المسيحيون العرب:
قلق حول الوجود ورجاء في صناعة المستقبل المشترك…
سمير مرقس
(أ)تمهيد
حملت الموجة الأولى من الانطلاقات الشبابية الشعبية الثورية أملا بتجاوز الماضي بكل آلامه وهمومه. وإن “استجابات مبدعة” كثيرة سوف نجتهد ـ كمواطنين شاركوا في هذا الحراك دون تمييز ـ لوضعها في مواجهة تحديات امتدت لعقود. بيد أن المرحلة الانتقالية وما شابها من تعثرات و” تأزمات”، طرحت تساؤلات أكثر مما أجابت.
وبالرغم من اننا من الذين يقولون بأن هناك “تحولات كبرى” قد حصلت إلا انها في المقابل قد طرحت الكثير من “الإعاقات الخطرة”…ساد هذا الأمل كل الذين كان يشعرون بأنهم مهمشون أو يعانون تمييزا أو مستبعدون أو يتعرضون لقهر لأسباب تتعلق بالمكانة والثروة والجنس والدين واللون…الخ…ومن ثم كانت “الحراكات” المجتمعية فرصة لاستعادة الحضور ولاكتساب الحقوق وتأسيس المواطنة “الفعل” قاعديا بغير منحة من أحد…المواطنة “الفعل” بالجميع وللجميع…في هذا السياق يأتي حديثنا عن مسيحيي المنطقة…لذا ليس صدفة أنه عندما نحاول أن نصف “المسيحيون” نجد أنفسنا في مأزق: بحثي، ومفهومي. بماذا نصف هؤلاء المسيحيون الذين يعيشون بيننا…هل وفق الجغرافيا أم التاريخ أم الإثنية أم اللغة أم القومية أم وفق أكثر من عنصر في وقت واحد…وهل الرابطة الدينية تكفي أن تكون في ذاتها عنصرا يمكن التعويل عليه في فهم واقع مسيحيي المنطقة…
(ب)مسيحيو المنطقة: أي سؤال مطلوب الإجابة عنه؟
فيما يتعلق بمسيحيي المنطقة، لا يمكن استبعاد الرابطة الدينية كعنصر من عناصر التحليل الرئيسية حول واقعهم ومستقبلهم. ولكن هل يصح التحليل بالاكتفاء بذلك أم بالقبول بأن هناك عوامل إثنية موحدة في هذا السياق جامعة بين مسيحيي المنطقة. وتنطلق هذه الفرضية من أن المسيحيين في المنطقة هم جماعات سكانية: فرعية أو صغيرة العدد نسبيا، تعيش في مجتمع أكبر. وأن هذه الجماعة تربط بين أفرادها ـ أو يوحد بينهم ـ روابط العرق والثقافة. وأنه يدخل في المكونات الثابتة للإثنية مكونات اللغة والدين والعادات.
واقع الحال، فإن القارئ لمسارات مسيحيي المنطقة التاريخية: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية/ الدينية، لا يمكن أن يعتمد المقاربة الإثنية في التحليل بشكل مطلق. ذلك لاختلاف هذه المسارات ولتفاصيل كثيرة ميزت مسار كل جماعة سكانية عن بعضها البعض وللعلاقة التي نشأت ـ بدرجة أو أخرى ـ أردنا أو لم نرد ـ مع الدولة الوطنية الحديثة البازغة، والمستقلة حديثا ومع العلاقة مع الحداثة بشكل عام1. كذلك للعلاقات الأفقية التي نشأت في فترات النهوض الوطني بين الأفراد / المواطنين الذين يحملون نفس الجنسية وينتمون طبقيا لنفس الطبقة الاجتماعية ويتشاركون نفس المصالح السياسية والاجتماعية بالرغم من الاختلاف الديني2.
فعلى الرغم من أنه لا يمكن تجاهل العناصر الإثنية التي تميز بعض التجمعات المسيحية حيث تجتمع اللغة والقومية معا بالإضافة إلى التجمع في جغرافيات مشتركة كما هو الحال مع أرمينيي لبنان أو الكلدان في العراق. إلا أن هذا لم يمنع من المحاولة الدؤوب في الاندماج الوطني العام حتى لو كان برهانات خاطئة مثل الالتحاق شبه الكامل بسياسات حزب البعث في العراق، أو الاكتفاء بالحضور الاقتصادي دون السياسة،…الخ.
