر قضية غير محسومة.

(2) الأوقاف.

الأوقاف هي مجموعة من الأراضي والعقارات التي أوقفها أثرياء الأقباط للكنيسة من أجل الصرف على الخدمات الاجتماعية.ولأسباب تاريخية تعود لعصور سابقة وضعت الدولة يدها على هذه الأوقاف.وصارت هذه القضية مع الوقت من القضايا المثارة،إلى أن جاء الوزير محمود زقزوق(وزير الأوقاف) وقرر القرار رقم 133(أ) لسنة 1996،الذي تضمن تشكيل لجنة مشتركة بين قيادات الكنيسة القبطية ووزارة الأوقاف،لدراسة هذه المشكلة وتم استعادة أكثر من نصف الأوقاف إلى الكنيسة.

(3) حرية العقيدة.

منذ أعوام،أصبحت قضية “التحول الديني” مادة شبه أساسية في الإعلام بتقنياته المتعددة،وإذا كان للإعلام فائدة من حيث طرح قضايا حقيقية تترتب على التحول الديني(من وإلى الإسلام والمسيحية)،كان مسكوت عنها،بيد أن طرح المسألة للنقاش العام بين الناس عبر الإعلام قد حولته إلى نوع من السجال الذي يدفع نحو المزيد من الاحتقان،ويحول دون مناقشة القضايا الحقيقية،في ظل توتر ديني ممتد عبر أربعة عقود.
ويزيد من درجة الاحتقان هو وجود ما أسميه “ثقافة اجتماعية مانعة” للحرية الدينية، تفاقم من الإشكاليات الخاصة بموضوع التحول الديني،وهو ما ظهر بشكل واضح في ردود الفعل الشعبية الحادة حول ما تم عرضه من حالات،بل وربما أيضا طالت الحدة بعض من رجال الدين مما جعلهم ينحازون إلى الآراء المتشددة فيما يتعلق بالحرية الدينية،على الرغم من أن الفقه المصري قد وصل إلى اجتهادات راقية في هذا المقام على يد الشيخ محمود شلتوت في كتابه الإسلام شريعة وعقيدة، والدكتور عبد المتعال الصعيدي في كتابه الحرية الدينية في الإسلام،تتناسب والسياق المصري. ولكن كما قلت فان التوتر الممتد عبر عقود لأسباب شرحناها مرارا وتكرارا نميل في دراستنا ومنهجنا إلى أنها تعود للسياق المجتمعي العام، قد ساهمت في أن يسود المزاج المتشدد من جهة، وأن يهيمن السجال والنزال من جهة ثانية،وأن تحدث الكثير من الحالات الغامضة من اختفاء لفتيات وسيدات بدت وكأن هناك مخططا ضد المسيحيين من جهة ثالثة يؤججها التباطؤ في تقديم الحلول.
حدث ما سبق في إطار ظرف دولي يتبنى التدخل الدولي،حيث صدر القانون الأمريكي للحرية الدينية والذي بموجب المادة 107 قد أتاح لمجموعات وافدة أن تبشر،ومن المعروف أن الأقباط هم أول من أضيروا من التبشير تاريخيا،ولم يزلوا يتعرضون له من قبل مجموعات تدخل مصر تحت مظلة هذا القانون (وهو ما شرحناه تفصيلا في كتابنا الحماية والعقاب:الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط وحذرنا من تداعياته) 

(4) التشكيك في العقيدة الدينية:

تعد العقيدة الدينية بالنسبة للمصري من الأمور العزيزة على نفسه وقلبه ووجدانه، وبالتالي فإن التطاول أو التجريح الذي يمس معتقد المصري الديني إنما يسبب له ألما شديدا. لذا صارت محاولات التشكيك المبكرة في العقيدة الدينية بالنسبة للأقباط من قبل البعض أمرا ساهم في تأجيج التوتر الديني منذ نهاية السبعينيات، خاصة وأن العقيدة الدينية للمصريين من مسلمين ومسيحيين كانت في الأغلب الأعم خارج النقاش على مدى التاريخ. ويمكن هنا أن نشير إلى كلمة هامة للأستاذ فهمي هويدي يقول فيها:”اسمحوا لنا أن نسجل اعتراضا صريحا على ما يصدر من بعض الدعاة الإسلاميين من مقولات تمس الأقباط وتنال من عقائدهم.فمبلغ علمنا أن ذلك ليس من تعاليم الإسلام ولا من أدبه. فضلا عن إننا لا نتصوره من مقتضى حسن الخطاب أو الغيرة على الدين الذي باسمه ترتكب حماقات بغير حصر في زماننا،لا نكاد نجتاز واحدة حتى ندفع إلى أخرى،واسمحوا لنا بأن تقرر أيضا أن مقولات هؤلاء مهما حسنت نواياهم تفتح الباب لمفاسد ثلاث على الأقل.كل منها أسوأ من الأخرى،
فمتى تهدم علاقة البر والقسط التي دعا القرآن الكريم إلى إقامتها مع غير المسلمين،وهي تنسف وحدة الوطن وتمزق شمله،وهي مفسدة يذكرها العقل ويؤيدها النقل،…
وهي تجرح وجه الإسلام ذاته،
وتشوه مشروعه الحضاري الذي نزعم جادين بأنه قادر على صياغة حاضر الأمة ومستقبلها،في ظل تنوع مكوناتها الدينية والسياسية.
وفي مقابل هذه المفاسد، فإننا لا نكاد نرى مصلحة واحدة، إيمانية أو عملية، سيحققها هذا المسلك، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن قتل الدبة لصاحبها في القصة الشهيرة خدم القتيل [خدمة ] لم يبلغنا نبؤها بعد” xiv.
ولكي نكون منصفين فأننا نشير هنا إلى انه مع تزايد حدة التوتر الديني والتأخير في معالجته من كل الأطراف كذلك مع التطور التقني في مجال الإعلام دفع بالرد على التشكيك بتشكيك مضاد ،وهي الظاهرة التي وصفناها “بالسجال الديني”،وهو ما سوف نفصله لاحقا.
ثانيا: القضايا / الهموم المدنية

