ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأقباط والشريعة
بين
دستور” الحركة الوطنية” (1923)
ودستور” ولي الأمر” (1971)
(إطلالة أولية)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمير مرقس
يناير 2008
(أ) مدخل.
(ب) الأقباط بين دستورين.
(1) أنواع الدساتير.
أولا: الدستور الصادر من ولي الأمر.
ثانيا: الدستور الصادر في شكل تعاقد بين ولي الأمر وممثلي الشعب.
ثالثا:وضع الدستور بواسطة جمعية نيابية تأسيسية.
(2) دستور 1923: تعبير عن حركة وطنية “إدماجية ”
أولا: ثورة 1919 الطريق إلى دستور 23.
ثانيا : ماذا عن الأقباط والنصوص الدستورية الدينية؟محددات ثلاثة:
الموقف من السلطة السياسية.
الموقف من المجال العام.
الموقف من دين الدولة.
(3) دستور 1971: تعبير عن حالة سياسية “إقصائية”
أولا: السبعينيات من الدين للوطن إلى الدين للسياسة.
ثانيا: الأقباط واللحظة الراهنة.
إضفاء المقدس على المجال العام .
حدود المساواة وتكافؤ الفرص وإعمال المواطنة.
إشكالية حرية المعتقد وإقامة الشعائر الدينية.
ثالثا:الأقباط اتجاهات ثلاثة.
(ج) المواطنة الثقافية قاعدة للحوار المستقبلي.
(أ) مدخل
الحديث عن الأقباط والشريعة بعيدا عن السياق التاريخي والتطور السياسي لحركة الجماعة الوطنية المصرية بمكوناتها وألوانها السياسية المتعددة،يجعله حديثا – محض – دينيا،فهو يفترض مسبقا أن الكتلة القبطية كتلة متماثلة العناصر بحكم الرابطة الدينية،على الرغم من أن الواقع الاجتماعي يقول أنهم لايشكلون “جماعة مستقلة”،أو “كتلة مغلقة” بسبب أنهم غير متماثلين من حيث الانتماء الاجتماعي والسياسي،فهم منتشرون رأسيا في الجسم الاجتماعي المصري،ومنهم العامل والفلاح والمهني والحرفي ورجال الأعمال والتجار،ولا يربط بينهم سوى الانتماء إلى مصر من جانب،والانتماء الديني من جانب آخر،وبين هذين الانتماءين تفترق المصالح والتحيزات والرؤى و المواقف،أي بين الخاص والوطني العام الجامع،تتنوع حركة الأقباط بحسب المتاح في المجال العام.
ولاشك أن هذا الانتشار الرأسي في الجسم الإجتماعي المصري هو ما يحمي من عدم الوقوع في فخ قراءة الظواهر من منطلق التقسيم الديني للجماعة الوطنية فقط دون الأخذ في الاعتبار التقاطعات والتكافلات الأفقية. كذلك فهم أن الفشل في تطوير مؤسسات الاندماج الوطني على قاعدة المواطنة على مدى عقود والذي أدى إلى الارتداد إلى التكافلات الرأسية (الدينية والعشائرية،…)،لا يصلح أن يكون نقطة انطلاق وحيدة لتحليل الظواهر،وألا تكون القراءة الدينية لها هي القراءة المعتمدة للباحث دون غيرها،كون الظواهر مركبة ومتعددة / متداخلة المستويات، ومن ثم لابد وأن يتم التعامل معها من خلال النظرة المركبة 1. وعلى الرغم مما يبدو من أن هناك موقف واحد من موضوع الشريعة إلا أن هناك خطوط رفيعة جدا بين الأقباط فيما يتعلق بهذا الموضوع سوف نشير إليها.
وعليه فان مقاربتنا لموضوع الأقباط والشريعة تنطلق من السياق التاريخي للحركة السياسية المصرية من جهة،وللمسيرة الدستورية المصرية بإعتبار الدستور الوثيقة المرجعية العليا للمصريين من جهة أخرى. ولعل هذه المقاربة تعصم من الوقوع في مأزق الخطاب السجالي الذي” توجهه الرغبة في إبطال رأي الخصوم أكثر من أي شىء آخر.إنه خطاب الردود والردود على الردود،وبالتالي فهو لايبنى معرفة ولايبرهن على حقيقة..تجاوز السجال إلى نوع من البحث عن وجهة نظر جديدة أو قراءة معاصرة “2، وعليه فان مهمة الوصول إلى جهة نظر جديدة أو قراءة معاصرة ،أيا كان المسمى، تحتاج إلى رصد للتفاعلات الاجتماعية والسياسية في لحظة تاريخية معينة أنتجت دستورا من المفترض أنه يعبر عن المصريين وفي إطاره معرفة موقف الأقباط – تجاوزا- (الأقباط بتنوعهم وليسوا الأقباط الكتلة) من الشريعة. فالقراءة الأولى تقول أن ردود فعل الأقباط قد تباينت بين دستوري 1923و1971،ولكن من الأهمية بمكان أن نرصد أن الرؤية الإسلامية لفكرة الدولة (بما تتضمن من مفاهيم حول النظام السياسي والمواطنة ببعديها المساواة والمشاركة) قد تعرضت للاختلاف والتغير عبر “أجيال خمسة عاش كل جيل إشكالية الدولة على نحو خاص،وأنتج حولها خطابا”3 مغايرا.