خلاصة القول، دفع السياق التاريخي ـ وكثير من العوامل ـ إلى الحراك نحو الانحياز إلى خيار المواطنة من حيث المبدأ وترك الأمر عمليا للظروف وموازين القوة السياسية على أرض الواقع. ولابأس في هذا السياق أن يتم توظيف الإثنية بشكل وظيفي للدفاع عن الوجود.
في ضوء ما سبق، يمكن القول بأن السياق المجتمعي تتحكم فيه عوامل عديدة تتوقف على مدى تطور المجتمع، وبالعناصر المؤثرة في النسق الثقافي السائد، وبالتراث التاريخي المشترك والقبول بذلك في فترة زمنية أو الرفض في فترة زمنية أخرى. وبالدور الذي تلعبه الدولة ومناهجها في ضبط الصراعات المختلفة، والموقف العام والمشترك في مواجهة السيطرة الأجنبية والسياسات الاستعمارية أو الخارجية بعد الاستقلال، بالإضافة إلى المناخ الاجتماعي العام…ومن ثم نجد المحصلة تشير إلى أن المسار التاريخي قد صب في اتجاه الانحياز إلى المواطنة دون أن يعني هذا فقدان الخصوصية.
وانطلاقا مما سبق نركز حديثنا على “المسيحيين العرب”…أي الذين يعيشون في البلدان العربية وينطقون العربية. ولكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى الخريطة المسيحية العامة في المنطقة…أخذا في الاعتبار أن المؤسسات الجامعة لهم محليا مقرها المنطقة العربية ولكنها سمحت بأن تضيف إليها بعض الذين يعيشون في قبرص وإيران بحكم أن هذه المؤسسات تحمل اسم الشرق الأوسط.
ويرصد الجدول التالي ألوان الطيف المسيحية التي تعيش في المنطقة.
الأرثوذكس الشرقيون | الأرثوذكس المشرقيون | الكاثوليك | الإنجيليون | الأسقفيون |
الأقباط الأرثوذكس | الروم الأرثوذكس بإسكندرية وأفريقيا | انطاكية للمارونيين | الأقباط الإنجيليين | الاسقفيون في القدس |
الأرمن الأرثوذكس | الروم الأرثوذكس بأنطاكية | الروم الكاثوليك في انطاكية والاسكندرية والقدس | الأرمن الإنجيليين | مصر أثيوبيا وشمال افريقيا |
السريان الأرثوذكس | الروم الأرثوذكس بالقدس | الأرمن الكاثوليك | إنجيليو سوريا ولبنان | قبرص والخليج |
الروم الأرثوذكس بقبرص | السريان الكاثوليك | انجيليو لبنان | الإنجيليون اللوثريون في الاردن | |
الأقباط الكاثوليك | انجيليو ايران | |||
الكاثوليك اللاتين | ||||
الكلدان الكاثوليك |
يعكس الجدول السابق، الكثير من التمايزات التي نتجت عبر التاريخ. ففي البداية سوف نكتشف إلى أي حد بلورت أحمال التاريخ العقدية الكثير منها…فلم تزل خلقيدونية3 تقسم مسيحيو المنطقة إلى خلقيدونيين ولا خلقيدونيين، أو بتعبير آخر إلى شرقيين ومشرقيين ( (Oriental & Eastern ، بيد أن هذا لم يمنع من أن ينحاز بعض من الخلقيدونيين إلى العروبة ثقافة وصلاة. ونشير هنا إلى أن بعض الكنائس من التي انحازت إلى خلقيدونية، نجدها وقد انحازت إلى العروبة لغة وثقافة لكنيستها4..وهناك من قبل بأن تكون مرجعيته الروحية خارج جغرافيا المنطقة5.