(1) مناخ التوتر الديني

تشهد مصر منذ العام 1970 (سنة أول حادثة توتر ديني والمعروفة باسم حادثة أخميم وقد سبقت حادثة الخانكة بعامين) أحداث توتر ديني متتالية…ويمكن القول أننا فشلنا على مدى أربعة عقود في التعامل مع التوتر الديني المتكرر..الأكثر من ذلك فإن الأدوات والأساليب التي كنا نستخدمها في محاولة علاج التوتر شابها التراجع..فبعد أن كان اللجوء إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق كوسيلة لمعرفة دقائق ما حدث لجنة العطيفي 1972 والاحتكام إلى القضاء الطبيعي باعتبارهما من الآليات التي تعبر عن الدولة الحديثة.. بتنا نلجأ إلى جلسات العرب والاحتكام إلى القضاء العرفي الذي هو عودة بمصر إلى ما قبل الدولة الحديثة..ومما ساهم في تكرر أحداث التوتر الديني هو التحولات النوعية التي طرأت عليها..كيف؟

مرت أحداث التوتر الديني في مصر بأربع مراحل ساهمت في تعقدها ووصولنا لما نحن عليه الآن وذلك كما يلي:
المرحلة العنفية ؛ من قبل جماعات العنف الديني تجاه الأقباط ،
مرحلة الاحتقان ؛ حيث تتحول أية واقعة جنائية يكون أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحي إلى واقعة دينية،
مرحلة السجال الديني ،
مرحلة التناحر القاعدي، حيث تحدث مواجهات بين المسلمين والمسيحيين لأسباب عديدة:بناء كنيسة، تحول ديني،…

العنف المادي الاحتقان السجال الديني التناحر القاعدي
مراحل التوتر الديني في مصر (1970 ـ )

جدول رقم (3)
وتكون لدى كل طرف ذاكرة خاصة من ظلم الآخر له : المسيحيون لديهم شعورا بأنهم تحملوا الكثير على مدى زمني من الهجمات المتتالية لجماعات العنف من اعتداءات على الكنائس وقتل للأقباط وهم يصلون و تهديدهم لترك أراضيهم في صعيد مصر… أما المسلمون فلديهم مرارة منذ واقعة السيدة التي أسلمت ثم تراجعت عن ذلك وأن هناك محاولة للتقليل من الإسلام..

المحصلة أن:
طرفي هذه الحركة وبخاصة في الشرائح الوسطى والدنيا من الجسم الاجتماعي في حالة من الاحتقان مما دفع بكل طرف إلى بناء قوة ذاتية دينية الطابع بحيث يستخدم ما يمكن أن نطلق عليه:
” فائض القوة الدينية “؛

(2) إضفاء المقدس على المجال العام / السياسي (تديين الحركة السياسية).

وأقصد به تحول العمل العام السياسي والاجتماعي إلى عمل ديني يصبح بموجبه التنافس في هذا المجال / الشأن بين أسلام و مسلمين وغير مسلمين وليس بين تيارات وتوجهات وأفكار متنوعة قابلة للاختلاف. فرفع شعار الإسلام هو الحل جعل من مجال مدني الطابع أن يصبح دينيا ويجعل التنافس السياسي والمدني تنافسا مع مطلق وهو ما يحمل ضمننا أعادة تقسيم المجال العام على أساس ديني ومن ثم يصبح الأقباط بالنتيجة كتلة دينية طائفية 0ان إضفاء” المقدس” أو “الديني” على الشأن العام كبديل السياسي والمدني يمثل إشكالية لابد من التعامل معها إشكالية الديني والمدني وحدود كل منهما. وعليه باتت حركة الأفراد في المجال العام / السياسي مصنفة على أساس ديني ، فأصبح هناك : بيزنس قبطي وبيزنس مسلم،وكتلة نيابية قبطية وأخرى إسلامية،وكتاب أقباط وكتاب مسلمين وهكذا..

(3) التراجع التاريخي عن المواطنة.

حيث بدأ الحديث عن أهل الذمة، وأن الحل الناجع لقضايا غير المسلمين هو باستعادة نظام الملة، وهو النظام الذي لم تعرفه مصر بشكله الذي كان مطبقا به في الشام إبان الفترة العثمانية.ولم يلتفت إلى المسيرة المشتركة بين المصريين في محاولة بلوغ المواطنة،والتي بدأتها الجماعة الوطنية المصرية بغير خصومة مع الدين.

(4) الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص في الحياة العامة.

واقصد بها حدود الشريعة في إطلاق المساواة في كل أمور الدنيا أو بتعبير أخر للمواطنة وما تنطوي علية من حقوق وواجبات واقتسام موارد لغير المسلمين.وهنا لابد من الإشارة إلى ما يتعلق بقضايا مثل :تقلد المناصب العامة ، وحدود الفهم العملي والتطبيقي لمفهوم الولاية 0وفى هذا المقام من الأمانة أن أشير إلى ما هو متواتر أن هناك تصورا لدى البعض في الجماعة بعدم التسليم بالمساواة الكاملة انطلاقا من أن الإسلام لا يرتب لأهل الكتاب غير الحماية وحرية الاعتقاد والممارسة الدينية والرحمة في مقابل أدائهم للجزية .

(ه)

عن الخطابات الإسلامية حول قضايا غير المسلمين.