ولعل مقاربتنا بهذا المعنى تعصمنا من السجال السياسي الضيق وتجعلنا نضع أيدينا على مكامن الاختلاف بغرض “تجديد رابطة المواطنة”4ودعم تماسك الجماعة الوطنية بما لا يخل بالمركب الثقافي المصري المتعدد العناصر. وبلغة أخرى تحرير موضوع الشريعة من السياسي الآني،و”التمييز بين ما هو معرفي وما هو أيديولوجي،بين ما هو حقائق تاريخية وماهو مجرد هوى ورغبات ذاتية…ذلك لأن موضوع الدين والدولة وتطبيق الشريعة من الموضوعات التي تتأثر بالسياسة وتخضع لحاجاتها ومنطقها .”5 أظن ما سبق ضرورة لابد من التأكيد عليها لتكون ضمانة لكي يبلغ الحوار هدفه المرجو،خاصة وأن الخبرة تقول كيف تحولت الحوارات حول التعديلات الدستورية في السنة الماضية إلى سجالات حادة وبخاصة حول المادة الثانية من الدستور الخاصة بدين الدولة والشريعة الإسلامية،المفارقة أن هذه المادة لم تكن من ضمن المواد المطروحة للتعديل من الأصل،وهو ما يعكس إلى أي مدى تصل درجة الاحتقان والاستقطاب في الحالة المصرية. ويشار كيف أن أي حديث دستوري قد يتناول العلاقة بين الدين والدولة بات من ” أكثر الأمور حساسية…لما قد تثيره من خلاف وانقسام”6 هو في الأساس سياسي وله طبيعة صراعية لا يمكن أن يوصل إلى أي صيغ وطنية توافقية بقدر ما قد يؤدي إلى تأجيج الفتنة ،حيث سوف يتشح السياسي بالديني.
في ورقتنا هذه سوف نقارب الموضوع من خلال السياق التاريخي والتطور الدستوري كما ذكرنا،وأخذ كل من دستوري 1923و1971 لتوضيح التباين في ردود فعل الأقباط فيما يتعلق بالنصوص الخاصة بدين الدولة ولاحقا الشريعة الإسلامية. وقد قمنا باختيار هذين الدستورين لأهميتهما القصوى في تاريخ مصر ،فالأول يعد نقطة فارقة في تاريخ مصر السياسي وترتب عليه تحول جذري حقيقي،ولأن الثاني نموذج نقيض للأول من حيث طبيعة الإصدار كما سيبين لنا،كما أنه لم يزل محل جدل بعد ما يقرب من أربعة عقود.
(ب) الأقباط بين دستورين
ربما يكون من المفيد قبل استعراض موقف الأقباط من دستوري 1923 و1971، أن نعرف أنواع الدساتير كمدخل إجرائي يعيننا في طرحنا كما سنرى.لا تنفصل فكرة الدستور عن فكرة الجماعة السياسية،ومن ثم فان كل جماعة سياسية تتحرك في إطار كيان سياسي يصح أن يكون لها دستورا. ونتيجة لما سبق تتعدد طرق إصدار الدساتير،ويرصد أساتذة القانون الدستوري7 من خلال الخبرة التاريخية في العديد من دول العالم أنواع عدة من الدساتير،لن نتعرض لها كلها ولكن سنذكر ما يفيد موضوعنا، وذلك كما يلي:
(ب-1) أنواع الدساتير:
الدستور الصادر برغبة من ولي الأمر،
الدستور الصادر في شكل تعاقد بين ولي الأمر وممثلي الشعب،
الدستور الصادر بواسطة جمعية نيابية،
أولا: الدستور الصادر كرغبة من ولي الأمر:
يعتبر هذا النوع من الدساتير على حد قول الفقيه بارتلمي،وليد إرادة صاحب السلطان،ويرى رجال الفقه الدستوري أن صدور الدستور من قبل ولي الأمر،دليل على تأخر الروح الديمقراطية،بل يعتبر بعض الشراح ذلك الأمر،خدش لكرامة المواطنين.
ثانيا: الدستور الصادر في شكل تعاقد بين ولي الأمر وممثلي الشعب:
يمكن أن يكون الدستور نتيجة اتفاق بين الشعب وولي الأمر، ويعيب بعض الشراح على هذه الطريقة أن ولي الامر يعد نفسه مساويا للأمة،مع إنه في الواقع لا يشاركها حق السيادة،إذ أن السيادة الشعبية ملك للأمة دون شريك.لذلك لا يجوز أن يشاطر ولي الأمر الشعب في إبرام عقد يحدد اختصاصات ممثلي الشعب،وإن كان عمليا لا يكون الدستور في شكل عقد،إلا بعد نضال يغلب فيه ولي الأمر على أمره،لصالح الشعب.
ثالثا:وضع الدستور بواسطة جمعية نيابية تأسيسية:
يصنف الدستور الذي يوضع من قبل جمعية نيابية تأسيسية بأنه الأقرب إلى الديمقراطية الصحيحة،فمن يقوم بوضع الدستور جمعية منتخبة من الشعب أو مفوضة منه.ومعظم الدساتير التي صدرت بعد الحرب العالمية الأولى من هذا النوع. ويؤيد الدستور الذي يصدر بهذه الكيفية مبدأ “الأمة مصدر السلطات”،وفي الأغلب يكون هذا الدستور ملاءما للمجتمع،ويتمسك به الشعب،مما يحول أن تعبث به الهيئة الحاكمة،وبالأخير احترام إرادة الشعب وتقدير قدسية الدستور.
في ضوء ما سبق يمكن القول أن دستور 1923، بدرجة أو أخرى، ينتمي من حيث طبيعته وطريقة وآلية صدوره إلى النوع الثالث من أنواع الدساتير،كما أسلفنا،فدستور 23جاء معبرا عن مسيرة الحركة الوطنية المصرية في صورتها “الإدماجية”.
كما يمكن أن نقول أن دستور 1971 هو أقرب للنوع الأول من الدساتير الذي صدر بمبادرة من ولي الامر أو في أحسن الأحوال في شكل تعاقد بين ولي الأمر وجانب من ممثلي الشعب،ولا يمكن أن نفصل طبيعته هذه وطريقة صدوره عن السياق الذي صدر فيه والذي كان يتسم بالصراع و “الإقصائية”.
كيف؟
(ب-2) دستور 1923: تعبير عن الحركة الوطنية “الادماجية”
أولا: ثورة 1919 الطريق إلى دستور 23:
تعد ثورة 1919 نقطة تحول كيفية في مسيرة الحركة الوطنية المصرية، وذلك من زاويتين:
الأولى تعدد القوى الاجتماعية والسياسية المشاركة في الثورة،
والثانية تحقق التكامل الوطني بين المسلمين والأقباط بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر.
- بالنسبة للزاوية الأولى، نجد مصر وقد شهدت تحركاً جماهيرياً شاملاً من أجل الاستقلال، الأمر الذي يعني في تاريخ المجتمعات والشعوب المدخل لتكوين الجماعة السياسية الوطنية، فما التحرك الجماهيري والشعبي إلا مدخل نحو بدء الانطلاق لتأسيس هذا التكوين، فلقد عكست ثورة 1919 رغبة عامة في “تكوين الجماعة السياسية تكويناً مصرياً، ومزج الأهالي في كيان سياسي واحد وإيجاد الصيغة الملائمة لتأكيد قوة التماسك القائمة بين الأهلين”8 ، وعليه لم يكن غريباً أن يعتبر الباحثين ثورة 1919 “ثورة نموذج”، من حيث قدرتها على استيعاب القوى الاجتماعية المختلفة وطرحها شعارات التف حولها الناس مثلت تعبيراً حياً لحاجة طالما اشتاق لبلوغها المصريون، وقد كشف تطور المجتمع المصري أبان الحرب العالمية الأولى عن ظاهرتين هما:
” أولاهما: الضغط الهائل وغير الطبيعي من الفلاحين الفقراء والمتوسطين إلى جماهير المدن من البروليتاريا والحرفيين وصغار التجار منضماً إليهم جماهير المتعلمين والموظفين وصغار الضباط. وبالتالي فإن التناقض كان حاداً وعدائياً بين هذه الفئات وبين الإمبريالية المتمثلة في الاحتلال والحماية.
والظاهرة الثانية: أن تطور البرجوازية المصرية أثناء الحرب وتوسعها إلى حد ما، وزيادة ثروتها قد أدى إلى نمو وعيها وإحساسها بأهمية السوق الوطنية. أو بتعبير آخر أن مصر العشرينيات لم يعد بالإمكان إخضاعها للأنظمة الإمبريالية لأن صناعتها الناشئة جعلتها في موقف المعادي للاتفاقات التجارية الاستعمارية وهذا هو التناقض العدائي الثاني بين البرجوازية من جهة والاحتلال من جهة أخرى”9
ويرسم لنا أحد الباحثين صورة للمشهد توجز تفاصيله في وجود “قطبين رئيسيين في الحركة هما:
البرجوازية الناشئة كقطب أول، بما تضمنه وتجذبه من مثقفين ومتعلمين وغيرهم. وهذه الطبقة احتلت قمة التعبير السياسي “الأيديولوجي”.
أما القطب الآخر في الحركة الثورية فكان في القاعدة، ومثلته الجماهير الفقيرة المسحوقة وما جذبته من مثقفين ومتعلمين وغيرهم. وقد دار حول هذين القطبين الطبقات العليا من المجتمع التي أضيرت بفعل ظروف الحماية والحرب”10
- بالنسبة للزاوية الثانية، يمكن القول أن ثورة 1919 قد استطاعت أن تضع في
بؤرة الحدث حركية جديدة مثلت ذروة في العلاقة بين مكوني الجماعة الوطنية، حيث اتجهت بها نحو تحقيق” الاندماج الوطني” بات مثالاً يقاس عليه،فلقد “ارتفعت بقضية التكامل القومي بين المسلمين والقبط إلى مستوى لم تبلغه من قبل. ذلك أنه إضافة إلى المفاهيم التي طرحتها “الشعب الواحد” و “الجامعة القومية” و “المواطنة” فإن تجربة هذه الثورة مازالت تشكل في التراث التاريخي المشترك أحد الأطر المرجعية الرئيسية التي تتم استعادتها كلما وقعت أزمة في العلاقة بين القبط والمسلمين”11. كما نجحت في أن تبلور المواطنة من خلال “الالتفاف القاعدي”من جموع المصريين حولها والتي أعطت للمواطنة “مضموناً جماهيرياً اجتماعياً”12 ، ولعل القارئ للتاريخ يمكنه أن يرصد كيف أسست ثورة 1919 مساراً جديداً تحركت في إطاره الجماعة الوطنية ولفترة زمنية غير قصيرة انعكست بشكل واضح في المشاركة السياسية للمصريين وبخاصة الأقباط .
ولعل المشاركة الإيجابية من قبل كل القوى الوطنية ومن ضمنهم الاقباط في بلورة دستور 1923أحد أهم تجليات النضال الجماهيري على أرض الواقع، فكان النقاش الدستوري إدماجيا فلم يقص أحدا،وكان بحق ،بدرجة أو أخرى تعبيرا عن النموذج االثالث من الدساتير ويمكن أن نعده من ضمن الدساتير الديمقراطية التي صدرت آنذاك عقب الحرب العالمية الأولى . فلقد جاءت النصوص،بدرجة أو أخرى، معبرة عن نضال الناس،وتبلورت بحسب أستاذنا الراحل وليم سليمان قلادة لحظة تمثل القمة في تاريخ تطوري طويل ومعقد للغاية، لحظة يطلق عليها
“لحظة الحق الدستورية”13؛
فالنظام الدستوري الأصيل والفعال لا يقوم بمجرد إعلان مبدأ أو نص موضوع أو مستورد،وإنما تكون له فاعلية إذا كان تعبيرا عن جهد الناس لاستخلاص حقوقهم،وإذ تصل الجماعة من خلال حركتها إلى إجماع ..يصير التعبير عن هذا الإجماع في النص..من أجل المشاركة في الحكم واكتساب حقوق المواطنة. إن هذه الحركة القومية هي التي جعلت الدستور يميل للناس، وأن يكون لهؤلاء الناس نصيب حقيقي في الحكم من خلال ممثلين وثقوا فيهم، فكانوا من الأمانة أن يتمسكوا بنصوص الدستور لأنها تعبير عن نضال الناس من أجل تقليص سلطة الحاكم،وإرساء تقاليد دستورية محترمة..وأن يكون الدستور هو المرجع الذي يرجع إليه و الحكم الذي يحتكم إليه..ومعيارا للحكم الصالح من أجل الخير العام.وعليه لم يكن تمسك زعماء الثورة:سعد زغلول ومصطفى النحاس على التوالي، بأحكام الدستور مجرد تمسك بنصوص وإنما بما أنجزه المصريون، وبداية تبلور ارهاصات التقاليد الدستورية بضرورة الامتثال للدستور،لأنه “واجب الامتثال “14 .
ثانيا : ماذا عن الأقباط والنصوص الدستورية الدينية في دستور 23؟
“محددات ثلاثة”
لقد كانت ثورة 1919تعبيرا عن الحداثة والتحديث في آن واحد؛ القدرة على الانفتاح على الجديد في العالم (التحديث) والقدرة على الابتكار الذاتي بالتفاعل مع هذا الجديد(الحداثة). لم تكن لهذه الحداثة أن تتشكل إلا في سياق تاريخي تكون هي من نتائجه بكل ما يرافق ذلك من روح نقدية تجاه ما هو تقليدي،ومع انقطاع مع الغيبي والخرافي،وفي سياق التطور الاجتماعي والثورة على البنى المتآكلة. في هذا السياق ينبغي فهم المادة 149 وهي المادة الأولى من الباب السادس المعنون”أحكام عامة” من دستور 1923والتي نصت على ما يلي:
” الإسلام دين الدولة ، واللغة العربية لغتها الرسمية”.
فلماذا حدث الإجماع .
لقد تبلور الإجماع حول الدستور الجديد من قبل المشاركين في لجنة الدستور والتي كانت تضم 30 عضوا بالإضافة إلى رئيسها حسين رشدي باشا ونائبه أحمد حشمت باشا،مثل غير المسلمين ما يقرب من 20% من تشكيلها. وعليه ففي ضوء طبيعة الثورة التي لم تقص أحدا وكانت إدماجية الطابع، وجاء الدستور تعبيرا عن ذلك كما أوضحنا ،نجد أن الأقباط لم يخرجوا عن إجماع الجماعة الوطنية بالرغم من وجود النص المذكور، ذلك لأن هناك محددات ثلاثة حاكمة في موقف الأقباط من الإندماج أو الإنكفاء، وذلك كما يلي:
طبيعة السلطة السياسية،
المجال العام،
دين الدولة.
بالإضافة إلى ما أوردناه حول ثورة 1919 وطبيعتها وملامحها،يشار إلى أن مصر دخلت القرن العشرين تحمل فقها إسلاميا يعبر عن الروح القومية المصرية التي كانت آخذة في التبلور وتتفق مع منطق التطور الذي بدأت تشهده مصر آنذاك والتلاقي بين الحداثة والتحديث.
طبيعة السلطة السياسية:
كان الموقف من طبيعة السلطة السياسية محسوما من قبل كل القوى الوطنية في مصر،من واقع الخبرة على أرض الواقع،ومن واقع التطور الفقهي الذي إختبرته مصر. فلقد كان الامام محمد عبده رافضا أن يكون نصيرا لقيام سلطة دينية في المجتمع بأي وجه من الوجوه وفي هذا المقام كان يقول:
” إنه ليس في الإسلام سلطة دينية،سوى سلطة الموعظة الحسنة..وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها ..وأن الحاكم مدني من جميع الوجوه.15
أما عن المجال العام:
لقد كان المجال العام مجالا للقاء المصريين دون تمييز،حيث اتسم بأنه زمني / نسبي / مدني السمات لا يمكن وصفه بإنه “ثيوكراتيك” 16(أي ديني) بحسب الإمام محمد عبده. ولا ينفي الإمام وجود السلطان الديني والسلطة الدينية عن القيادة السياسية العليا للمجتمع فحسب،بل وينفي اعتراف الإسلام بها أو إقراره لها بالنسبة لأية مؤسسة من المؤسسات التي تمارس سلطة من السلطات . ويقول الإمام:”إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الاحكام،وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قدرها الشرع الإسلامي،ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد،أو عبادته لربه،أو ينازعه في طريقة نظره”.17
في هذا السياق يأتي الموقف من الأحزاب وضرورة أن تكون مدنية ،وتأتي صياغته لبرنامج الحزب الوطني المصري سنة 1881لتؤكد هذا التوجه.ففي المادة الخامسة من هذا البرنامج يقول:”الحزب الوطني حزب سياسي، لا ديني ،(أي ليس حزبا دينيا..وليس بمعنى أنه ضد الدين،تعليق د.محمد عمارة في الجزء الأول من الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده،ص 109)، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب،وجميع النصارى واليهود،وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه،لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات،…وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية،وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الازهر.”18.
أما عن الموقف من دين الدولة
يبدو لي أن موقف غير المسلمين من النص بأن الإسلام هو دين الدولة، لم يضف للواقع شيئا ، فهي حقيقة من جهة،كما أن الإسلام هو دين غالبية السكان من جهة أخرى،وأتصور أنه من هذين المنطلقين لم يجد الاقباط ما يجعلهم يتخذون موقفا انكفائيا.
خلاصة القول،مثلت ثورة 1919 ودستورها حالة إدماجية،أنتجت صيغة تلاقي بين الحداثة والتحديث،وبين المسلمين والمسيحيين،وبين الوطنية والدين ، وتفاعل الفقه مع حركة الواقع،ونتج عنه ،إن جاز التعبير، ” فقها وطنيا “بامتياز خطابه إصلاحي مدني. لقد وثق المصريون بأنفسهم بحسب،أستاذنا طارق البشري،ومن ابتعاد حركتهم من شبهة الخلاف الطائفي،وبدوا مسيطرين على موقفهم تماما …وبدوا فرحين واثقين كانسان وجد نفسه 19.
(ب-3) دستور 1971: حالة سياسية” إقصائية”
أولا: السبعينيات من الدين للوطن إلى الدين للسياسة:
دخلت مصر حقبة السبعينيات بإصدار دستور جديد،فكان دستور 1971،والذي يمكن تصنيفه بحسب طريقة وضعه أنه دستور صادر عن ولي الأمر، بحسب أنواع الدساتير كما ذكرنا ، في سياق سياسي طابعه صراعي وإقصائي. فباستقراء حركة النظام فسوف نجد أن “مجمل سياساته قد اتجهت تارة بالتدريج وتارة بانعطافات حادة إلى إحداث انقطاع”20 مع المسيرة التاريخية سواء ما تم انجازه في مصر مطلع القرن العشرين أو الخمسينيات والستينيات. والمفارقة الكبرى التي أثارت الريبة هو محاولة النظام الجديد في أن يجمع بين نقيضين الدخول في تقسيم العمل الدولي الجديد،والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية تحت ما عرف بسياسة الإنفتاح من جهة،وأن يوظف الدين في تثبيت أركان الحكم وتوجهاته من جهة أخرى. فلقد كان”طرح النظام لمسألة الشريعة، يعني استخدامها كأداة سياسية للمناورة،والتغطية على عمليات التغيير الأيديولوجي – الاجتماعي – والسياسي، والتي ستجرى لصياغة نظام الانفتاح الاقتصادي” 21. ولعل أهم ما يمكن أن نرصده في هذا السياق أربعة أمور ما يلي:
أن الدستور الجديد وضع في لحظة سياسية صراعية بين القوى السياسية، وهو أمر يختلف جذريا عن السياق الذي وضع فيه دستور 1923.
تنامي خطابات إسلامية مغايرة عن الخطاب الإصلاحي الذي أنشغل بالدولة الوطنية في مطلع القرن العشرين. خطابات ثلاثة أخري يمكن رصدها انشغل الأول بدولة الخلافة،والثاني بالدولة الإسلامية،والثالث بالدولة الثيوقراطية 22.
في ظل هذا التحول صدرت كتابات وراجت على المستوى القاعدي،تعيد النظر في الوضع الفقهي للأقباط كذلك التعامل مع الأقباط كجماعة دينية.
بدء عمليات عنف منظم تجاه الأقباط.
خلاصة القول، ساهم ما سبق والذي يقع في مجمله في إطار المجالين العام والسياسي،في إنكفاء الأقباط. فالتقنين المصري منذ الأربعينيات يعمل بحسب المبادىء العامة الكلية للشريعة الإسلامية.23 وعلى الرغم من أن المادة 46 في الدستور الجديد نصت على أن “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية” دون إشارة إلى العادات المرعية التي كانت تتضمنها الدساتير السابقة بما فيها دستور 23 ، إلا أن الواقع لم يدعم هذا النص وظهر الخلاف جليا حول حكم الشريعة فيما يتعلق بالتعاطي مع هذا النص وبخاصة في الأعوام الأخيرة .
لاشك أن اللحظة السياسية الصراعية والإقصائية بما أدت إليه من أمور أربعة أشرنا لها، لم تعط فرصة إنه عند التفكير في إقرارالمادة الثانية من الدستور والخاصة بالشريعة الإسلامية،”يكون من حق الجميع – بموجب حقهم في المواطنة – أن تبسط أمامهم وجهات النظر الإسلامية،وأن يبين الفارق بين الأحكام القطعية الثابتة وبين الآراء والاجتهادات الفقهية التي يمكن أن يؤخذ منها ويترك،والتي يمكن أن تتعدل بمراعاة الزمان والمكان ، وأن يجري الحوار الفقهي حثيثا حول الجوانب التطبيقية والتفسيرية،لإمكان الوصول إلى الصياغات التي يمكن أن تحتضن غالب إيحابيات تجاربنا التاريخية وخبراتنا،وذلك في الإطار العام للشرعية المهيمنة الآخذة من الشريعة،وبما يستجيب لحاجات البيئة والعصر ويتوخى جلب المصالح ودفع المفاسد.” 24
وسرعان ما بدا تيار الإسلام السياسي في إطار الصراع السياسي بينه وبين النظام السياسي من جانب،وبينه وبين التيارات السياسية الأخرى من جانب آخر،يتحرك في إعداد مشروعات دستورية لبلوغ الدولة الإسلامية المرجوة،فأعدت في منتصف السبعينيات مشاريع قوانين الحدود المستمدة من الشريعة الإسلامية 25 ، ولعل من الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المقام وأثرت على الأقباط سلبا هو عدم قبول جواز شهادة غير المسلم في المحاكم. وتوالت المشروعات والدراسات 26 في هذا الإتجاه وكلها تصب في التعامل مع الأقباط كأهل ذمة . بيد أن الاهم من ذلك أن هذه الجهود تمت بعيدا عن التراكم الدستوري الذي تم من قبل، وكان يقدم نموذجا تجديديا لكيفية تحديث البنية القانونية المصرية على النحو الذي قام به الفقيه السنهوري في تعامله مع القانون المدني المصري الذي صدر عام 194927 ، أو وفق آليات التجديد التي عرفتها البنية القانونية المصرية تاريخيا28 . في هذه الأثناء أنتشرت كتابات الجهاد و الجماعة الإسلامية التي كان لها في المجمل موقفا سلبيا من غير المسلمين.
ومن المفارقات الهامة التي يجب أن نسجلها هنا أن الكتابات الإخوانية – باعتبار الإخوان التيار الرئيسي للإسلام السياسي – في هذه الفترة – وربما إلى الآن – جاءت أدنى بكثير مما جاء في مشروعهم الدستوري الذي قدموه في العام 1952،وصاغه الدكتور طه بدوي،وقدمته الشعبة القانونية لجماعة الإخوان آنذاك 29 وجاء فيه :
إعلاء لفكرة الدولة القومية الحديثة التي تستند إلى تنظيمات سياسية وقانونية،
لم يضع حظرا على تولي المناصب أو شروطا تفرق بين المصريين ،
التزم استخدام تعبيرات من نوعية أحكام الإسلام،….
وفي العام 1995،نشر المشتشار الهضيبي مشروع ميثاق وطني استلهم بنوده من دستور 1952بيد أنه مال إلى التشدد وبخاصة في مجال الحريات،ووضع قيدا على منصب الولاية العامة، وقد جاء برنامج الإخوان الحزبي يحمل هذه الروحية بالرغم من بعض الملاحظات الإيجابية التي لاحظناها إلا أن بعض الالتباس لم يزل متوفرا30. ويؤكد ما سبق على أهمية اللحظة التاريخية:وطنية إدماجية أم سياسية إقصائية.
ولاشك أن “غلبة الصراع السياسي على التشريعي والقانوني ساهمت في نقل مسألة الشريعة من مستوى الطرح الفني والقانوني إلى مستوى الشرعية السياسية ” 31 والمجال العام، وهما محددان أساسيان أثرا على موقف الأقباط من قضية الشريعة وما يترتب عليها.
ثانيا:الأقباط واللحظة الراهنة:
إن القراءة الإجمالية للخطابات الإسلامية والتي طرحت موضوع الشريعة في السياق السياسي في إطار بناء دولة الخلافة او بناء الدولة الإسلامية أو الدولة الدينية من جهة، وبمعزل عن خطاب التيار الإصلاحي الذي استطاع أن ينجز إجتهادات معتبرة سقفها أعلى بكثير مما جاء في الخطابات الثلاثة سالفة الذكر والتي بات لها رواج في الواقع الثقافي المصري. ولعل من أهم الإشكاليات التي يمكن رصدها وتعد من المحددات العامة لموقف الأقباط من الشريعة، وتطرح السؤال كيف يمكن للشريعة أن تحلها،هذه المحددات هي كما يلي:
إضفاء المقدس على المجال العام .
حدود المساواة وتكافؤ الفرص / إعمال المواطنة.
حدود حرية المعتقد وإقامة الشعائر الدينية.
إضفاء المقدس على المجال العام .
وأقصد به تحول العمل العام السياسي والاجتماعي إلى عمل ديني يصبح بموجبه التنافس في هذا المجال / الشأن بين أسلام و مسلمين وغير مسلمين وليس بين تيارات وتوجهات وأفكار متنوعة قابلة للاختلاف . فرفع شعار الإسلام هو الحل جعل من مجال مدني الطابع أن يصبح دينيا ويجعل التنافس السياسي والمدني تنافسا مع مطلق وهو ما يحمل ضمننا أعادة تقسيم المجال العام على أساس ديني ومن ثم يصبح الأقباط بالنتيجة كتلة دينية طائفية 0ان إضفاء” المقدس” أو “الديني” على الشأن العام كبديل السياسي والمدني يمثل إشكالية لابد من التعامل معها إشكالية الديني والمدني وحدود كل منهما 0
حدود المساواة وتكافؤ الفرص وإعمال المواطنة
واقصد بها حدود الشريعة في إطلاق المساواة في كل أمور الدنيا أو بتعبير أخر للمواطنة وما تنطوي علية من حقوق وواجبات واقتسام موارد .وهنا لابد من الإشارة إلى ما يتعلق بقضايا مثل :تقلد المناصب العامة ، وحدود الفهم العملي والتطبيقي لمفهوم الولاية 0وفى هذا المقام من الأمانة أن أشير إلى ما هو متواتر أن هناك تصورا لدى البعض في الجماعة بعدم التسليم بالمساواة الكاملة انطلاقا من أن الإسلام لا يرتب لأهل الكتاب غير الحماية وحرية الاعتقاد والممارسة الدينية والرحمة في مقابل أدائهم للجزية .
إشكالية حرية المعتقد وإقامة الشعائر الدينية
في هذا المقام تثار كثير من التساؤلات حول إعمال المادة 46 من الدستور المصري على أرض الواقع من حيث حدود هذه الحرية والتمكين من إقامة الشعائر الدينية.
وأتصور أن هذه الإشكاليات تحكم إلى حد كبير الموقف من الشريعة بخاصة لبعدها عن أطروحات وإجتهادات معتبرة أنجزها الشيخ يوسف القرضاوي،والمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا،والأستاذ فهمي هويدي. ويشار هنا إلى كيف أوضحت المراجعات التي تمت مؤخرا من قبل الجماعة الإسلامية والجهاد التصورات الشرعية التي تعبر عنها أدبياتهم .
ثالثا:الأقباط اتجاهات ثلاثة:
وفي هذا المقام ربما يكون من المفيد الإشارة إلى أنه بالرغم من أن الصورة العامة تقول أن هناك موقفا قبطيا واحدا تجاه الشريعة إلا أن المسح الأولي للعديد من الكتابات والتصريحات تشير إلى وجود اتجاهات ثلاثة بين المصريين من المسيحيين من نحو الشريعة وذلك كما يلي:
إتجاه مدني ثقافي يقبل بالصياغة الحالية في إطار الخصوصية الثقافية المصرية مع تفعيل المواطنة على أرض الواقع بغير شروط في ضوء الخبرة التاريخية،وينطلق هذا الاتجاه من أن البناء القانوني المصري بصيغته “الأصيلة المتجددة” لا يمثل عائقا في طريق المواطنة.
إتجاه ينطلق من أرضية دينية ويطرح أسئلة متنوعة على الشريعة لكي تجيب عنها. وينقسم هذا الإتجاه إلى تيارين: الأول يقبل بالصياغة الحالية ويطالب بقوانين تفصيلية في القضايا دينية الطابع بالأساس مثل : بناء الكنائس،والتحول الديني.والثاني يطالب بإعادة صياغة المادة الثانية بتوسيعها لقبول الأديان الأخرى والمذاهب والمواثيق العالمية كمصادر للتشريع،وهناك من يذهب إلى إضافة نص خاص بالأديان الأخرى مثلما جاء في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية(المادة 13).
إتجاه ينطلق من أرضية علمانية (بالمعنى السياسي) يطالب بإلغاء المادة الثانية أو أي نص ذات دلالة دينية.
وبعد،أتصور أن الحديث وحتى يكون مكتملا يحتاج إلى إعادة فتح الحوار حول الإشكاليات المثارة شريطة أن يكون هذا الحوار محررا من السياسة وبعيدا عن مصالحها الضيقة وإستعادة الحالة الوطنية التي تسمح بالتفاعل والتواصل وتجديد رابطة المواطنة،من خلال إستعادة المجال العام ليكون مجالا حيويا جامعا بين المصريين ويكسر ما أسميه العزلة الآمنة التي لجأ إليها الأقباط ، ويدفع الفكر الإسلامي بتقدبم الأفضل لتجاوز طروحاته عن الحضور المشروط ويعمل الجميع معا لمقاومة الانسداد السياسي 32…وفي هذا المقام أطرح مفهوما للنقاش هو المواطنة الثقافية،ماذا نعني بذلك.
(ج) المواطنة الثقافية قاعدة للحوار المستقبلي
يأتي مفهوم “المواطنة الثقافية “33 Cultural Citizenship, أو المواطنة في بعدها الثقافي ليعيننا في فهم مدى حضور الخصوصيات الثقافية المتنوعة فيما أسميناه ” المجال الحيوي الفاعل ” أو عملية المواطنة في شمولها من عدمه, وتعني المواطنة الثقافية ما يلي:
” أنها الحق في المشاركة – الثقافية – في المركب الثقافي العام لمجتمع بعينه.. ” 34،
أي أنها العملية التي من خلالها يكون للخصوصيات الثقافية حق المشاركة في المركب الثقافي العام لمجتمع من المجتمعات, شريطة أن تكون هذه الخصوصيات في حالة تفاعل بما يفيد تقدم هذا المجتمع.في هذا المقام تؤخذ في الاعتبار عدة أمور و ذلك كما يلي:
- إن المركب الثقافي العام الأحادي البسيط الغير قادر علي استيعاب التنوع الثقافي والتعددية يعكس إن هناك مشكلة ما.
- أن حضور الخاص في العام لا يعني الإلغاء أو الاستيعاب طالما أن القضايا و الأهداف محل اهتمام هذه الخصوصيات تصب في اتجاه الخير العام.
- أن يكون المركب الثقافي العام من “البراح” في إتاحة المساحات المطلوبة للخصوصيات الثقافية في أن تعبر عن نفسها.
و يؤكد ترنر على أن تحقق المواطنة الثقافية يتجلى في عدة أمور منها:
1. تمثيل الهوية الثقافية الخاصة في المركب الثقافي العام بالتساوي مع الهويات والخصوصيات الأخرى.
2. إدراج التاريخ الثقافي للخصوصيات المتنوعة ضمن التاريخ العام و الذاكرة القومية.
3. حرية التعبير الكاملة للخصوصيات و إبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية بصورة يألفها الجميع.
إن شعور أحد أطراف عملية الاندماج بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، و أن باقي الأطراف عليهم التحرك تحت سقف أطروحات بعينها باعتبارها مطلقة وغير قابلة للنقد،وهو ما يعني إضفاء “المقدس” على المجال العام،إنما يعد أمرا خطيرا لأن المجال العام الذي من المفترض أن تلتقي فيه كل الجماعات ليس مجالا للقاء المقدسات . لذا فالاندماج هو عملية مجتمعية Societalشاملة تحتاج إلى جهد وانفتاح وإعادة القيمة للدولة القومية المؤسسة على المواطنة والاقتصاد الإنتاجي والاستقلال الوطني.
الخلاصة لا يمكن أن يكون هناك بشر يعملون ويعيشون معا في مجتمع ما من أجل مستقبلهم المشترك من دون أن يكون لهم
حضور فاعل ومشاركة حقيقية(أي مواطنة)..إلا ـ كما يقول هابرماس ـ بتمسك جميع المواطنين الصارم بما أسماه:
“الولائية الوطنية الدستورية 35 Constitutional Patriotism ،
والتوزيع العادل للثروة بين الجميع ،
على قاعدة المواطنة الثقافية التي تعني المساواة الثقافية 36،
وضمان التكافؤ في التعبير عن خصوصية مكونات الجماعة الوطنية”.