كما يشير الجدول السابق إلى أنهه ليست هناك لغة واحدة أو قومية واحدة جامعة بين مسيحيي المنطقة. حتى الوصف الجغرافي نجده يتغير بتغير السياق الدولي وبحسب من يقوم بالوصف كما يلي: المسيحيون العرب، مسيحيو الشرق، مسيحيو الشرق الأوسط، مسيحيو المشرق، الأكثر أن هناك من كان يستخدم حتى الخمسينيات من القرن الماضي تعبير “مسيحيو الشرق الأدنى”، أخذا في الاعتبار أن كل وصف سوف يترتب عليه خريطة مغايرة والتزامات إقليمية مختلفة… وهو ما يدفعنا إلى الأخذ بتعبير مسيحيي المنطقة لحين تحديد عن اي مسيحيين سوف نتحدث. فمثلا لو ركزنا حديثنا على المسيحيين العرب فلابد من استبعاد قبرص وإيران. وهل العروبة هنا تعني الجغرافيا ويمكن التغاضي عن شرط اللغة وعليه سوف نستبعد البعض ممن يعيشون على أرض عربية ولكن لهم لغة خاصة بهم وقومية مغايرة. هذا بالإضافة إلى اختلاف المسارات السياسية لكثير من التجمعات المسيحية في المنطقة، فهناك من قبل بنظام الملة كوحدة سياسية وهناك من قبل بأن يكون منخرطا في الحركة القاعدية الشعبية مميزا نفسه مع المسلمين في مواجهة الإثنية الحاكمة الوافدة بالرغم من تماثلها المذهبي /الديني مع مسلمي هذه البلاد6.
بالطبع هناك بعض المسارات نجحت لأسباب جغرافية أن يكون لها مساحة جغرافية تخصها ـ إلى حد ما ـ وأن تكون لها مؤسساتها ولكن لم يكن لها تنظيم سياسي دولتي…ودون أن تنفصل عن المؤسسات العامة وعن الارتباط بالكيان السياسي الجامع.
ولا يمكن ان نتغافل عن المقاربة التي في ظني التي يحمل عبء تبلورها كل من الإسلام السياس والغرب الاستعماري والاستشراقي /والاستشراقي المعدل وأنظمة الحكم ما بعد 1967 في النظر إلى المسيحيين كجماعات دينية متماثلة العناصر والتعاطي مع كبيرها في استعادة لملية جديدة كان قد تجاوزها المسيحيون ـ نسبيا بحسب كل حالة على حدة ـ في فترات النهوض والاستقلال7.
بيد أن الجامع ـ يقينا ـ بين المسيحيين في المنطقة، هو أنهم سكان أصليون انخرطوا بتنويعاتهم الإثنية في المسار التاريخي للمنطقة وساهموا في رسم ملامحها الثقافية والحضارية “والهوياتية”.وخاضوا معاركها الصليبية الوافدة والصهيونية والاستشراقية القديمة والجديدة والمعدلة. وكانوا في مقدمة المناضلين من أجل الاستقلال الوطني…والأهم وقد كانت المنطقة مهبطا للوحي المسيحي أن حفظوه وقدموه للعالم والأهم قاموا بتعريبه..
وعليه سوف تكون مقاربتنا هي ما يمكن أن نطلق عليه: “سؤال السياق المجتمعي”، أو سؤال حركة المسيحيين المجتمعية: “حضورا وغيابا”، وهو يقوم على معيارين هما:
مدى التفاعل المجتمعي،
والقبول بالتعددية الواقعية، والعكس…
إن الحياة المشتركة بين مسيحيي المنطقة ومسلميها، لم تكن مجرد تعبير عن وجود فيزيقي بقدر ما كانت تجسيد لتفاعلات مركبة تتراوح بين الشراكة والتوتر والخصومة والعنف بحسب السياق التاريخي بعناصره المتعددة والمتداخلة: المنظومة الاقتصادية، النظام السياسي، الصراع مع الغرب،…الخ. ومن ثم النزوع إلى التكامل والاندماج أو الرجوع إلى العزلة والانكفاء.
في هذا الإطار، نجد أن هناك علاقة جدلية بين الثنائية المركبة: التفاعل المجتمعي/ القبول بالتعددية الواقعية و الاتجاه إلى بلورة مجتمع واحد له إثنية مركبة لا تجور على الثنايات الفرعية في فترات النهوض الوطني من حيث :
الحرص على التكلم اللغة نفسها: Ethnolinguistic
والقبول بالتفاعل الثقافي الحضاري المركب كمنظومة عليا للوطن Ethnocultural
والرضا بشرعية واحدة حاكمة توافقية وولائية دستورية ناظمة للمواطنة على قاعدة المساواة في إطار دولة واحدة Ethnopolitical.