في ضوء الخريطة الأولية للاتجاهات الإسلامية التي وضعناها في هذه الورقة، يمكن القول أن تيار المجددين نجح في أن يعبر عن الخبرة المصرية للإسلام مستوعبة المنظومات الفقهية الإسلامية من جهة، وفاعلة فيها من جهة أخرى xv . لقد كان ما قدمه الفقهاء قبل منتصف القرن الثاني الهجري فيما يتصل بغير المسلمين ” لا يعدو شذرات متناثرة. والواقع أن صياغة منظومة للعلاقات الاجتماعية من الناحية الفقهية كانت تحتاج إلى وضوح نظري في البداية في مسألة صلة الإسلام بالشرائع الأخرى،…ونجد هذا التنظير أول ما نجده عند أبي حنيفة(150ه)، وذلك في رسالته العالم والمتعلم..”xvi ،ويعود ذلك أن الإسلام كان يواجه بأوضاع مختلفة في كل مكان امتد إليه،وعليه كثرت الاختلافات بين الفقهاء حول كثير من القضايا.بيد أن المستقر هو أنهم ماداموا” جزءا في المجتمع أن يكون لهم التمتع بخيراته شأنهم في ذلك شأن الفئات الاجتماعية الأخرى إذ”.. الناس(بحسب أبي عبيد في الأموال شركاء في ثلاث :الماء والكلا والنار” xvii .
في هذا السياق يقول رضوان السيد بعد أن يستعرض الآراء الفقهية المختلفة حول غير المسلمين:”..لاشك أن النظرة المتكاملة للموضوع تتطلب مراقبة المسألة من أربعة جوانب:جانب البداية التاريخية، وجانب الفقه الإسلامي، وجانب التعامل السلطوي، وجانب التعامل الشعبي..” ففي ضوء هذه الجوانب يمكن القول أنه لم تكن هماك خطة عامة للتعامل مع غير المسلمين منذ البدء.ومن المعلوم أن المجتمعات الإسلامية الوسيطة لم تكن مجتمعات اندماجية بل كانت مجتمعات عصبيات” xviii،وهنا كان الاختلاف الذي جعل من كل حالة لها خصوصيتها،فكانت الحالة المصرية بتعقيداتها كدولة ضاربة في القدم،الأمر الذي مكن الفقهاء في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين أن يستجيبوا للتحديث والحداثة بدرجة أو أخرى.
ومع التطور السياسي لمصر ظهر إلى جانب التيار الرئيسي للخبرة المصرية للإسلام العديد من الاتجاهات كانت له خطابات مغايرة حول غير المسلمين، نرصدها (بشكل بانورامي)على التوالي بحسب الخريطة المقترحة من قبل في هذه الورقة،حيث نتعرض:
أولا: للإسلام السياسي بجناحيه،
ثانيا: السلفيون،
ثالثا:المجتهدون،
(أ) الإسلام السياسي:

أولا: الإخوان المسلمين:
يقول الأستاذ حسن البنا في الرسائل نصا:
“لا بأس من الاستعانة بغير المسلمين عند الضرورة وفي غير مناصب الولاية العامة “xix،
يكشف النص عن أن إسلامية الحكومة لا تستوعب سوي المسلمين في الأحوال العادية، وتتسع لتشمل غير المسلم عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة. ويعني ذلك ” أن حضور غير المسلم في الحكومة الإسلامية مؤقت، استدعائي، يغلب عليه الاحتياج أكثر ما يجسد الحق الأصيل في المشاركة في السلطة. هذه النظرة تعبر عن “ذمية مستبطنة” إن صح التعبير، ولا يمكن تبريرها بالعودة إلي ظروف المرحلة التي ظهرت فيها هذه الآراء. المعروف أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت عام 1928م، أي بعد ثورة 1919م، وصدور دستور 1923م، وهو الذي شهد الولادة الحقيقية للمواطنة، وخطي خطوات متقدمة علي طريق بناء الدولة الحديثة التي تستند إلي المساواة والحريات. إذن هذا النص جاء مجافيا لما استقرت عليه الجماعة الوطنية، ويعيد إنتاج ثقافة دينية تقليدية لم يعد لها مكان في حركة المجتمع، بعد أن تجاوزها النضال المشترك للجماعة الوطنية، بمسلميها وأقباطها.”xx
و الدولة بهذا المعنى في نظر الإخوان “إسلامية” ومن ثم لا تعطي وظائف الولايات العامة إلا إلي المسلمين فقط. وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب تطلق “الولاية العامة في اصطلاح الفقهاء علي جميع أنواع السلطة التي تمارسها الدولة. أو الخليفة، أو أي من الأمراء والولاة والحكام”xxi. يعني ذلك أن الولاية العامة تنسحب علي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبالأخص الأخيرة التي لها وضع خاص في النظام الإسلامي
ويؤكد الشيخ عبد الله الخطيب الاقتباس الوارد أعلاه من رسائل الإمام حسن البنا حول الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة فقط بقوله “في حالة وجود الدولة الإسلامية القوية، والكفاءات الإسلامية، لا يستعان أبدا بهؤلاء (غير المسلمين)، وفي حالة الضعف أو الشدائد يمكن الاستعانة بهم في أضيق الحدود، وفي ضوابط معينة، فلا يجوز مثلا أن يكون لهم تدخل في نظام الدولة، أو يفرضوا فكرا معينا أو رأيا يناهض الإسلام….”xxii
لقد تراوح الموقف الإخواني من غير المسلمين حسب اللحظة التاريخية،والبيئة السياسية التي يتحركون فيها،من جانب،كذلك غلبة الاتجاه المحافظ في الأغلب الأعم من جانب آخر،بالرغم من كثير من عبارات التطمين الشفاهية، والاقتراب من الأخذ بمبدأ المواطنة إلا أنها لم ترق إلى حسم هذه المسألة بشكل واضح.

وهنا نرصد الآتي:
* مشروع الإخوان الدستوري الذي قاموا بتقديمه في العام 1952،وصاغه الدكتور طه بدوي،وقدمته الشعبة القانونية لجماعة الإخوان آنذاك xxiii وجاء فيه :
“إعلاء لفكرة الدولة القومية الحديثة التي تستند إلى تنظيمات سياسية وقانونية،
لم يضع حظرا على تولي المناصب أو شروطا تفرق بين المصريين،
التزم استخدام تعبيرات من نوعية أحكام الإسلام،….”
* وفي العام 1995،نشر المستشار الهضيبي مشروع ميثاق وطني استلهم بنوده من دستور 1952بيد أنه مال إلى التشدد وبخاصة في مجال الحريات،ووضع قيدا على منصب الولاية العامة، وقد جاء برنامج الإخوان الحزبيxxiv يحمل هذه الروحية بالرغم من بعض الملاحظات الإيجابية التي لاحظناها إلا أن بعض الالتباس لم يزل متوفراxxv.
وعلى الرغم مما سبق فان هناك بعض الملاحظات كنا قد طرحناها في حوار دعى إليه مركز سواسية عقب انتخابات 2005 حيث كلف صاحب هذه السطور بإعداد ورقة حول مخاوف الأقباط من الصعود السياسي للإخوان وقد حددنا هذه المخاوف في خمس إشكاليات لم يزل بعضها غير محسوما مثل حدود “العلاقة بين الدعوي والسياسي “وحركته في المجال العام،وغيرها. كما أن مسألة بناء الكنائس والحرية الدينية تثير كثير من التساؤلات من حيث حدود هذه الحرية والتمكين من إقامة الشعائر الدينية،الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من الاجتهاد خاصة وأن لم تزل هناك اتجاهات معتبرة داخل الإخوان تقول فيما يخص بناء الكنائس مثلا(راجع فتوى بناء الكنائس بمجلة الدعوة يونيو 1980):
“.. الشرع لا يجيز بناء الكنائس في المواقع التي استحدثت ،
وفى البلاد التي فتحت بالقوة ،
ولا يبيح إلا بقاء الكنائس في البلاد التي فتحت صلحا ومنع بناء
وإعادة ما هدم منها 0
ثانيا: الجماعة الإسلامية والجهاد:
(1) الجماعة الإسلامية:

ورد في المراجعات حول نصارى مصر ما يلي:
يقول البعض”إن نصارى مصر محاربون، وذلك أنهم لا يدفعون الجزية ولأن عهد الذمة تكون الجزية ركنا هاما فيه فان العقد يكون منتقضا، والنصارى هنا يكونون ناقضي العهد.فما هو رأيكم؟
وكانت الإجابة كما يلي:
“عقد الذمة تكون الجزية ركنا أساسيا فيه في بعض الأحوال،وإلا فإن نصارى تغلب قد عقد لهم الفاروق عمر عقدا اضعف عليهم فيه الصدقة ولم يذكر جزية،أما نصارى مصر فأنهم لم يمتنعوا عن دفع الجزية،بل أنهم ظلوا يدفعونها إلى أن أسقطها سعيد والي مصر عنهم لما قرر إدخالهم الجيش ومشاركتهم في الدفاع عن البلاد.واستند في فعله إلى فتوى لبعض المتأخرين بأن أهل الكتاب إذا اشتركوا في الدفاع عن بلاد الإسلام سقطت عنهم الجزية ،لأن الجزية إنما أخذت منهم نظير دفاع المسلمين عنهم،وأن أبا عبيدة قد رد الجزية لبعض نصارى الشام لما أضطر إلى الانسحاب من مدينتهم ولم يدافع عنهم،وهو وجه مقبول في فتوى لبعض المتأخرين.إذن هم لم يمتنعوا عن أدائها بغض النظر عن صحة هذه الفتوى أو عدم صحتها حتى يوصفوا بأنهم نقضوا العهد.وإنما الذي ألغاها هو حاكم البلاد، ورفض أخذها منهم، وإنهم إلى هذا العهد كانوا يدفعونها.
فالعهد قائم لم ينتقض، وحقوقهم كأهل ذمة قائمة، وهم لم يطالبوا بالجزية حتى نقول أنهم امتنعوا، وفارق كبير بين إنشاء عهد نقول أن الجزية من هذا العهد، وبين دعوى نقض عهد تستلزم لإثباتها امتناعا ومنعا لم يحدث.
وعليه فهم باقون على عهدهم وذمتهم، وحقوق الذمة مازالت سارية في حقهم”xxvi

(2) أما موقف جماعة الجهاد :

كان الموقف التاريخي للجهاديين هو أن الأقباط هم “كفار محاربون”كما جاء في كتاب الجامع،حيث ذكر فيه نصا أن”..إسقاط الجزية عن أهل الكتاب ومساواتهم بالمسلمين بما يعني مخالفة الشروط العمرية يكون عهدهم قد انتقض وعادوا كفارا محاربين”،…ويضيف أنه “سواء كان انتقاض عهد الذمة من جهتهم أو من جهة الحاكم الكافر كما صنع الخديو سعيد ومن تلاه في حكم مصر،فإن هذا لا يؤثر في النتيجة،فالكافر لا يعصم نفسه وماله من المسلمين إلا أمان معتبر من جهتهم”…كما ينتقد كتاب الجامع أخطاء المعاصرين الذين يسقطون أحكام أهل الذمة في دار الإسلام حيث جاء فيه ما نصه”..القول بإسقاط العمل بحكم أهل الذمة في دار الإسلام، والدعوة إلى اعتماد مبدأ المواطنة كبديل، وهو ما قامت عليه الدساتير العلمانية الكافرة”..
صحيح أن الشيخ سيد إمام في ما يسمى مراجعات الجهاد من خلال كتابه الوثيقة تراجع عن تعبير “الكفار المحاربين”،..ولم يعد يعتبر “أرواحهم وأموالهم مستحلة”،..ولا الدساتير الحالية “كافرة”،.. ولا يكفر من يقول بمبدأ المواطنة الوارد فيها بما يتضمنه. و ينص في الوثيقة على المساواة بين ” المواطنين سكان البلد الواحد في الحقوق والواجبات”.xxvii
بيد أنه بالرغم كل هذا التغيير الإيجابي حول موقف الجهاد من الأقباط إلا أن ضياء رشوان يقول ” تبقى بعض المسائل المحورية التي نحتاج إلى مزيد من التوضيح والكشف عن الموقف الحقيقي منها، ويبرز هنا أولا مصطلح “أهل كتاب غير معاهدين “الذي استخدمه الشيخ لوصف الوضع الحالي لأهل الكتاب في بلاد المسلمين، فهو وضع لا يتسق على الإطلاق مع الأحكام التي اعتمدها في تعامل المسلمين مع أهل الكتاب، فمعروف أنه يعني فقهيا البقاء في حالة حرب معهم وليس حالة ود وإحسان وموادعة كتلك التي فصل الشيخ أحكامها .
وهناك ثانيا، بعض الأحكام المهمة التي تبناها الرجل في كتابه القديم “الجامع”، ولم يتطرق إليها في الوثيقة، وهي تحتاج لإيضاح منه لخطورتها، مثل:
قوله بعدم “جواز تولي الذميين الوظائف العامة في دار الإسلام، ورفضه “جواز تولي الذميين الوظائف العامة في دار الإسلام”ورفضه جواز إسقاط الجزية عن أهل الذمة للمصلحة أو إذا طبق عليهم نظام التجنيد الإجباري،
ومعارضته القول بإطلاق الحرية للذميين للدعوة لدينهم وبناء الكنائس في دار الإسلام،
وتأكيده على وجوب إلزام الذميين بالغيار(أي بمخالفة المسلمين في الشعور واللباس والمركب)
وأخيرا رفضه القول بأنه لقاضي المسلمين إذا أن يطبق على أهل الذمة إذا جاءوه قانونهم لا قانون الإسلام”xxviii