وعلى النقيض يتراجع التفاعل المجتمعي/القبول بالتعددية الواقعية مع فترات النكوص الوطني وعليه تبرز الجماعات الأولية على حساب الجماعة الوطنية الجامعة…
وعليه نرصد حركة المسيحيين العرب على أرض الواقع في ضوء السياق المجتمعي ولحظته التاريخية…وهذا هو العنوان الكبير للإجابة التي نجتهد في الرد عليها حول المسيحيين العرب…إذن بحثنا يقوم على الإجابة عن سؤال السياق المجتمعي وهو سؤال مركب يتضمن التاريخ والحاضر والمستقبل…
(ج)سؤال السياق المجتمعي أو سؤال الوجود/الغياب:أي حضور للمسيحيين العرب؟
المسيحيون العرب، قضية ليست جديدة. فلقد كان واقعهم ومصيرهم محل نقاش دائم: إيجابا وسلبا. وتشير كثير من الأدبيات8 إلى أن كثير من القضايا التي تتعلق بمسيحيي المنطقة مطروحة على الساحة السياسية والفكرية بقوة منذ عرفت المنطقة طريقها للحداثة. وتحديدا بداية من تأسيس الدولة الحديثة ـ وأقصد بها دولة محمد علي في مصر ـ وتوالي تكون الدول المستقلة والتي سبقها/واكبها رسم خرائط جديدة في المنطقة. لقد كان السؤال المحوري الدائم “أي حضور لمسيحيي المنطقة؟…وكان السؤال يطرح بطريقتين: الأولى حيث يعكس الرغبة في الحضور الفاعل، والثانية إذ يكشف عن قلق وجودي عميق…
وكانت الإجابة دائما تتوقف على اللحظة التاريخية وسياقها المجتمعي. وبمراجعة سريعة لتاريخنا الحديث والمعاصر سوف يمكن أن نرصد ثلاث مراحل تاريخية كبيرة نتعرف فيها على حالة الحضور المسيحي لتأكيد مقاربتنا لهذا الملف.
أولا: مرحلة النضال الوطني والتأسيس النهضوي:
حيث ساهم المسيحيون مع مواطنيهم من المسلمين في مواجهة المستعمر، وتفاعلوا مع الحراك الوطني البازغ، وكانوا من مكوناته الأساسية كما ساهموا في بناء النهضة العربية الحديثة. واستطاعوا أن يصالحوا بجهدهم المعرفي والعلمي والابداعي بين التحديث والحداثة.
ثانيا: مرحلة ما بعد الاستقلال أو مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية:
حيث ساهم المسيحيون في بناء الأوطان بعد أن نالت استقلالها. وكانت بصماتهم حاضرة في شتى المجالات. ولكن بفعل ما واجه مشروع الاستقلال والتعثرات التي طالت بناء الدولة الحديثة من تحديات تراوح حضورهم بين الفاعلية والانكفاء الديني. كذلك عملت الكنيسة في خدمة مشروع بناء دولة ما بعد الاستقلال.
ثالثا: مرحلة التوترات/التاحرات الدينية والمذهبية:
وهي المرحلة التي بدأت عقب هزيمة 1967حيث تراجع الحضور المسيحي بدرجة لافتة واتجه المسيحيون كما أشرنا إلى الهجرة بنوعيها الداخلية والخارجية. وبدأت عقود النزاع الديني المادي والمعنوي. شكل رقم (1)
يعكس ما سبق أن “سؤال الوجود” عبر التاريخ هو السؤال “الأصيل” في ما يتعلق بمسيحيي المنطقة…وليس أي سؤال آخر وعلى الأخص سؤال الأثنية. فكل الأسئلة التي أثيرت عبر كثير من الندوات والكتابات يمكن وضعها تحت هذا العنوان العريض…وخاصة وكما هو واضح من القراءة التاريخية أن لحظات النهوض كانت من الرحابة بمكان من أن تستوعب المسيحيين بكل أريحية…والعكس صحيح فعندما جاءت مرحلة النزاعات الطائفية والدينية والسياسية الاستقطابية أدت إلى إثارة الكثير من المخاوف والهواجس ليس فقط حول الهوية أو امكانية المشاركة من عدمها…الخ، وإنما باتت تولد قلقا وجوديا لدى المسيحيين في المنطقة…وظني أن اللجوء إلى التسلح بالإثنية يكون في إطار “حمائي” وظيفي .
وربما السؤال الذي يفرض نفسه هنا ألم تستطع الانتفاضات العربية أن تقلل من هذا القلق الوجودي…واقع الحال هذا يستلزم منا أن نقترب بعض الشيء من إشكاليات المرحلة الثالثة التي وصفناها بمرحلة التوترات والنزاعات الدينية…
واقع الحال كانت المرحلة الثالثة من المراحل التاريخية التي رصدناها والتي بدأت عقب هزيمة 1967 مرحلة صعبة بكل المقاييس. وهي المرحلة التي شهدت ما يمكن وصفه “اضمحلال الوجود المسيحي”، (بحسب تعبير الأخ العزيز الدكتور طارق متري9)،تتناقص الوجود المسيحي في القدس، والهجرة الجماعية لمسيحيي العراق، والرغبة العارمة للهجرة من قبل بعض الشرائح الاجتماعية في مصر ولبنان، وأخيرا النزوح الجماعي لترك سوريا …وهنا نتساءل ماهي أسبابه. لا يمكن الإحالة إلى سبب وحيد، مثلما يحاول أن يفعل البعض…فهناك من يرُجع المسألة إلى :
تصاعد حركات الإسلام السياسي التي أعادت النظر في الوضع القانوني لغير المسلمين؟
وللجماعات التي باتت تستخدم العنف المادي في ضوء ذلك؟ وهناك من يحيل الأمر إلى:
فعل النظم الشمولية وتعثر ترسيخ مفهوم المواطنة التي تعني المساواة الكاملة والانسداد السياسي؟
وأخيرا هناك من يشير إلى:
أثر الخيارات الغير صائبة من المسيحيين أنفسهم؟
إلا أننا نميل إلى الأخذ بكل ذلك معا.
وعليه وفي ضوء ما سبق سوف نجد كيف أن المسيحيين في المنطقة قد تراوحوا بين الحضور والغياب حسب السياق المجتمعي. وبالمعنى السياقي يمكن أن نؤكد أن ما أصاب المسيحيون في المنطقة قد طال المسلمين أيضا، مما يعني أن الإشكالية أعقد من أن تكون دينية محض. إلا أنها كانت أكثر تأثيرا على المسيحيين نظرا لعددهم فغابوا.
(د)المسيحيون بين “الغياب الإرادي” و”التغييب القسري”
في ضوء ما سبق يمكن القول أن ما آل إليه الوضع المسيحي العربي قد تراوح بحسب ما كتبنا مرة بين :”الغياب والتغييب”..
“الغياب الإرادي”؛ سواء بالهجرة إلى داخل الأوطان أو إلى خارجها..
أو يتم “التغييب القسري”؛ بالاستبعاد والتهميش أو بالحضور المشروط أو المواطنة المنقوصة..
“غياب وتغييب”؛ نتيجة عوامل عدة متداخلة منها: التصورات التي طرحتها جماعات الإسلام السياسي منذ مطلع السبعينيات (وتؤكدها المراجعات التي تمت بعد ثلاثة عقود) حول غير المسلمين ،كانت تصب في تبرير العنف ضدهم، وفي أحسن الأحوال بأنهم أهل ذمة، هذا بالرغم من اجتهادات فقهية معتبرة حاسمة تقر بالمواطنة للمسيحيين10.
كما ساهم الانسداد السياسي وفشل دولة ما بعد الاستقلال في تأسيس الأوعية والآليات القادرة على استيعاب التنوع من جهة، والقبول بأن الصراع بين مكونات الجماعة هو ديني أو مذهبي بما يخفي الطبيعة الحقيقية للصراع من جهة أخرى…فالقطعي أن ميسوري الحال من المنتمين لهذا الدين أو ذاك ،يكونون أكثر قربا من بعضهم البعض، وتكون حساسيتهم للظلم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي تتعرض لها الشرائح الوسطى والدنيا ضعيفة وعندئذ يشعر هؤلاء أن ما يتعرضون له هو في المقام الأول بسبب الانتماء الديني ـ قد يكون صحيحا في بعض الحالات ـ ولكن ليس بالمطلق…
إلا أن ما يزيد الشعور به هو التناحر الذي تقع فيه هذه الشرائح بدلا من أن تتكاتف لمواجه الظلم الذي يطاولهما معا…وأخيرا نأتي لخيارات المسيحيين أنفسهم الذين يرضون بالعزلة الحذرة في إطار الانتماء الأولي واعتبارها مجال حركتها الأساسي والميل إلى “اختراع الملة”11.