(ب) الدعويون :

أولا: السلفيون:

يميل الاتجاه السلفي إلى النصية، وأحياء السنن، ومحاربة البدع والمنكرات.ويتجه خطابه إلى استلهام التراث السلفي من خارج السياق المصري، ومن ثم فان الخبرة المصرية غير حاضرة في خطابه ومن ثم الآخر.وسوف تجد موقفه متى طلب منه إجابة خاصة حول غير المسلم إلى أنه سوف يتراوح بين كتابات فقهية وافدة لا تعبر عن الخبرة المصرية، أو الإسلام السياسي مثل سيد قطب، أو النص في صورته النقية.

ثانيا: الدعاة الجدد:

يعطي الدعاة الجدد الأولوية للتقوى والعبادات والمعاملات،ويستعينون بالعلوم الحديثة من علم نفس وتربية لدعم خطابهم الدعوي لذا نجد مفرد اتهم حديثة كي تجتذب الشباب.وهم ليس لهم موقف محدد من غير المسلمين ولكنهم أقرب للتعايش العملي الأقرب إلى الخبرة المصرية من جهة،وإلى فقه المجتهدين.

(ج) المجتهدون:
المجتهدون هم الذين حاولوا في مواجهة ما أثير حول قضايا غير المسلمين أن يقدموا اجتهادات تتجاوز الرؤى التي أعادت النظر في وضع غير المسلمين في مصر،من جهة واستعادة المسار الطبيعي للخبرة المصرية للإسلام كما أسلفنا. وقد تدرج الاجتهاد كما يلي:
ويُعتبر الشيخ يوسف القرضاوي من أبرز من حاول الاجتهاد ووضعوا الأسس التي تحدد طبيعة العلاقة بين غير المسلمين والدولة الإسلامية، والوظائف التي يمكن أن يتولوها. ويذهب القرضاوي إلي أن لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة، ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية علي الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية. ويري أن من علامات تسامح الإسلام قبول أن يتولي الذمي وزارة “التنفيذ”- بمعني أن يتلقي أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها- وليس وزارة “التفويض”- التي يعهد فيها الإمام إلي الوزير تدبير الأمور السياسية والاقتصادية والإدارية علي النحو الذي يراهxxix.