(ه)ماذا عن المستقبل؟
“إن مشكلة المسيحيين العرب، بصفتهم أقلية في المجتمع العربي الذي تنتمي كثرته إلى الإسلام، هي مشكلة تشترك في مسؤوليتها الأكثرية والأقلية، ولا يمكن أن تحل حلا جذريا إلا بتحولات جذرية في الجانبين معا، وذلك بالإقبال على بناء مجتمع قومي على أساس مصلحة الشعب ومنجزات العلم والحضارة والمساواة القانونية والعملية بين المواطنين والعدالة بينهم، والتحول من تسييس الدين إلى تقصي جوهره الروحي…والواقع أن الحديث عن المسيحيين والمستقبل يفتح قضية العرب بكاملها وقضايا المستقبل بمجموعها..”12.
واقع الحال، كان من المفترض أنه بعد الحراكات الشبابية الشعبية الثورية، أن يتم تجاوز مرحلة النزاعات الدينية إلى الانخراط الجاد في بناء الأوطان على قاعدة المساواة التامة والشراكة الوطنية الفاعلة. وبالفعل انخرط البعض إلا أن البعض الآخر لم يزل قلقا من خطابات اقصائية وممارسات استبعادية وعُنفية تسبب اليأس بالرغم من الديناميكية الثورية التي تفتح آفاقا لتغييرات جذرية ودفعن الكثيرون من التعاطي الإيجابي مع موجات الحراك العربي13. صحيح أن السياق تبدل إلا أن القلق الوجودي لم يزل حاضرا14. وصحيح أن هناك من المسيحيين من انخرط في الحراك الثوري والسياسي الراهن إلا أن هناك من لم يزل خائفا. وعليه لابد من أن ننشغل بقضية المسيحيين العرب ليس من منطلق ديني وإنما من منطلق حضاري…وندرك أن ما يهدد الجزء هو في الواقع تهديد للكل.. فالمظاهر التي تم التحذير منها مبكرا والتي تطل بقوة هذه الأيام خاصة فيما يتعلق بتناقص أعداد مسيحيي المنطقة، تعطي ذريعة ـ كما كتبنا مرة ـ لإثبات عدم قدرة منظومتنا الثقافية على استيعاب التنوع…فسكوت العرب كما قال محمد سيد أحمد، على ” هجرة مسيحييهم هو سلاح يضرب به العرب أنفسهم بأنفسهم”15…ومن ثم باتت الضرورة التي يجب أن نعمل عليها بجد هو استعادة الغائبين في الداخل ومواجهة أسباب الهجرة إلى الخارج. وإيجاد حلولا ناجعة وحاسمة لإشكاليات مزمنة من عينة: فالتحديات التي تم رصدها يمكن أن نوجزها في الآتي:
1) عدم المساس بالعقائد وحرية إقامة الشعائر الدينية ،
2) القبول بالمساواة الكاملة وتوفير الفرص المتكافئة للجميع..
3) عدم تعرض المسيحيين لأي انتهاكات من أي نوع،
ونشير هنا إلى ان هناك اصرارا مسيحيا على الحضور الفاعل على أرضية المواطنة.16
وربما يكون من المفيد أن نلقي الضوء على أخر وثيقة تعلن بحسم أن المسيحيين العرب مصرون على الخيار التاريخي الذي انحازوا له عبر العصور لأنهم أبناء المنطقة ولأن المسيحية قدست المنطقة العربية وانتشرت منها إلى العالم. وقد صدرت الوثيقة بإجماع كل الحاضرين حيث جاء فيها ما يلي:
“…نجتمع وفي يقيننا أن الضرورات الوجودية باتت تتطلب منا أن نتدارك ما طرأ على واقع مجتمعاتنا من تحولات سياسية ومجتمعية وثقافية تصيب عمق حضورنا وشهادتنا في بلادنا والمنطقة بأسرها. وإننا في ذلك نتطلع إلى استنباط طرق جديدة في مقاربة حقائق وجودنا في تلك المنطقة تتجاوز ما أَلِفَته الأذهان من مقولات الفقه السياسي والديني العتيقة…وحين نعاين المشهد الراهن،…لابد من أن نعاين مبلغ المخاضين الحضاري والتاريخي اللذين تمر فيهما المنطقة…”…
بهذه الكلمات يستهل المجتمعون من القيادات المسيحية الدينية والمدنية الوثيقة التي صدرت عنهم في نهاية اللقاء الذي نظمه مجلس كنائس الشرق الأوسط بلبنان(في الفترة من 22 إلى 25 مايو الماضي)…وظني أنها وثيقة تاريخية تمثل تحولا تاريخيا حاسما لابد من التوقف عنده…وذلك للملاحظات التالية:
ملاحظتنا الأولى: اتفق الحاضرون من واقع المسؤولية الإيمانية والسياسية على أن المخاض الراهن الذي تشهده المنطقة على المستويين الحضاري والتاريخي لابد من مواكبته بروحية ومنهجية جديدة تتجاوز الماضي بكل ملابساته. لذا نتلمس في ثنايا الورقة لغة فيها نوع من المراجعة الذاتية التي تدفع نحو الانحياز إلى جديد التحولات في المنطقة…
الملاحظة الثانية: أكد مسيحيو المنطقة بحسم أنهم ينطلقون في حركتهم من منطلق الشراكة الانسانية مع شركاء الواقع على اختلافهم من على أرضية المواطنة ( لا الطائفة ولا الملة ولا الإثنية). ويضعون أنفسهم في قلب “المعمعة” فتشير الوثيقة إلى ما يلي:”…ومن مقاصدنا أن نستأنف العزم ونجدد السعي ونشارك إخوتنا وأخواتنا في هذا الشرق ونسير وإياهم على طريق النضال في سبيل الارتقاء بالإنسان إلى المقام السنيّ الذي يصبو إليه بكل جوارحه…”. أي بشتى الوسائل النضالية…
الملاحظة الثالثة: أن كل من المسؤولية والنضال اللذين الزم المجتمعون أنفسهم بهما، تنطلق من دافع ذاتي للحضور الفاعل لمواجهة ما تتعرض له المنطقة من مخاطر، وفي هذا يقول النص:”… نقول لأنفسنا إنّ أوطاننا ليست دارَ استثمار وعبور، بل موضع الجِدّ والشهادة. لقد نصبَنا الله في أرض المشرق شهودًا للرفق الإلهيّ والأخوّة الكونيّة والتسالم الإنسانيّ الصادق. وزرع فينا، على ضعفنا، طاقةً لا يُستهان بها على الجهاد الروحيّ والإنسانيّ يريد بها منّا أن نؤازر أهل المشرق على استئصال الداء العضال الذي يعبث في جسم مجتمعاتنا ويفتّ في ساعدها ويُضعف من قواها…”.
الملاحظة الرابعة: نجحت الوثيقة في رسم وقائع المشهد الحالي: “الواعدة والمقلقة”؛…ونبدأ “بالواعدة”: حيث تعترف الوثيقة بحسم لما قام به الشباب في إحداث تحولات كبرى في المنطقة وفي هذا تذكر الوثيقة كيف:”…استنهضت الطاقات الفتيّة في المجتمعات العربيّة، فدفعت بالقوى الشبابيّة الصاعدة إلى المطالبة بإسقاط أنظمة الاستبداد الفكريّ والسياسيّ والاجتهاد في صياغة تصوّر جديد للمجتمعات التي يعيشون فيها يقوم على احترام حقوق الإنسان الفرديّة، وفي طليعتها الكرامةُ الذاتيّة والحرّيّةُ الخلاّقة، وتعزيز قيَم المساواة والعدالة والتضامن. فظهرت فجأةً في سماء الشرق شمسٌ بهيّةٌ قد اكفهرّ بإزائها كلُّ ما كان قديمًا. فانتفض الناسُ لكرامتهم في أشكال شتّى، وانبثقت من انتفاضتهم أنوارُ الرجاء راحت تنتشر في كثير من البلدان تبدّد غياهبَ الظلام وتبعث في الوجدان المشرقيّ حياةً وانتعاشًا.
أما “الوقائع المقلقة” فقد كانت كثيرة ومنها: أولا: ما تتعرض له مركزية القضية الفلسطينية من محاولة تهميش، ورصد ليس فقط تهويد القدس وإنما تهويد الدولة والأرض، والحيلولة دون إقرار السلام العادل الشامل. وثانيا: ثبات بعض الأنظمة العربية المستبدة. وثالثا: استفحال الأصوليات الدينية. ورابعا: الفساد السياسي والخلل الاقتصادي والظلم الاجتماعي.
الملاحظة الخامسة: انتهجت الوثيقة في رسم الوقائع الواعدة والمقلقة منهجا نقديا ودقيقا ومركبا في آن واحد. وكمثال نشير إلى كيف وصفت الوثيقة مسألةلألة الفساد السياسيا والخلل الاقتصادي والظلم الاجتماعي ألة الفساد السياسي والخلل الاقتصادي والظلم الاجتماعي وذلك كما يلي: “…ما انفكّت المجتمعاتُ العربيّةُ تعاني ضروبًا شتّى من الفساد السياسيّ والخلل الاقتصاديّ والظلم الاجتماعيّ. فالأنظمة السياسيّة التي تعاقبت على إدارة المجتمعات العربيّة منذ منتصف القرن العشرين ابتُليت بالفساد والزبائنيّة والعقم الفكريّ في استثمار موارد العالم العربيّ، ممّا أفقر الناس وحصر الثروات في أيادي الأسَر الحاكمة وحفنة من المستثمرين النافذين المواطئين لأصحاب السلطان. فإذا بتلك المجتمعات تفتقر إلى أبسط البنى التي ترعى الإنماء الاجتماعيّ والتربويّ والصحّيّ.”
الملاحظة السادسة: طرحت الوثيقة رؤية للتوافق تتناسب والتحولات التي جرت في المنطقة، توافقا يقوم على قاعدة المواطنة. وعليه لابد أن يجتهد الساسة والفقهاء في تدعيم المواطنة فكرا وممارسة. وفي هذا السياق أدانت الوثيقة التدخل الخارجي من جانب والاستقواء بالغرب من جانب آخر. وحول ما سبق يقول النص: “… آن الأوان،…لصياغة ميثاق جديد للمعايشة يحترم كرامة الإنسان، به يبتكرون أنموذجًا طليعيًّا للحكم الرضيّ…، ويخصِب في ظلّه الفكرُ الحرّ، وتَعزُّ في كنفه الديمقراطيّةُ السليمة. والمسيحيّون المشرقيّون عازمون على اغتنام هذا الزمن التاريخيّ الواعد ليسهموا في تنوير الفقه السياسيّ حتّى يغدو قابلاً للإتيان بمواطنة يشعر بها كلُّ إنسان بأنّه أصبح خلقًا كسائر الخلق، له منعةٌ ذاتيّةٌ لا تُزدرى وكرامةٌ أصيلةٌ لا تُمتهن وقيمةٌ أثيلةٌ لا تُستباح. وحدها مثل هذه المواطنة تضمن لجميع أبناء الشرق العيش الكريم الحرّ المزدهر. أمّا الاصطفاف في معسكرات التحالف المريب بين الأقلّيّات واستنجاد الغرب ومواطأته على شركاء الأرض والمصير، فأمورٌ لا تليق…”.
وبعد، يعكس النص الذي بين أيدينا إصرار من مسيحيي المنطقة على الحضور الفاعل “…الحر والمثمر في حياة المجتمعات العربيّة”.. وعلى المشاركة في تصميم هيئة الوجود العربيّ المقبل في جميع أبعاده السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة…”وفي رسالة إلى الإسلام السياسي ترسل الوثيقة برسالة إليه من واقع الواصل والحوار: “وإنّنا نسألهم أن ينظروا إلينا وإلى أنفسهم نظرةً رحبةً منعتقةً من مقولات الفقه الدينيّ السياسيّ القديمة حتّى نتشارك في صياغة ميثاق جديد للمعايشة الإنسانيّة ترعى التنوّع في داخل مجتمعاتنا وتصون الاختلاف وتُهيّئ لأبناء الشرق أسبابَ العيش الكريم والانتعاش الوجوديّ والازدهار المغني.”
أظن، أن الوثيقة بما تضمنته استطاعت أن تستلهم روحية الحراك الثوري العربي وأن تترجمه إلى مبادئ حاكمة لحركة المسيحيين العرب الراهنة والمستقبلية. وعليه فإن هناك ضرورة لأن تتلقف كيانات المجتمع المدني الذي تجتاحه حركات مجتمعية جديدة مفتوحة أن تستوعب “المسيحيون” وتدمجهم في الحركيات الجديدة. كذلك على سلطة ما بعد الثورات أن تجتهد على تحقيق التوافق الوطني وتؤمن كل سبل الحضور على قاعدة المواطنة والمساواة التامة…إنه تحدي يفرض نفسه علينا جميعا…