من بعده تدرج الدكتور محمد سليم العوا في اجتهاده فبداية قال بسقوط عقد الذمة تاريخيا،حيث قال:” الغالب على الدول الإسلامية المعاصرة أن شعوبها تتكون من نسبة كبيرة من المسلمين،ونسبة أصغر من الذين يدينون بغي الإسلام من المسحيين..،الذين يسن بهم سنة أهل الكتاب.
والعلاقة المعتادة بين هؤلاء وهؤلاء هي علاقة المشاركة في الدار والأخوة في الوطن.
والوشائج الرابطة بين الفريقين وشائج ثابتة لا تهزها محن طارئة تعترض حياة الفريقين أو حياة واحد منهما.
وأواصر هذه العلاقة تشتد وتقوى إذا تعرض الوطن كله لمحنة عامة أو خاض أو خاض حربا ضد عدو أجنبي أو واجه طغيانا من مستبد محلي.
وحين دخل الإسلام البلدان التي بعض سكانها لا يدينون به، نظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضى عقد يعرف في الفقه والتاريخ باسم عقد “الذمة”.والذمة هي: العهد والأمان والضمان.هذا هو معناها اللغوي.
والذمة في الفقهي:”عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبول أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية”.أما في تلك الشؤون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون.
وقد مضى الزمن بهذا العقد وتطبيقه،والناس مسلمون وغير مسلمين يعيشون في سماحة وتفاهم ومودة شهد بها القاصي والداني،إلى أن دخل الاستعمار العسكري الغربي جل بلاد الإسلام ،بل دخل كل بلاده التي تضم المسلمين وغير المسلمين ،فانتهى بذلك وجود الدولة الإسلامية التي أبرمت عقد الذمة،ونشأت دولة جديدة،بعد مقاومة استمرت عقودا من السنين،للمستعمر الأجنبي شارك فيها المسلمون وغير المسلمين على السواء.
وهذه الدول الإسلامية الحالية لم يعرض لأحكامها الفقهاء المجتهدون الذين تنسب المذاهب الفقهية إليهم،ولا من بعدهم من مجتهدي مذاهبهم لأنها لم توجد في أزمانهم.
والسيادة القائمة لهذه الدول مبنية على النشأة الحديثة لها التي شارك في صنعها المسلمون وغير المسلمين معا.وهذه السيادة تجعل المواطنين في الدولة الإسلامية الحديثة متساوين في الحقوق والواجبات، التي ليس لها مصدر سوى المواطنة وحدها والتي تقرر دساتير الدول الإسلامية المعاصرة للمواطنين على قدم المساواة.
والذمة، من حيث هي “عقد”، يرد عليها ما يرد على جميع العقود من أسباب الانتهاء.وقد انتهى العقد بانتهاء طرفيه:الدولة الإسلامية التي أبرمته، والمواطنون غير المسلمين الذين كانوا يقيمون في الأرض المفتوحة.فقد َفََََقَدَ كلاهما نفوذه وسلطانه الذي به يستطيع الإلزام بتنفيذ العقد بدخول الاستعمار الأجنبي إلى ديار الإسلام.
وليس معنى أن الذمة عقد “مؤبد” كما يعرفه الفقهاء أن يستعصي على أسباب الانتهاء المعروفة لكل عقد، وإنما التأبيد هنا معناه عدم جواز فسخه بإرادة الحكام المسلمين وعدم جواز قبول ظلمهم أو سكوت المسلمين عليه إن وقع لأهل الذمة.
والجزية التي كانت شرطا لهذا العقد كانت مترتبة على عدم مشاركة غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام، إذ كان الدين هو محور هذا الدفاع، وكان تكليفهم به بما يشق أو يطاق، فأسقطه عقد الذمة في مقابل الجزية.لذلك فقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من أهل الكتاب المشاركة في الدفاع عن دار الإسلام.فغير المسلمين إذا أدوا واجب الدفاع عن الوطن لا يجوز فرض الجزية عليهم.وهذا هو حالنا اليوم,فهم لا فرق بينهم وبين المسلمين في أداء واجب الجندية مما يجعل فكرة الجزية غير واردة أصلا.
ولا يرد على ذلك بأن الجزية مذكورة بالنص في آية سورة التوبة الآمرة بقتال أهل الكتاب”؛حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون”[التوبة:29]لأمرين:
أولهما:أن هذه الآية من العام الذي أريد به الخاص، فقد نزلت في الروم الذين قاتلوا المسلمين واعتدوا عليهم وليست عامة في أهل الكتاب كلهم، بدليل أن النبي(ص) عاهد نصارى نجران ولم يقاتلهم وأعطاهم في هذا العهد كل حقوقهم.وبدليل أن اليهود الذين كانوا في المدينة المنورة مع النبي(ص)وتحت رئاسته للدولة الإسلامية فيها لم تؤخذ منهم جزية. وقد كان هؤلاء مؤمنين بحكم صحيفة المدينة(أول دستور مكتوب في الدنيا)وبقوا في المدينة إلى أن أجلاهم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يأخذ الرسول ولا أبو بكر ولا عمر منهم جزية أصلا.وحكم هؤلاء أقرب ما يكون بل قد يكون هو نفسه حكم المواطنين غير المسلمين في الدولة الإسلامية الحديثة.
وثانيهما:أن النص القرآني المعلل بعلة محددة، نصا أو استنباطا، يدور مع هذه العلة وجودا وعدما.وقد علل الفقهاء الجزية في أصح أقوالهم بعدم المشاركة في الدفاع عن دار الإسلام،ونصوا على سقوطها عن غير المسلمين بقيامهم بهذا الدفاع،وقد فعلوا،فأين موضع الجزية؟؟
ونص الجزية في تلك الآية نظير لنص مصارف الزكاة الذي يجعل من بينها “المؤلفة قلوبهم”.ومع ذلك فقد أوقف عمر بن الخطاب وأجمع الصحابة على موافقته صرف هذا السهم لهم لأن الله قد أعز الإسلام وأغنى عن تأليف هؤلاء بالمال.يسقط بزوال سببه، أو يدور مع علته وجودا وعدما, شأن كل نص معلل.
ولغير المسلمين من المواطنين من الحقوق العامة والخاصة، ومن حق تولي الوظائف العامة مثل ما للمسلمين بلا زيادة ولا نقصان.والاستثناء الوحيد من هذا الحق هو الوظائف ذات الصبغة الدينية، مثل رئاسة الدولة، وقيادة الجيوش العامة في الجهاد، والولاية على الصدقات (الزكاة).فان الدولة مكلفة بإقامة الدين وهم لا يدينون به.والقيادة العامة للجيوش في الجهاد تتضمن المعنى نفسه.والزكاة ركن من أركان الإسلام لا يكلف به إلا المسلمون .ولكن يجوز أن يكون المواطن غير المسلم فردا مهما علت رتبته في الجيش،وموظفا مهما ارتقت درجته في الحكومة،وعضوا في المجالس النيابية والمحلية المختلفة،شريطة ألا يكلف في وظيفته بأداء عمل ديني إسلامي أو عمل ذي صبغة دينية.”xxx
ولاحقا، واصل د.محمد سليم العوا الاجتهاد إلى ما هو أكثر حيث قال:إن “اقتصار ممارسة الحكم علي أهل دين معين في دولة متعددة الأديان إدعاء لا تسنده أصول الشريعة، ولا يقوم عليه من فقهها دليل”. ويرفض الرأي القائل باقتصار الولاية العامة علي المسلمين فقط قائلا ” ولا يرد علي ذلك بمثل القاعدة الشهيرة “لا ولاية لغير المسلم علي المسلم”، لأن المقصود بذلك هو الولاية العامة لا الولاية الخاصة التي هي اليوم ولاية كل ذي شأن، بمن فيهم رئيس الدولة نفسه، فحكم المؤسسات، وتخصص الإدارات والوزارات، ذهب بفكرة الولاية العامة لتي عرفها الفقه الإسلامي إلي رحاب التاريخ”xxxi

ويقدم المستشار طارق البشري في كتابه الرائد “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية” بعد استعراض مختلف اجتهادات الفقهاء في تناول وضع أهل الذمة في الدولة الإسلامية أن المدخل المؤسسي حلولا للتعامل مع مثل هذا الموضوع الشائك، فلم تعد الصلاحيات الممنوحة للمناصب التي كان يجري عنها الحديث في السابق هي ذاتها الصلاحيات التي يتمتع بها أصحاب هذه المناصب اليوم، وذلك بعد أن حلت الهيئات والمؤسسات محل الأفراد في اتخاذ القرارات. ويري أن الأساليب الديمقراطية في بناء النظم السياسية قادرة علي “استيعاب مبدأ المساواة في بناء الجماعة السياسية”، ويؤكد أن “السلطة الفردية سواء في السياسة أو الإدارة قد تغيرت عن طريقين وعلي مبدأين، توزيع السلطة بين العديد من الأجهزة والهيئات، وحلول القرار الجماعي محل القرار الفردي” xxxii
وقد سار مشروع حزب الوسط xxxiiiعلي هذا الدرب في البرامج المتتابعة التي طرحها. فقد تضمن البرنامج في صورته الأولي الفقرة الأولي المقتبسة أعلاه من كتابات د.محمد سليم العوا التي تري أن اقتصار ممارسة الحكم علي أبناء دين معين في دولة متعددة الأديان أمر لا تقره أصول الشريعة، أو يستند إلي دليل ورد في الفقه. ورغم ذلك، فإنه من الملاحظ الاكتفاء بهذه الإِشارة، والتأكيد علي “تمتع الأقباط بالمواطنة الكاملة” بوصفها “مسألة محسومة شرعا وعملا”، ولم يخض برنامج الحزب وقتئذ صراحة في مسألة الولاية العامة xxxiv. وقد استدرك مشروع حزب الوسط الجديد ذلك في مرحلة تالية، ونص برنامجه صراحة علي أن “المواطنة أساس العلاقة بين أفراد الشعب المصري، فلا يجوز التمييز بينهم بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو العرق في جميع الحقوق والالتزامات وتولي المناصب والولايات العامة” xxxv.
تشير القراءة البانورامية السابقة،إلى أن اختلاف مواقف الاتجاهات الإسلامية من قضايا غير المسلمين،يمثل إشكالية حقيقية تؤثر على العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في الواقع. وفي نفس الوقت يبدو لي أن الجهود الفقهية التي تتجه نحو دعم فكرة المواطنة والمساواة أحد تجلياتها قادرة على حسم الإشكاليات الخاصة بحرية العقيدة والولاية ومن ثم تعود إلى الذروة التي بلغتها مصر في لحظة تاريخية معينة وكانت تعبر عن الخبرة التاريخية المصرية للإسلام في مصر حيث التعددية الواقعية. ولقد أشار فهمي هويدي في كتابه “مواطنون لا ذميون” بأن حول العهد العمري بأنه”عسير أن نعثر على صيغة محددة لذلك العهد إذ اختلفت الروايات في شأنه اختلافا يبعث على الشك من البداية،ولو أن الاختلاف كان في بعض التفاصيل مع وحدة الموضوع لكان الأمر مقبولا،إذ ليس مستغربا أن تختلف صياغة عهد يفترض أنه تم في ذلك الوقت المبكر من التاريخ،إنما الملفت للنظر أن الاختلاف امتد ليشمل مصدر الرواية ذاته،وأطراف العهد ومكان حدوثه.”(يراجع في هذا الشأن ترتون في كتابه أهل الذمة في الإسلام)،ومن هنا تأتي أهمية الخبرة الحياتية على أرض الواقع.
وربما نقول أن حسم مشكلة الحكم من حيث مدنيته والتي لا تتعارض مع التدين بالكيفية التي استقبلت بها مصر مطلع القرن العشرين (كما أوضحنا ) سوف تحل الكثير من القضايا،وتدفع بباقي الاتجاهات الإسلامية التي لم تحسم موقفها من غير المسلمين أن تأخذ بالاجتهادات ذات السقف العالي.
وربما يكون من المفيد أن نطرح فكرة يمكن أن تكون محورا للنقاش،أتصور انها قادرة على أن تكون تأسيسا فكريا للاندماج وقبول التعددية،هذه الفكرة هي ما يعرف “بالمواطنة الثقافية”.

(و) نحو جهد مشترك لدعم المواطنة الثقافية:الاندماج والتعددية

الخبرة المصرية هي التعددية النقية..إنها المركب الحضاري المتعدد العناصر، خبرة تتميز بالأساس في قدرتها على استيعاب التعدد من دون هيمنة مكون علي باقي المكونات.إن عبقرية مصر الحقيقية في أنها مركب حضاري لا يمكن اختزال عناصره لحساب عنصر واحد، فعندئذ تصبح مصر مسخا لآخرين، ومن ثم تصبح مصر التعددية في خطر…لماذا؟
لأنه وبالرغم من أن المواطنة تعني أن يتحرك الناس معا في إطار المجال الحيوي الجامع لمواجهة المشاكل معا: الظلم.. الفقر.. البطالة..الخ، إلا أن المجال الحيوي الجامع لأبناء الوطن الواحد لم يعد كذلك، فكل طرف بدأ يعود لأشكال التنظيم الأولية باحثا عن حل المشاكل بمعزل عن الطرف الآخر، وبخاصة في الأوساط الدنيا من المجتمع.. وبسبب عزلة كل منا عن الآخر بدأ كل طرف يتحرك في مجاله الخاص بعيدا عن المجال الجامع للتعدد..وبتأثير الأفكار الأحادية تدعمت أكثر العزلة..وتمترس كل طرف في مجاله الخاص محاربا الطرف الآخر بهدف نفيه..بدلا من أن يستقوي كل طرف بالطرف الآخر في مواجهة المشاكل المركبة:الفقر،والأمية،والمرض،وأطفال الشوارع،…، التي لا تفرق على أرض الواقع بين طرف وآخر..
الإشكالية التي تطرح نفسها هل مصر ذات الطابع التعددي تختطف لصالح الأحادية.. وكان السؤال هل من معنى لمصر بدون التعددية..هل يمكن أن تستمر مصر تعاني التوتر الديني لأربعة عقود، ونصل إلى هذه الدرجة الحادة من الاستقطاب من دون حل..

أن مدخلنا لتجاوز التوتر هو بدعم قيم وممارسات الدولة الحديثة على قاعدة المواطنة(تمييزا عن الطرحين:الطائفي والأقلوي) التي لا تميز بين أحد وتعني الاندماج والتعدد، ودعم المواطنة وفي إطارها المواطنة الثقافية على أرض الواقع ..كيف؟

فالجهد المشترك بين المواطنين أي ممارسة المواطنة في سياق المجال العام أو ما أسميه” الإطار الجامع”، على اختلافاتهم الثقافية هو الذي يجعل الخصوصيات الثقافية تتفاعل فيما بينها وتجعل من كل طرف يقدم أفضل ما لديه من أجل الصالح العام وليس السجال المدمر. وعليه تصبح” الخصوصية الثقافية ” نسقا مفتوحا قابل للتراكم من خلال الخبرة التاريخية ذلك بالاستجابات المبدعة للتحديات و الأزمات التي تواجه الجماعة الوطنية أثناء حركتها بما تضم من بشر يجتهدون في ممارسة المواطنة.
فلا تعود الخصوصية الثقافية نسقا سكونيا جامدا بل حالة ديناميكية متطورة؛
وعليه يمكن تجاوز إشكالية “تعطيل” المواطنة إلى “التفعيل”.

إن تعطيل المواطنة “المجال الحيوي الجامع” للفعل المشترك, و من ثم تشظي الخصوصية الثقافية xxxvi يؤدي إلى حالات ثلاث تعوق الاندماج هي:

(1) خصوصيات ثقافية في علاقة “تجاور”
(2) خصوصيات ثقافية في علاقة “سجال”
(3) خصوصيات ثقافية في علاقة “استبعاد/نفي” متبادل.
و هي حالات ثلاث تتراوح بينها مكونات الجماعة الوطنية إذا ما تعثر الاندماج،ويوضح الجدول التالي ما سبق:

تجاور سجال استبعاد /نفي
حالات الخصوصيات الثقافية

جدول رقم(4):

و لا خلاف على أن تفعيل المواطنة “كمجال حيوي جامع” لحركة الناس بخصوصياتهم الثقافية المتنوعة لهو أمر ضروري فالتقدم مشروط بالاندماج و تبلور خصوصية ثقافية جامعة تصبح فيها الخصوصيات الثقافية المتعددة مصدر ثراء للجماعة ككل،ويوضح الشكل التالي ما سبق.

شكل رقم (5)
المواطنة الثقافية ضمان حماية التعددية

يأتي مفهوم “المواطنة الثقافية ” Cultural Citizenship, أو المواطنة في بعدها الثقافي و الذي يعد برايان ترنرxxxvii Brayan S. Turner – أحد أهم الذين ساهموا في أدبيات المواطنة – ليعيننا في فهم مدى حضور الخصوصيات الثقافية المتنوعة فيما أسميناه ” المجال الحيوي الفاعل ” أو عملية المواطنة في شمولها من عدمه, حيث يعرف المواطنة الثقافية بالآتي:
” أنها الحق في المشاركة – الثقافية – في المركب الثقافي العام لمجتمع بعينه.. “،
“.. It is the social right to participate in the Complex Culture
Of particular society …”
أي أنها العملية التي من خلالها يكون للخصوصيات الثقافية حق المشاركة في المركب الثقافي العام لمجتمع من المجتمعات, شريطة أن تكون هذه الخصوصيات في حالة تفاعل بما يفيد تقدم هذا المجتمع.في هذا المقام تؤخذ في الاعتبار عدة أمور و ذلك كما يلي:
1. إن المركب الثقافي العام الأحادي البسيط الغير قادر علي استيعاب التنوع الثقافي والتعددية يعكس إن هناك مشكلة ما.
2. أن حضور الخاص في العام لا يعني الإلغاء أو الاستيعاب طالما أن القضايا و الأهداف محل اهتمام هذه الخصوصيات تصب في اتجاه الخير العام.
3. أن يكون المركب الثقافي العام من “البراح” في إتاحة المساحات المطلوبة للخصوصيات الثقافية في أن تعبر عن نفسها.

و يؤكد تيرنر على أن تحقق المواطنة الثقافية يتجلى في عدة أمور منها:
1. تمثيل الهوية الثقافية الخاصة في المركب الثقافي العام بالتساوي مع الهويات والخصوصيات الأخرى.
2. إدراج التاريخ الثقافي للخصوصيات المتنوعة ضمن التاريخ العام و الذاكرة القومية.
3. حرية التعبير الكاملة للخصوصيات و إبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية بصورة يألفها الجميع.
إن أحد معايير التقدم هو امتداد المواطنة للجميع بدون تمييز، فلا تكون المواطنة أفقية نخبوية قمية بل تمتد رأسيا في جسم المجتمع حتى تصل إلي قاعدته ويتحقق ما أصفه بالمواطنة القاعديةGrass Root Citizenship . في هذا السياق يهمني التذكير بتعريفنا الذي أقترحناه عاليه حول المواطنة.

إن شعور أحد أطراف عملية الاندماج بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، و أن باقي الأطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات بعينها باعتبارها مطلقة وغير قابلة للنقد،وهو ما يعني إضفاء “المقدس” على المجال العام،إنما يعد أمرا خطيرا لأن المجال العام الذي من المفترض أن تلتقي فيه كل الجماعات ليس مجالا للقاء المقدسات . لذا فالاندماج هو عملية مجتمعية Societalشاملة تحتاج إلى جهد وانفتاح وإعادة القيمة للدولة القومية المؤسسة على المواطنة والاقتصاد الإنتاجي والاستقلال الوطني.
الخلاصة لا يمكن أن يكون هناك بشر يعملون ويعيشون معا في مجتمع ما من أجل مستقبلهم المشترك من دون أن يكون لهم حضور فاعل ومشاركة حقيقية(أي مواطنة)..إلا كما يقول هابرماس بتمسك جميع المواطنين الصارم بما أسماه:Constitutional Patriotism “الولائية الوطنية الدستورية”xxxviii،والتوزيع العادل للثروة بين الجميع ،على قاعدة المواطنة الثقافية التي تعني المساواة الثقافية وضمان التكافؤ في التعبير عن خصوصية مكونات الجماعة الوطنية .

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern