العروبة في المرحلة الراديكالية

العروبة في المرحلة الراديكالية

سمير مرقس 

2009
“… إن الجدل المتجدد حول الهوية إنما يعبر عن ” مناحرة جوانية” بين الدعاة المختلفين لعناصر نفس التركيبة. حيث أحيانا ما يتخذ التصارع داخل البيت الواحد أبعادا حادة, حين يحاول كل داعية الإبراز الأقصى للعنصر الذي يعبر عنه ربما إلى حد استبعاد بقية العناصر أو على الأكثر إعلان قبول وجودها لفظيا لكن بنصف قلب إن لم يكن بقلب ميت… كيف يمكن استخلاص العناصر البناءة في كل من الوطنية المصرية و القومية العربية و الأصولية الإسلامية و دمجها معا في مشروع واحد للتقدم…”؟

د. أحمد عبد الله رزة 

أشواق و اعتذارات ،
واحترام لذهنية علمية،
و حيوية سياسية
نفتقدها …
المحتويات
(1) مقدمة فرضها الواقع

(ب) ثورة يوليو 1952:استجابة راديكالية لواقع مأزوم

(ج) العروبة في المرحلة الراديكالية

أولا : في ضوء الإستراتيجية والسياسة
والتاريخ / الجغرافيا والثقافة.

ثانيا: في ضوء السوسيولوجيا / الحركة
الثورية البازغة.
(د) العروبة في المرحلة الراهنة
(أ)
مقدمة فرضها الواقع

بدأت أكتب هذه السطور قبل نهاية الأسبوع الأول من الغزو الإسرائيلي لغزة.ووقعت في مأزق غاية في التعقيد.فمن المفترض أن أتناول موضوع العروبة في المرحلة الراديكالية أي في الفترة الناصرية، تحديدا،بغية تقييم هذه المرحلة ومحاولة الإجابة في ضوء القراءة التاريخية، في نهاية الورقة، على سؤال الندوة العام :أية عروبة نريد؟
إذن التواصل بين تاريخ التجربة “العروبية” في مرحلة الستينيات وبين إمكانية تجديدها في المستقبل هو الهدف الرئيسي للورقة.بيد أنني لم أستطع التحرر من ثقل الحاضر من جهة ، والوهن العربي الراهن من جهة أخرى. ففي اللحظة التي بدأت أخط فيها الكلمات الأولى للورقة حول العروبة في تجليها البارز وقت عبد الناصر، بدأ الكيان الصهيوني يطلق آلته العسكرية العمياء نحو كل شيء وفي شتى الاتجاهات. فكانت ردة الفعل”الحمساوية” تقاوم إنطلاقا من أيديولوجية دينية ـ حصرا ـ ،و يتحرك تحت مظلة هذه الأيديولوجية جانبا من جماهير المنطقة.
وبدا الانقسام يسري في ثنايا المشهد العربي:
بداية من الهيكل العام للنظام الإقبيمي العربي ـ الذي أنهكته الكثير من المحن العربية المتكررة ، ـ ربما منذ حرب الخليج الأولى ـ ،
ومرورا بالشارع العربي،
وأخيرا طال الانقسام البيت الفلسطيني نفسه1.

وهو وضع من شأنه أن يربك أي باحث،خاصة وأنه لا يملك أن يفصل نفسه عن الواقع ومعطياته التي تمثل من الناحية العلمية البنية الأساس للمستقبل. والنتيجة أن يصبح السؤال الرئيس :”أية عروبة نريد؟”،في غير محل،وفي غير سياق،لأن السؤال الذي سوف يفرض نفسه:”عن أية عروبة نتحدث؟!” .
ويصبح المرء أمام أحد أمرين:الأول أن يبقى في الماضي، باحثا ومحللا، مؤيدا أو ناقدا، ممتنعا، بإرادته أو على غير إرادته، التعاطي مع الواقع ومن ثم المستقبل. الثاني أن تستكمل الدراسة التاريخية برؤية افتراضية للمستقبل قفزا على الواقع،الذي يتسم بالتناقضات الشديدة بين الدول العربية. هذه التناقضات التي تعكس تدهورا عربيا بامتياز بسبب غياب الرؤية وعدم القدرة على توظيف المقدرات العربية التوظيف الأمثل وتعطيل كل الآليات التي من شأنها تفعيل العمل العربي المشترك. الأكثر من ذلك هو ما تتعرض له المنطقة لما أسميه “فيروس التفكيك”2 على أسس دينية و مذهبية وعرقية و..الخ.

والسؤال الذي يلح بقوةـ في ضوء ما سبق ـ هل قدر أوطاننا أن تعيد النقاش كل فترة زمنية في القضايا التي يكون قد تم الحوار حولها.. قد يقول قائل وما المانع ففي القضايا الحياتية لا توجد تابوهات أو محاذير .. قد يكون ذلك صحيح نسبيا ولكن شريطة أن يتوفر ما يلي:
التراكم على ما أنجزه العقل حول هذا الشأن ويمثل نقلة نوعية في الموضوع محل النقاش، لأنه ليس من المعقول ولا من المقبول أن نبدأ من جديد كل دورة زمنية،
العلم والمعرفة بموضوع النقاش وخاصة بالجديد فيه من اجتهادات معاصرة من واقع خبرة الآخرين،
عدم توظيف الرؤية المعرفية لمصلحة سياسية ضيقة ،

على أي حال،لا يسعنا إلا أن نتمسك بالأمل في أن يتعاضد كل من يؤمن بالتقدم وبالتحرر من أبناء هذه المنطقة ليس باستنساخ تجربة الماضي ولكن بالتعلم منها ورسم تصور مستقبلي لأي عروبة نريد، تستطيع أن تتناسب مع التحولات الكونية غير المسبوقة التي يشهدها العالم. فليس مقبولا أن نتحدث عن المستقبل ولم تزل مجتمعاتنا بطريركية التكوين والسمات ـ بحسب هشام شرابي ـ ،أو نتحدث عن عروبة كمثل التي كنا نتحدث عنها وقت الحرب الباردة،فالجغرافيا السياسية تغيرت جذريا وعدلت قوى كانت حليفا لنا ولقضايانا من مواقفها وبدلت من تحالفاتها .
في ضوء مما سبق،نحاول في ورقتنا الاقتراب مما يلي:

الراديكالية نتاج طبيعي لتحولات نوعية مجتمعية،
العروبة في المرحلة الراديكالية، ميلادها، أو انطلاقها،
إلقاء الضوء على السياق الاستراتيجي والسياسي والتاريخي/الجغرافي والثقافي الذي انطلقت فيه العروبة في الفترة الراديكالية،
كذلك السياق السوسيولوجي الذي أصبحت فيه العروبة ممثلة للحركة الثورية البازغة في المنطقة،
المشهد الراهن،
محاولة رسم صورة للعروبة التي نريد،

(ب)
ثورة يوليو 1952:استجابة راديكالية لواقع مأزوم

على الرغم من أن حزب الوفد قد استطاع في ثورة 1919 أن يقترب من بلورة المواطنة عملياً بعد جهد طويل بذله المصريون على مدى سنوات طويلة سابقة فكانت لحظة الثورة تعبير عن أن المصريين وللمرة الأولى في التاريخ قد أصبحوا طرفاً بدرجة أو أخرى في الشأن العام للبلاد. المصريون هنا الأغنياء والفقراء، الرجال والسيدات، الحضريون والريفيون، المسلمون والأقباط. أي أن ثورة 1919 كللت جهد كل المصريين في حركتهم نحو تحقيق المواطنة، فهم ليسوا ضيوفاً في وطنهم بل مشاركون بدون تمييز، يسعون نحو نيل حقوقهم. وكان دستور 1923 معبراً عن هذه الحركة وهذا الجهد حيث تضمنت نصوصه هذه المفاهيم والأفكار التي اختبرت على أرض الواقع.

بيد أن الأعوام التالية من 1924 وحتى 1952 قد شهدت صعوبة بالغة في تطوير ما تم إنجازه خلال ثورة 1919، وتقول الأرقام أنه خلال هذه الفترة تولى حكم مصر 38 وزارة، ولم يكمل برلمان دورته البرلمانية سوى برلمان واحد، هذا بالإضافة إلى دخول الوفد – حزب الأمة – لعبة التحالفات السياسية والمهادنة مع القصر والإنجليز، كذلك كثرة الانشقاقات الحزبية ووقوع الأحزاب جميعها وعلى رأسها الوفد في قبضة ذوي الأملاك الكبيرة. وفي نفس الوقت بدأ صعود فئات شبابية من أبناء الطبقة الوسطى تسعى إلى أن يكون لها مكان في الحياة السياسية، فلم تجد في الأحزاب القائمة موقعاً لها، وهو أمر منطقي فلا الانتماء الاجتماعي ولا المكانة أو السن يؤهل هؤلاء الشباب في احتلال أي موقع في الكيانات السياسية الموجودة. لذا تبلورت ما يمكن تسميته بالقوى السياسية غير البرلمانية والتي انتظمت في اتجاهات وتيارات عقائدية ودينية (شيوعية وإسلامية ومصر الفتاة). هذا ما اتجه إليه شباب الطبقة الوسطى في الأربعينات والذين كانوا خارج النخبة السياسية التقليدية. وقد ساهم أداء حزب الوفد السياسي في انصراف الشباب عنه حيث يشير طارق البشري كيف أن الوفد قد جعل من الديمقراطية خادمة للاستقلال الوطني، بل وتم حصر الديمقراطية في هذا السياق، وهو ما ترتب عليه ما يلي:
الأمر الذي جعل أي معارضة في داخل الإطار الديمقراطي تعني ضرب للوطنية،
كذلك فإن الديمقراطية إنما تعني وجود الوفد في السلطة.

وهكذا باتت الديمقراطية مرادفاً للاستقلال الوطني والسلطة مرادفاً لحزب الوفد وكلا الأمرين لا يعكس حياة ديمقراطية بالمعنى الدقيق، فعندما تقتصر العملية الديمقراطية على الاستقلال الوطني من دون الأخذ في الاعتبار الشأن الداخلي بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية، فإنما يعني ذلك قصوراً في الديمقراطية.

يضاف إلى ما سبق عوامل أخرى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية حيث:
كانت الهيمنة على المقدرات الاقتصادية في مصر لكبار ملاك الأرض المصريين وللمصالح الأجنبية المسيطرة على مؤسسات المال والتجارة من بنوك وشركات،
كما كان المجتمع الريفي ينقسم بحدة إلى 0.5% من الملاك يمثلون أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، وفي مواجهتهم أحد عشر مليوناً من الفلاحين المعدمين.

مما سبق نجد أن قيام الثورة كان حاجة موضوعية 3، زاد من أهميتها هو نجاحها فيما يلي:
ففي غضون ثلاثة أيام من قيامها أخرجت الملك ،
وخلال شهور تمكنت من إخراج الإنجليز وتحقيق الاستقلال الوطني من دون الديمقراطية.

إذن الحياة الديمقراطية التي وضعت الاستقلال الوطني هدفاً رئيسياً على مدى ثلاثين عاماً قبل 1952 لم تستطع إتمام هذا الاستقلال بينما السلطة الجديدة استطاعت ذلك من دون الديمقراطية، بل أكثر من ذلك فلقد قامت بتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لجماهير الشعب المصري من خلال مجموعة من الإجراءات الاقتصادية وجدت ترحيباً من الفئات المحرومة، وهكذا فإن المواطنة التي تبلورت مع ثورة 1919 وبخاصة في بعدها السياسي، اعتنى ببعديها الاقتصادي والاجتماعي مع ثورة 1952.

ومن خلال دراستنا لتاريخ مصر الحديث والمعاصر من منظور المواطنة 4،وجدنا مصر وقد مرت بخمس مراحل كان لكل مرحلة سماتها ،هذا وقد اتسمت المرحلة الناصرية (الراديكالية 1952ـ 1970) ،بأنها مرحلة تحقق المواطنة في بعدها الاجتماعيٍ Social Citizenship.ويوضح الجدول التالي(رقم 1) مراحل تطور المواطنة في مصر منذ محمد علي وإلى يومنا هذا، ووضعية المرحلة الناصرية(الراديكالية) في هذا المسار التاريخي:

مسيرة المواطنة في القرنين الأخيرين في مصر
بزوغ المواطنة
(محمد علي)
تبلور المواطنة
(ثورة 1919)
المواطنة المبتسرة
(1952–1970)
المواطنة المغيبة
(1971-1981)
محاولة استعادة المواطنة
(1981 – )
*جيش وطني،
* المصريون يتملكون،
*البدء في تذويب الانتماءات الفرعية،
* الوعاء الجامع الوطني،
*مضمون جماهيري ،
* إجماع وطني،
* إرهاصة اندماج بغير تمييز،
* تقاليد دستورية،
* طبقات صاعدة،
*المواطنة في بعدها الاجتماعي،
*حضور للشرائح الوسطى والدنيا،
*إهمال الجانبين السياسي والمدني.
*عودة للانتماءات الأولية،
*إقصاء للتيارات المدنية،
*الديني محل المدني.
* إعادة النظر في الوضع القانوني للأقباط،
*انفراجة مدنية،
*إقرار مبدأ المواطنة دستوريا،
* الفجوة بين النص والواقع،
* الحاجة إلى التفعيل،
* إشكالية المدني والمقدس،

لقد كانت اللحظة التاريخية مواتية تماما من حيث التوق الجماهيري لإحداث التغيير والاستجابة الثورية للنظام الجديد الذي كان تعبيرا أمينا للناس وعن احتياجاتها بخاصة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي أو ما وصفناه بالمواطنة الاجتماعية  واللتين كانت على حساب السياسي والمدني.

صفوة القول وبحسب محمد حسنين هيكل “رحبت أوسع قطاعات من الجماهير الشعبية والوطنية بقيام النظام الجديد” 5. فلقد كانت ثورة يوليو استجابة للتحدي المجتمعي الشامل الذي كانت تعاني منه مصر. وكان هذا إيذانا بميلاد المرحلة الراديكالية في مصر الحديثة بحق، راديكالية للأسباب الآتية:
1. قدرة النظام الجديد أن ينجز كل بصورة راديكالية ما عجز عنه حزب الوفد لعقود، خاصة في مجالي المسالة الاجتماعية(الإصلاح الزراعي والتأميم)، والمسالة الوطنية،
2. إتاحة الفرصة أمام شرائح اجتماعية الوسطى والدنيا لأن يكون لها نصيب في مقدرات الوطن،
3. إتاحة الفرص المتساوية أمام الجميع في التعليم مما مكن من إمكانية الترقي والحراك الاجتماعي .
خلاصة القول لقد حدث تغيير جذري في البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية المصرية، تغيير طال أوضاعا:
مؤسسية كانت مستقرة لسنوات وخاصة في “علاقات الإنتاج بسبب الإصلاح الزراعي(1952)، وتأميم قناة السويس(1956)، والمشاريع الأنجلو فرنسية(1957)وتأميم المشاريع المصرية الكبيرة (1961 ـ1964)،”
وطبقية عميقة،

وقد أجمل الميثاق الوطني 6 في الباب السادس المعنون”في حتمية الحل الاشتراكي”،المرحلة الراديكالية في ذروتها،
ويذكر في ذلك:
“أن الحرية الاجتماعية طريقها الاشتراكية.إن الحرية الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا بفرصة متكافئة أمام كل مواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية.
إن ذلك لا يقتصر على مجرد إعادة توزيع الثروة الوطنية بين المواطنين، وإنما هو يتطلب أولا وقبل كل شيء توسيع قاعدة هذه الثروة الوطنية بحيث تستطيع الوفاء بالحقوق المشروعة لجماهير الشعب العاملة.
إن ذلك معناه أن الاشتراكية بدعامتيها،من الكفاية والعدل،هي طريق الحرية الاجتماعية.
إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر،وصولا ثوريا إلى التقدم،لم يكن افتراضا قائما على الانتقاء الاختياري،وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين….
إن قوانين يوليو الاشتراكية …تعد بمثابة أكبر انتصار توصلت إليه قوة الدفع الثوري…
إن هذه القوانين ـ امتدادا لمقدمات سبقتها ـ كانت جسرا عبرته عملية التحول نحو الاشتراكية بنجاح منقطع النظير .
إن هذه المرحلة الثورية الحاسمة ما كان يمكن إتمامها بالكفاية التي تمت بها وبالجو السلمي الذي تحققت فيه لولا قوة إيمان الشعب،ولولا وعيه،ولولا استجماعه لكل قواه في مواجهة حاسمة مع الرجعية استطاع فيها أن يقتحم عليها جميع مواقعها المنيعة ويؤكد سيادته على مقدرات الثروة في بلاده..” 7

وفي كتابه المثير للجدل والمركب “المجتمع المصري والجيش”،يشرح أنور عبد الملك بدقة بالغة كيف كانت طبيعة الصراع الداخلي القائم بين رأسمالية قديمة لا تريد أن تشارك في التنمية والخوف من تزايد الفجوة في الثروة والدخل بين طرفي المجتمع ما يعني انقسام المجتمع إلى طبقتين متميزتين:كطبقة أقلية تملك مدخول الإنتاج،وأخرى يزداد عددها باستمرار لن تتمتع إلا بقسط ضئيل من مدخول الإنتاج. 8 من هنا كان دور الدولة يتنامى في السيطرة على الحياة الاقتصادية من خلال:
1. توسيع عمل ما عرف آنذاك بالمؤسسة الاقتصادية ومبادرات الدولة في الحقل الاقتصادي،
2. إصدار شبكة من القوانين تؤمن إشراف الدولة على الصناعة وعلى الشركات المساهمة،
3. تأسيس مشروع السنوات الخمس (الخطة الخمسية الشهيرة 1960 ـ 1965).

واقع الحال إنها كانت عملية “تفكيك للبرجوازية القديمة” 9،بحسب أنور عبد الملك، خاصة مع إحجام هذه البورجوازية القديمة عن التعاون مع النظام الجديد،وبقيت بمفكريها الاقتصاديين وبإطاراتها الإدارية الكبيرة والمتوسطة،وبرأسمالها الهائل،…و… قوة مستقلة غير منخرطة في البنية الاقتصادية الجديدة. لذا صدرت مجموعة من “المراسيم الاشتراعية والقرارات الجمهورية التي ستبدل بشكل أساسي توازن القوى الاجتماعية القائم” 10 ويمكن تصنيف هذه المراسيم والقرارات إلى ثلاث مجموعات نوعية من القوانين وذلك كما يلي:
1. قوانين متعلقة بإعادة توزيع الدخل القومي،
2. قوانين تؤمن هيمنة القطاع العام على المشاريع الخاصة والمؤسسات الاحتكارية،
3. قوانين متتالية للإصلاح الزراعي.

وفي هذا السياق، يقول عادل حسين أن ما حدث من تغيرات جذرية هي “صورة تشبه في مداها ما تحقق في مرحلة التحول الاشتراكي في التجارب الاشتراكية الثورية…” 11. لقد أصبحت الثورة الوطنية بقيادة جمال عبد الناصر من 23 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970،مركز اقتلاع جذور الامبريالية في مصر وفي معظم الأقطار العربية،وبداية انطلاق”الوحدة العربية الأولى، وإعادة توجيه الحركة الوطنية العربية نحو الاشتراكية،ضمن إطار مشروع ناصر الدولي الكبير…” 12. لقد كانت التحولات الراديكالية الجارية في مصر تمتد إلى عمق البنى الاجتماعية من خلال إحداث تغييرات جذرية اقتصادية ومالية مركبة رافقها تغييرات تشريعية وقانونية ومؤسسية تتناسب مع التحول الاقتصادي.وكان هناك إدراك بأن هذه التحولات لن يكون مدى تنفيذها السياق المصري وإنما سوف يتعداه إلى خارجها.ورفعت شعارات من نوعية:
جعل مصر مصنع العالم العربي،
وأكبر قاعدة صناعية في إفريقيا،
والقوة الاقتصادية الأولى في الشرق الأوسط.

لم تكن الناصرية (الراديكالية)، مجرد إنجاز ثوري “هائل داخل الحدود المصرية، فجوهر المرحلة الناصرية (الراديكالية)، إنها خرجت بالنضال المصري ضد السيطرة الأجنبية إلى خارج الحدود، وأثر هذا الدور في تغيير أوضاع المنطقة العربية تأثيرا بالغا”13. ووصلت عملية التغيير إلى ذروة تجلت في تصفية علاقات التبعية التي كانت تربط قسما كبيرا من الوطن العربي بالقوى الاستعمارية مثل :انجلترا وفرنسا وايطاليا … وهكذا كانت اللحظة التاريخية تتسم بالراديكالية ولأسباب موضوعية، وفي هذا السياق انطلقت مصر / ناصر / ثورة يوليو تتحرك في المجال العربي، رافعة شعار العروبة.
بيد أن الترحيب الجماهيري العارم أو العروبة القاعدية ـ إن جاز التعبير ـ لم يكن يقابله نفس الترحيب من أصحاب السلطة و المصالح…فعلى الرغم من أن التوجه العروبي كان ضرورة بفعل الإستراتيجية والسياسة والتاريخ / الجغرافيا والثقافة والسوسيولوجيا، وهو ما سوف نلقي الضوء عليه في القسم التالي، كما نحاول الإجابة عن الأسباب التي أعاقت العروبة من أن تنجح في جعل الحالة الراديكالية يما تحمل من تحولات نوعية اقتصادية واجتماعية تتجلى على أرض الواقع.

(ج)
العروبة في المرحلة الراديكالية

أولا : في ضوء الإستراتيجية والسياسة والتاريخ / الجغرافيا والثقافة:

إن دراسة اللحظة التاريخية ـ بتعقيداتهاـ التي واكبت الاختيار العروبي لعبد الناصر تشير إلى أنه لم يكن اختيارا طارئا، كما لم يكن اختيارا وحيدا جاء على حساب باقي عناصر المركب الحضاري المصري،وأنه جاء وفق سياق موضوعي فرضته التطورات السياسية للمنطقة والضرورات الإستراتيجية المستجدة لمصر.وبالإضافة للسياسة والإستراتيجية كان هناك من الرصيد الحضاري المصري:التاريخ والجغرافيا والثقافة،ما يدعم هذا التوجه.
لذا نجد كثير من الكتابات المعتبرة تتفق على هذا،حيث يقول طارق البشري “.. كان شعار الوحدة لدى المصريين يتجه إلى حيث مصدر الخطر على استقلالها .. ومصر على الدوام يأتيها الخطر من حدودها الشمالية الشرقية حيث فلسطين، أو من الجنوب، حيث ترد إليها مياه النيل…وعندما قامت ثورة 1919 في مصر،لم يكن الخطر الصهيوني على مصر من فلسطين قد تجسد بعد،رغم وعد بلفور.كان الخطر يتركز فحسب في الاحتلال الانكليزي لمصر والسودان.وقامت الثورة تحت شعار الجامعة المصرية بحسبانها قومية مصرية محدودة.وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه الجامعة المصرية ـ المانعة ـ لم تستبعد مبدأ الانتماء لجامعة أشمل عند النظر إلى السودان…وإذا كانت السنوات العشر الأولى من هذا القرن هي سنوات المهد بالنسبة للقومية المصرية التي شاهدنا شبابها في 1919.فقد كانت الثلاثينيات هي سنوات في البحث عن جامعة أشمل، وهي الجامعة التي شبت أمام ناظرينا في الخمسينيات والستينيات.وقد استفتحت حقبة الثلاثينيات بأحداث حائط البراق في فلسطين…كان الخطر السوداني هو أول تحد للقومية المصرية…” 14 . ولما بدأ يظهر الخطر الثاني في فلسطين، تنامى معه وعي مصري عن أن الصيغة المصرية أضيق من أن تتمكن من التصدي للخطر الجديد.15
ويخلص طارق البشري إلى أن فلسطين قد آلت لتكون ” هي مضمون الحركة الوطنية المصرية . وان تحرير مصر لم يعد متصورا إلا في إطار حركة تحرر عربي شاملة، وإن الحفاظ على مصر لم يعد متصورا إلا في انتمائها إلى الجامعة الوطنية العربية…” 16. حدث ذلك بمجرد أن استقرت أوضاع ثورة 23يوليو السياسية،فما لبثت أن بدأت في التصدي للتحديات الإقليمية التي فرضها الوجود الإسرائيلي ومثل تهديدا مباشرا لمصر.
هكذا لعبت العوامل الجيو ـ سياسية التي طرأت على المنطقة دورها الحاسم في أن يلتفت ناصر إلى المجال العربي.وتضيف مارلين نصر ـ إلى ما سبق ـ عاملا هاما ميز عبد الناصر ودفعه إلى المضي قدما نحو هذا المجال ألا وهو إتقانه للإستراتيجية العسكرية “دراسة وتدريسا في الكلية الحربية ثم في كلية أركان الحرب،..”، فكانت مدخله ” الرئيس للربط بين أمن مصر وأمن المنطقة العربية” 17 .
ويحرص البعض على التأكيد أن الواقع العملي بما حمل من تحديات قد فرض نفسه على اختيارات القيادة الجديدة حيث يقول حسن نافعة أن “مدخل عبد الناصر إلى الفكرة العربية لم يكن مدخلا عقائديا وإنما كان مدخلا عمليا أملته العوامل الجيوبوليتية التي ربطت تماما،وفي كل العصور،مصير أمن مصر القومي بأمن ومصير المنطقة العربية.وقد أضفت هذه العوامل جاذبية خاصة على الفكرة العربية من منطلقات المصلحة المصرية الخالصة”. 18 وتأتي أهمية هذه الملاحظة للتأكيد على أن الثورة المصرية، وبخاصة في أعوامها الأولى ـ وتحديدا حتى حرب1956 ـ ومن خلال ما قدمته في تصورها الأول أي من خلال” مبادئها الستة كانت تمثل مشروعا مصريا خالصا يهدف إلى تحقيق الاستقلال الوطني المصري وبناء نموذج مستقل للتنمية في مصر” 19. بيد أنه بمجرد أن خاض ناصر أول حروبه العسكرية تأكد له أن الاستقلال الوطني لن يستقيم إلا بحركة سياسية في “الداخل والخارج لتعظيم هذا الاستقلال..”20 . وعليه انطلق ناصر بداية من 1956 يعمل “من أجل الوحدة العربية وبلورة النظام العربي بعيدا عن مفهوم الشرق الأوسط،أو أية مفاهيم أخرى،أدنى أو أوسع ـ من العروبةـ”.21 ويبدأ ناصر من خلال خطاباته يؤكد ما تقدم،ويتذكر انه عند دراسته للمشكلات الإستراتيجية للمنطقة في كلية أركان حرب “كانت هذه الحقيقة ماثلة أمام عيني طوال فترة المناقشة التي كانت تدور حول وسائل الدفاع عن مصر.ولأول وهلة اتضح أن مصر مثها مثل كل جزء من أجزاء الوطن العربي لا يمكن أن تضمن سلامتها إلا مجتمعة مع كل شقيقاتها في العروبة في وحدة متماسكة قوية”22 .
وهكذا جاء تحديد عبد الناصر في فلسفة الثورة لتوجهات مصر الدولية من منظور استراتيجي وليس أيديولوجي،ومن خلال ما يمكن أن” نسميه المجال الحيوي،وليس من منطلق تحديد الهوية” 23.فرأى ناصر أن مصر يمكنها أن تتحرك في إطار” دوائر ثلاث:عربية،وإفريقية،وإسلامية،…” 24 ، حيث تحتل الدائرة العربية”الأولوية بحكم الروابط الوثيقة التي تجمع مصر بهذه الدائرة، والارتباط بهذه الدائرة قضية أمن قومي مصري..” 25. ويحدد عبد الناصر قوة الدائرة العربية بثلاث عناصر هي:”وحدة الثقافة،والموقع الاستراتيجي المهم،ثم البترول عصب الحضارة المادية”26. وبالأخير يصل عبد الناصر إلى قناعة مفادها أن “الوحدة العربية هي من أقوى ضمانات الاستقلال الوطني لكل دولة عربية”. 27
لذا نجد عبد الناصر في عام 1956 حريص على أن ينص أول دستور تصدره الثورة في مادته الأولى على انتماء مصر إلى الأمة العربية.كما جاء في البيان الصادر عن اللجنة التنفيذية للاتحاد القومي ،أنه”منظمة قومية عربية تعمل على تحقيق وحدتنا ووحدة الشعب العربي الذي تجمعنا وتجمعه أصول تاريخية وروحية واحدة،كما تجمعه وحدة اللغة والعقائد والتقاليد،والدم والمصالح المشتركة”. ويؤكد رءوف عباس أن تبني العروبة وإدراج الانتماء إليها في المادة الأولى من الدستور،وتأكيد الهوية العربية للاتحاد القومي ـ التنظيم السياسي الأول للثورة ـ ، كان “من منطلق عملي محض،وليس من منطلق أيديولوجي،ولعل ذلك يتضح من المبررات التي ساقها بيان اللجنة التنفيذية سالف الذكر التي لا تحدد موقفا ثابتا من تحديد مكونات العروبة،ولكنها تسوق مبررات شتى التقطت من أفكار دعاة العروبة دون ارتباط بنسق محدد،تجمع التاريخي بالوجداني،والمفاهيم العلمانية بالعقائد (الدينية طبعا)مما يوحي بغياب إطار أيديولوجي محدد لمفهوم العروبة عند ثورة يوليو عندئذ” 28.
على الجانب الآخر هناك من عني بأن يؤكد على أن التحرك العروبي لمصر لم يكن فقط لأسباب إستراتيجية وعملية وإنما له جذوره التاريخية والثقافية. فتاريخ مصر هو في جوهره “تاريخ لأمة مصرية ـ أو على الأقل تاريخ لمجتمع مصري محدد الملامح ـ ولكنه متنوع الحلقات التي تقود إحداها إلى الأخرى،وأن هناك تكاملا وتداخلا بين تلك الحلقات التي لا يمكن إنكار تأثير أي منها أو المبالغة في تأثير إحداها في ما عداها ” 29 . وعليه لا يوجد أي تعارض بين ” الذاتية المصرية والعقيدة الإسلامية والقومية العربية،وأن التعارض ينشأ عند محاولة وضع إحداها في غير موضعها الصحيح” 30 .

ثانيا: في ضوء السوسيولوجيا / الحركة الثورية البازغة:

من الأهمية بمكان، ولإثراء الدراسة حول العروبة الوليدة في المرحلة الراديكالية، ألا نهمل البعد الاجتماعي /الطبقي للذين دافعوا عن هذا التوجه وتبنوه عمليا، خاصة وأن تعبير راديكالية يفرض نفسه بما يحمل من دلالات موحية متعددة المستويات. لهذا نجد من اجتهد في تفسير التوجه العروبي خلال الخمسينيات والستينيات من منظور طبقي ،تتلخص في الآتي”أن الحركة القومية الحديثة مثلت في حقيقتها ظاهرة تسلم الطبقات الاجتماعية المتوسطة زمام قيادة النضال القومي في المنطقة،وذلك بعد فشل القيادات القديمة المنبثقة عن الطبقة شبه الإقطاعية والرأسمالية الكبيرة في تحقيق الإصلاحات الاجتماعية المطلوبة وحسم الصراع ضد الاستعمار والصهيونية لصالح الجماهير الواسعة من شعوب الأمة العربية”31.ويعود تحول قيادة الحركة القومية من طبقة كبار الأعيان إلى أبناء الفئات الاجتماعية المتوسطة إلى سببين هما:” الأول هو الأزمة الاقتصادية العالمية،والثاني تقديم السلطات الاستعمارية بعض التنازلات لكبار الأعيان لتهدئة الجماهير فيما يتعلق بمطلب الوحدة والاستقلال،ولكن بعد أن قبلت طبقة كبار الأعيان هذه التنازلات شعرت لفترة لأن مصلحتها تصطدم مع دعوة الوحدة وعندئذ تخلت عنها.وفي نفس الوقت كانت هناك قوى اجتماعية ..تنمو ضمن الظروف التي أوجدها الاحتلال الأجنبي لتحل مكان الموقع الريادي في الدعوة للوحدة والتحرر من الاستعمار،هنا برزت البرجوازية الصغيرة متحدية طبقة كبار الأعيان،وكان أبناؤها أقدر من غيرهم بحكم المراكز الحساسة التي شغلوها في الدوائر الحكومية والمؤسسات الخاصة والعامة في أن يقودوا الحركة القومية ضد المسئولين عن تأزم الأوضاع الاقتصادية وهم من طبقة الأعيان…كان على البرجوازية الصغيرة التي تولت قيادة الحركة العربية بعد الحرب العالمية الثانية أن تتعامل مع معادلة جديدة تتمثل في أن التناقض مع طبقة الأعيان تناقض مزدوج،فهو إلى جانب ما تمثله هذه الطبقة من مصالح متعارضة مع خط الوحدة،له وجهه الآخر ألا وهو التناقض مع الاستعمار.وكانت البرجوازية الصغيرة مهيأة في بادئ الأمر لأن تدافع بكل حرارة عن القيادات التقليدية،وعلى استعداد لمساندتها في صراعها ضد الاستعمار والالتزام بمفهومها للقومية،ولكن ابتعاد طبقة الأعيان عن محور الصراع الرئيسي،والتقاء مصالحها مع الاستعمار أديا بالحركة القومية لأن تعزز تيارها الجديد الذي تولته البرجوازية الصغيرة..وكان على هذه الطبقة الجديدة أن تنادي بالثورة الشاملة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية… “32.
إن الثورة الشاملة كانت الكلمة السحرية التي تفاعلت معها جماهير المنطقة تعبيرا عن الواقع الاجتماعي الذين يعانون منه،ورغبة للوحدة بين شعوب المنطقة في مواجهة ما يتهددهم، وكانت الدعوة العروبية هي الحاضنة لهذه الثورة الشاملة. ونشير هنا إلى أن الدراسات الغربية لم تستطع إلا أن تصف الحركة القومية العربية الداعية إلى الوحدة بأنها “حركة ثورية”. ويحدد أكثر بايندر بأنها كانت ثورة واحتجاج على ثلاثة أوضاع سياسية مترابطة وذلك كما يلي:
” الأول،الأكثر وضوحا لحركة الوحدة العربية،هو انها احتجاج من الشعوب الناطقة بالعربية على تجزئتها إلى عدد من الدول المستقلة.الثاني،احتجاج على النظم الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في جميع البلاد العربية وعلى تركيب السلطان السياسي في بعضها.الثالث،احتجاج على استقطاب القوة الدولية في كتلتين متعارضتين” 33. ويربط بايندر بين الفكرة القومية العربية التي تجسدها هذه الاحتجاجات الثلاثة وبين ” اسم الناصرية” 34 ،بالأساس،الأمر الذي يعني أن سياسات ناصر قد حققت تأييدا واسعا وراء حدود مصر ،وإليه يعود انتشار الفكرة العروبية.
وعلى الرغم من التأييد الواسع الذي لاقته الفكرة وتحمس الجماهير لها بسبب مضمونها الثوري، إلا أن الفكرة العروبية كانت تفتقد إلى إطار متكامل وواضح للكيفية التي يجب أن تتجلى فيها على أرض الواقع. فقد اعتمدت ثورة يوليو “منهج التجربة والخطأ، ولم يكن ثمة مفر من أن تخوض قيادة الثورة أول تجربة وحدوية عام 1958، مع سوريا في غياب الفكر النظري الذي يمكن أن تقوم عليه مثل هذه التجربة” 35 . ويمكن القول أن عبد الناصر لم يتبلور لديه الفكر الوحدوي العروبي بوضوح إلا بعد تقويمه للوحدة مع سوريا “من خلال محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق (مارس ـ إبريل 1963)…” 36.

لقد حدد عبد الناصر الأسباب التي دفعت إلى فشل الوحدة مع سوريا من جهة، كما بدأ في تحديد ماهية الوحدة والتمييز بين شعار الوحدة وبين عملية التطبيق، من جهة أخرى، وأخيرا ميز ناصر بين أنواع الوحدة:الاندماجية و الاتحادية” 37 من جهة ثالثة. إن فشل الوحدة مع سوريا أوضح له أن المشروع القومي العربي يحتاج إلى ما هو أكثر من التحدي..حيث أن عظمة الرفض قد تنتشل معظم بني عروبته من شعورهم بالدونية إزاء الغرب، لكن يبقى المشروع القومي ناقصا بغير اكتمال وهنا أدرك عبد الناصر نوعية اللبنات اللازمة لقيام البناء:كان التقليل من التبعية،والتنمية الاجتماعية ـ الاقتصادية بمثابة جانبين للأساس نفسه الذي قصد إليه عبد الناصر ، أما دعامات البناء الرئيسية للهيكل الفوقي الذي قصد إلى إقامته
فكانت الوحدة العربية وتحرير الأراضي والموارد العربية … وإزالة العقبات التي كانت معرفة بصورة قاطعة: الاستعمار، إسرائيل، والرجعية العربية،…” 38
وبالرغم مما سبق،فإننا نجد أن ” الحركة الثورية “،التي وجدت قبولا كبيرا لدى الجماهير العربية كانت تتراوح في فهمها بين “السياسي” و”الاجتماعي”. و ويؤكد ذلك أحمد يوسف أحمد إلى أن “أن الممارسات القومية لثورة يوليو بقيادة عبد الناصر قد مثلت انتقالا وتذبذبا واضحين في ترتيبها لأولويات الأهداف بين صيغة إعلاء هدف الاستقلال على هدف الثورة الاجتماعية،وصيغة التزامن والترابط بين هذين الهدفين،وأخيرا صيغة إعلاء هدف الثورة الاجتماعية على هدف الاستقلال” 39. وارتبط هذا التراوح ارتباطا وثيقا باللحظة التاريخية وبنتائج الممارسات العملية لثورة يوليو/ناصر،فبسبب ما نتج عن الانفصال بين مصر وسوريا 1961،أعطى عبد الناصر اهتماما كبيرا للمسألة الاجتماعية وهو ما وضح في الميثاق عام 1962،ولمست فيها الوثيقة “الصراع الاجتماعي في الواقع العربي” 40 ،وأكدت “على ضرورة الثورة” 41،كما انحازت إلى “حتمية الحل الاشتراكي 42.
ويعلق أحمد يوسف أحمد على ما سبق بقوله:”..أعاد الميثاق ترتيب أولويات أهداف السياسة العربية لمصر لصالح صيغة الترابط والتزامن بين اعتبارات الثورة السياسة العربية واعتبارات الثورة الاجتماعية،بل لقد ظهر بعد ذلك في خطب عبد الناصر ما يفيد تجاوز هذه الصيغة بحيث تصبح الأولوية لهدف الثورة الاجتماعية على هدف الاستقلال على الأقل في مواجهة إسرائيل ـ فقد رفض عبد الناصر عبر سلسلة من خطبه مقولة أن المواجهة مع إسرائيل هي مواجهة بينها وبين كل العرب وإنما هي مواجهة بينها وبين العرب التقدميين تقف فيها الرجعية العربية في الموقع نفسه مع إسرائيل … غير أنه سرعان ما تم التخلي عن هذه الصيغة المتقدمة، بل وعن صيغة التزامن بين الثورتين السياسية والاجتماعية لصالح الصيغة الأولى بعد بروز الخطر الإسرائيلي (على مياه نهر الأردن في نهاية 1963)، وترجم هذا سياسيا في دبلوماسية مؤتمرات القمة عام 1964… وبعد ذلك جاءت هزيمة 1967 لتجبر الثورة مرة أخرى على التركيز على هدف الاستقلال “، 43 تحت شعار إزالة آثار العدوان.

لقد كانت الإشكالية، فيما يبدو،أنه وبالرغم من التوجهات الراديكالية العامة لعبد الناصر لتغيير وجه الإقليم إلا أن الوقائع التاريخية تشير إلى ما يلي:
1. كان يتم اكتشاف تناقضات البنية الاجتماعية الاقتصادية العربية بالممارسة ومن خلال التفاعلات والخيارات الواقعية، والانحياز / الاصطفاف لهذا الموقف / المعسكر أو ذاك.
2. كان فكر عبد الناصر ـ ولو باللاوعي بحسب أحمد يوسف أحمد ـ يغلب عليه “التفكير القومي” 44،بمعنى إلى أنه ينظر إلى العرب بكل قواهم الاجتماعية(الثوريون والمحافظون والرجعيون والتقدميون،…الخ) كأمة واحدة تواجه أخطارا مشتركة تستدعي من ثم التصدي الجماعي لها وهو ما يقدم فكرة الاستقلال الوطني على الثورة الاجتماعية.

وقد أكدت الدراسات المعتبرة والموضوعية التي تابعت تناول جمال عبد الناصر لكثير من المواقف، إلى وجود ضعف في تحديد الأعداء الداخلية للأمة العربية، ” فهم:
“أولا: غير محددين بوضوح في الخطاب الناصري حتى 1961، حيث وصفوا فيه بعدة أوصاف منها: أعوان الاستعمار، قلة من الناس، المنحرفين، الخارجين عليها،
ثانيا:ابتداء من 1961،وبعد النقد الذاتي للانفصال،وحد عبد الناصر الأعداء الداخليين للأمة العربية و حددهم باسم الرجعية العربية وصفتها الرئيسية أنها متحالفة مع الاستعمار الذي قدم لها العون والأسلحة ولا يعترف لها عبد الناصر بدور مستقل:في غالبية المؤامرات التي تحاك ضد الأمة العربية (حلف بغداد ،الاتحاد العربي الهاشمي ،الحلف الإسلامي،تصرفت الرجعية العربية تحت إشراف إحدى الدول الاستعمارية ..ويبقى فعل الرجعية العربية ضد الأمة العربية إذن خاضعا لفعل الاستعمار.
ثالثا:تعرض تحديد الأعداء الداخليين باسم الرجعية يبقى مع ذلك عرضة للتقلبات لأن عبد الناصر عاد بعد هزيمة يونيو إلى استعمال عبارة أعوان الاستعمار” 45.
يشير ما سبق إلى أن تحديد أعداء الأمة العربية كان يرتبط بالظرف السياسي المواكب،ولا يوجد لديه أعداء اجتماعيون أو اقتصاديون داخليون ،فالاستغلال لديه هو من صنع الرجعية،وعليه”فان التخلف والتأخر والعقبات في طريق وحدة الأمة العربية والتجزئة هي من صنع العدو الخارجي وقد ساهم الأعداء الداخليون في ذلك وهم يستفيدون منه،ولكن عبد الناصر لا يعترف لهم بأي عمل خاص بهم ومستقل في هذا المجال” 46.
لقد أثبتت الأيام وخاصة بعد غياب عبد الناصر أن أعداء الداخل ـ غير المحددين أو المعرفين بدقة ـ كانوا هم عدة الثورة المضادة. 47 لم تكن الشعارات الاستقلالية للأمة محل خلاف من أحد، حتى أعداء الثورة في الداخل.ولكن الإشكالية أنه لم يكن هناك تقدير لخطورة هؤلاء الذين انقلبوا على الثورة في الوقت المناسب وبسرعة مطردة وبلا مقاومة تذكر. لقد ظن العروبيون في المرحلة الراديكالية أن مجرد رفع شعار الاستقلال الوطني والاستقلالي كفيل بضمان دعم كل الشرائح الاجتماعية ولكن الواقع اثبت غير ذلك.ففي وقت من الأوقات كان شعار “نفط العرب للعرب” وهو شعار يعبر عن ضرورة أن تكون ثروات العرب لهم في مواجهة النهب الغربي والامتيازات الأجنبية. بيد أنه أكتشفنا أنه بالإضافة إلى أن كل قطر اعتبر إن من حقه أن يوظف عائداته كيفما شاء،فانه نتج عن ذلك حدث فرز للمصالح وتبلورت كتل لها مصالح مع الشركات الأجنبية،وتشكلت صيغ تقسيمية شتى للمنظومة العربية منها: فقراء وأثرياء،أغلبيات وأقليات،مقاومون ومسالمون،…الخ. وهكذا أفصح الواقع عن صورة أخرى كانت محجوبة في ظل المد الراديكالي…من هذا المحجوب:النزوع القطري،المصالح القطرية،التحالفات المتغيرة،الاختلاف في درجات التطور بين الأقطار العربية،التفكيك على أسس عرقية ومذهبية.
وبدا أن المشهد العربي ينزع نحو التفتت والتجزئة، وهو أحد المشاهد الثلاثة(المشهدان الآخران:مشهد التنسيق والتعاون، ومشهد الوحدة) التي تم توقعها لمستقبل المجتمع والدولة القطرية في الوطن العربي48،منذ ما يقرب من عشرين سنة.
(د) العروبة في المرحلة الراهنة

تشير الدراسة الاستشرافية49 التي أشرنا إليها إلى أن هناك جملة تحديات تواجه الدولة العربية،وان النجاح في مواجهتها هو الكفيل بألا تسقط في أسر التجزئة والتفتيت،من هذه التحديات ما يلي:
(أ) التحديات الخارجية:
1. التحديات الاقتصادية:
اختلال شروط التبادل التجاري بين الأقطار العربية والعالم الخارجي،
زيادة المديونية،
تضاؤل أرصدة البلدان النفطية، أو المصدرة لمواد خام أخرى،
2. تحديات جيوـ سياسية:
المزيد من الهيمنة الأجنبية من خلال أشكال ثلاثة:
* التبعية الاقتصادية السافرة،
* الابتزاز،
* استخدام القوة السافرة.
3. التحديات التكنولوجية ـ الاتصالية ـ الثقافية:
تحلل الثقافة العربية في غيبة مشروع قومي حضاري،
إضعاف الهوية والانتماء،
نمو عادات وأنماط استهلاكية تكرس التبعية للخارج.
4. التحديات البشرية ـ الثقافية:
الخلل السكاني بين السكان الأصليين والهجرات الوافدة وما يترتب عليها من تهديد للعروبة، ووجود كتل سكانية غير مندمجة،
تنامي المطالبة بالحقوق من قبل الوافدين .
(ب) التحديات الداخلية:
1. التحدي السكاني والحضري:
زيادة سكانية لا تقابلها قدرة على توفير الحاجات الأساسية من غذاء وسكن وتعليم وصحة،
التكدس الحضري قوامه بروليتاريا هلامية قلقة وقابلة للاستغلال والاشتعال.
2. التحدي الإثني ـ الأقلوي:
التلكؤ في الاستجابة أو التعاطف مع مطالب الأقليات من توفر قسط عادل من الثروة والسلطة وحقوق المواطنة المتساوية .
3. تحدي الصراعات الطبقية:
4. التحدي الديني:
وقوع صراعات متعددة بين الجماعات المتطرفة،بعضها مع الدولة،وبعضها مع أبناء الأديان والطوائف الأخرى،وبعضها مع التيارات العلمانية.
(ج) تحدي غياب المشاركة السياسية.

في ضوء ما سبق ترصد الدراسة عددا من المظاهر ستتعرض لها الدولة عندما تعجز في مواجهة التحديات السالفة الذكر وذلك كما يلي:
هروب رؤوس الأموال والكفاءات البشرية العالية.
تفاقم الفساد وانهيار نسق القيم.
انهيار القانون والنظام العام وهيبة الدولة.
الصراعات الأهلية الممتدة.
نمو الثقافات الفرعية والأيديولوجيات التفتيتية.
زيادة التدخل الخارجي السافر.

وعليه ترصد الدراسة أربعة مظاهر محتملة للتفتيت كما يلي:
* التفتت الواقعي. * التفتت القانوني.
* الانقسام والانضمام والإلحاق. * تآكل الهوية الوطنية العربية.

وبعد يبدو لي أن المشهد العربي الحالي الذي ينزع فيه اللاعبون المختلفون إلى التجزئة والتفتت،يؤكد الفشل في الاستجابة للتحديات التي رصدتها الدراسة الاستشرافية،ومن ثم حدوث التفتت بمظاهره الأربعة على أرض الواقع. بيد أن هذا التفتت أيا كان نوعه فان تداعياته لا تصيب الأقلية من دون الأغلبية،ذلك أن التفتت في واقع الأمر يعني أن هناك مشكلة اجتماعية،” لا تمس كيان وسلوك الجماعات الأقلية ولكنها تمس أولا الأغلبية.أي باختصار تتحول الجماعة القومية الكبرى / الأغلبية إلى طائفة وتنحو إلى السلوك كطائفة بعد أن كانت تسلك تجاه ذاتها وأعضائها وتجاه الجماعات الأخرى كأمة،أو كأساس للأمة.عندئذ يعم النظام الطائفي القائم على الغش المتبادل في السياسة وفي الدين والذي يخفي كما قلنا عدم ثقة متبادلة وحربا كامنة تجنح إلى الاندلاع”50 .وهنا تتحمل الدولة المسؤولية في عدم قدرتها على إدارة التنوع،وابتكار سياسات وآليات دمج للأقليات،ذلك بسبب السلطة المطلقة والمركزية الشديدة أو ما أسماه نزيه نصيف الأيوبي”المركزية الوظيفية وتركيز السلطة”51. لقد فشلت الدولة الوطنية وبخاصة دولة ما بعد الاستقلال في “تطوير الوسائل الفاعلة لاستيعاب الأقليات القومية والدينية”52،والنتيجة النهائية هي ما نشهده في مواضع كثيرة من تزايد الاختلافات بين أعضاء مجموعة قومية وأخرى،كذلك بين أعضاء مجموعة دينية وأخرى،وبين أعضاء المجموعات القومية والدينية، مما يؤدي إلى”ارتفاع دعاوى الانفصال في بعض الحالات أو العزلة في البعض الآخر Secession،ما يعني تنامي غياب الاستقرار السياسي واحتمالية استخدام العنف،وإذا لم يحدث الانفصال وبقي الوضع على ما هو عليه فان هذا سيدفع نحو تبلور علاقة قائمة على الابتزاز والشك والخوف”53 . هذا هو الوضع بعد سنوات من إنجاز الدراسة الاستشرافية،بيد أن هناك ما يمكن إضافته على الأسباب التي ذكرت وأدت للمشهد العربي الراهن،يمكن أن نوجزه في عنوان كبير هو:
مسرح دولي جديد..ولاعبون جدد.

ولكن في ظل هذا الجديد،كيف السبيل إلى العروبة التي نريد؟
نحن نقول مع حليم بركات “إن الفشل في تحقيق الوحدة العربية حتى الآن لا يعود لطبيعة الحلم نفسه أو الهدف والمثل المتعلقة به،بل لعدم القدرة حتى الآن على استنباط إستراتيجية وتنظيمات عقلانية ترتكز إلى فهم دقيق لطبيعة المواجهة بين قوى التجزئة وقوى الوحدة،… يقول بالتحول الثوري باتجاه مجتمع عربي موحد .. ينطلق من رفض التجزئة، والتخلف، والسيطرة الأجنبية على موارد البلاد، والطبقة الحاكمة المستبدة المستغلة،.. والطبقية بجميع أشكالها،والو لاءات التقليدية بشكل عام” 54 . انها مهمة بناء الدولة الحديثة بالأساس التي تقوم على المواطنة،ومن ثم الخيار الموضوعي العقلاني بضرورة الوحدة التي لا تكون على حساب الخصوصية أو بحصار التنوع وإنما بدعم مواطنة تستجيب للتنوع / أو ما أطلق عليه المواطنة الثقافية Cultural Citizenship.
لقد كانت عروبة المرحلة الراديكالية تفترض التماثل المطلق بين المجتمعات العربية وهو ما ثبت انه غير صحيح بالرغم من اللغة الواحدة والمصير الواحد والتراث المشترك.بيد أنه لا يمكن إهمال المستجدات التي تقدم المصلحة على أي شيء. وفي نفس الوقت فان أي توجه عروبي لابد وأن:
يمثل فيه الجميع ،
لا ينوب تيار بعينه قومي كان أو ديني عن الآخرين،55

بلغة أخرى عروبة ليست مغلقة أو اعتبارها ساكنة أو ثابتة لا يطرأ عليها أي تغير عبر التاريخ .. فالهوية نسق مفتوح يؤثر و يتأثر،يتفاعل،وفي الأصل يتكون ويتبلور ويصقل عبر الزمان… وعليه فان الهوية لا تعبر عن حالة سكونية مستقرة وراسخة بل هي حالة ديناميكية.. ومن ثم لا ينبغي:
ربط الهوية بعنصر وحيد مثل الدين أو العرق…، أو ما يعرف بالهوية ذات ” الارتباط الأحادي ” singular affiliation، التي تفترض ـ باختزالية شديدة وبتضليل قد يكون متعمد ـ الارتباط المفرد إلى هوية واحدة، ـ حصرا ـ… فالهوية في الواقع تحمل الدين والثقافة واللغة والطبقة.. الخ.
عروبة تقوم على وحدة الحضارة، لا على وحدة الجنس، وعالم عربي مكون من أوطان متعددة يسعى لاكتشاف ما بينه من مصالح ويعظمها وما يتهدده من تهديدات ليواجهها ، في ضوء المشهد الراهن للتجزئة .
ملحق (1)
أوروبا: المواطنة.. الاندماج 

( لشبونة 2008)

أوروبا: وستفاليا (1648).. لشبونة (2008)

في احتفال بسيط أقيم بدير جيرونيمو العريق في لشبونة بالبرتغال..وعلى خلفية موسيقى تعبر عن التراث الموسيقي الأوروبي..تم توقيع معاهدة لشبونة(بالأمس وقت كتابة المقال)،وهي الوثيقة التي ستأخذ أوروبا إلى القرن الواحد العشرين بحسب ما جاء في عنوانها..إنه حدث تاريخي بكل المعايير لا يقل عن توقيع معاهدة وستفاليا التي وقعت في عام 1648 التي يفصلها عن المعاهدة الحالية 360 عاما …فما العلاقة بين الوثيقتين..وما أهمية هذه الوثيقة الحالية التي ستكون جاهزة للتفعيل في يناير 2009 بعد أن تقرها أيرلندا الدولة التي سوف تعود إلى برلمانها في 2008 للموافقة عليها..وعليه يكون العام 2008 هو العام الذي سيشهد إقرار أوروبا بكامل دولها الأعضاء بالعمل بمعاهدة لشبونة.. سوف نتناول أهمية هذه الوثيقة..ونلقي الضوء على مفهوم المواطنة القائم على الاندماج حسبما جاء في المعاهدة..

دول قومية في إطار قاري جامع

بداية، تعد هذه الوثيقة البديل الذي تم التوافق عليه لما كان يعرف في السنوات الأخيرة بالدستور الأوروبي والذي كان يتضمن بنودا محل خلاف بين عدد من الدول الأوروبية. بيد أنه منذ اجتماع الإتحاد الأوروبي الذي عقد في ديسمبر الماضي(2006)،أخذت السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا على عاتقها أن تستثمر رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي لاستصدار وثيقة مرجعية تكون مقبولة من جميع الدول الأعضاء،والمزمع ضمهم،في الاتحاد الأوروبي. فالقلق الذي أبدته كلا من فرنسا وهولندا في العام 2005 حول الدستور المقترح آنذاك، لابد من مراعاته من جهة، والاستمرار في توحيد أوروبا بكل الطرق من أجل المصالح البعيدة المدى للقارة الأوروبية من جهة أخرى. وخلال هذا العام تم حل كل الإشكاليات التي كانت محل خلاف وخرجت إلى النور وثيقة لشبونة التي توافقت عليها 27 دولة أوروبية..إنها لا تقل أهمية عن وستفاليا..كيف؟
إذا كانت أوروبا قد استطاعت أن تتجاوز “حالة الطبيعة”،بحسب هوبز،(في القرن 17) حيث” الإنسان يعيش في حالة أولية سابقة على ظهور المجتمع،وهي حالة من الفطرة من حيث الدوافع والمواقف وردود الفعل ،فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان.وعليه فانه لا توجد بالتالي معايير وضوابط،أو بلغة أخرى قوانين..وعليه تكون الحرب هي السبيل الوحيد بين الدول وبعضها وهذا ما شهدته أوروبا في القرن السابع عشر،وتم تجاوزه بمعاهدة وستفاليا…فإن الأوروبيين قد أثبتوا،من خلال معاهدة لشبونة،إنهم قادرون على تجاوز ما تعرضت له شرعية وستفاليا من تفكيك للكيانات القومية. فعلى الرغم من أن صيغة الدولة ـ الأمة هي الصيغة التي سادت في أوروبا بموجب شرعية وستفاليا(1648)،فان هذا لم يمنع من أن تقبل الصيغة الأوروبية تفكك الكيانات المتعددة القوميات مثل الاتحاد السوفيتي،ويوغوسلافيا،وتشيكوسلوفاكيا.. بيد أن القارة الأوروبية أبدت قدرة ذاتية على إعادة اندماج الدول الوليدة في اتحادات قارية وإقليمية:اقتصادية وجمركية وسياسية وثقافية،الأمر الذي ساعد على علاج الترنح الذي طال الأسس القومية للدولة والتفكك الذي أصاب الدول الاتحادية..وهنا تأتي أهمية معاهدة لشبونة..
بلغة أخرى،من ناحية أوقفت معاهدة وستفاليا النزاعات القائمة على أسس مذهبية و عرقية في لحظة تاريخية معينة،وأسست لميلاد الدول القومية في أوروبا مؤسسة لمبدأين هما:
مبدأ السيادة، حيث يتم الاعتراف بسلطة الدولة الوحيدة والمطلقة داخل حدودها. فالسيادة الإقليمية أصبحت أساسا للنظام الجديد واعترافا بالشخصية الدولية لعدد كبير من الأمم.وواكب ذلك نشوء مفهوم السيادة الوطنية للدولة واحترام السيادة الوطنية للدول الأخرى داخل النظام الإقليمي.
مبدأ المساواة،حيث أكدت المعاهدة على المساواة القانونية بين جميع الدول المستقلة التي تتمتع بالسيادة دون النظر إلى عدد السكان أو مساحة الدولة أو ثرواتها أو تنوعها المذهبي أو الإثني.
ومن ناحية أخرى،أكدت معاهدة لشبونة على مرجعية الدولة القومية وسيادتها،في صورتها التاريخية،مع قبولها لأن تكون للدول الوليدة حضورها القومي في إطار قاري جامع من واقع التراث الثقافي والديني والإنساني المشترك للقارة الأوروبية القائم على الحقوق الأصيلة للشخص الإنساني من حرية وديمقراطية ومساواة وحكم القانون،كما جاء في المادة الأولى للمعاهدة. كما تراعي المعاهدة حقوق الأشخاص الذين ينتمون للأقليات،وتؤكد على أن القيم الأساسية التي وردت سابقا سوف تكون قيما مشتركة لكل أعضاء المجتمع الأوروبي حيث التعددية، وعدم التمييز،والتسامح،والعدالة والتضامن،والمساواة النوعية.

التضامن فعلا لا قولا

أكدت المعاهدة على أهمية التضامن بين مواطني دول أوروبا، وأن هذا التضامن كي يكون حقيقة، لابد له من درجة انتماء عالية إلى أوروبا الموحدة..وقد أدرك القائمون على بناء هذه الوحدة أو الرابطة الأوروبية، أن الشعور بالانتماء والإحساس بالمصير المشترك لا يمكن أن يكون صناعيا أو إنشائيا من خلال عبارات نصوصية في الوثائق أو شعارات ،وإنما يتم هذا بعمل دءوب قاعدي ومؤسسي،وتحديدا في مجالي الثقافة والتعليم.وفي نفس الوقت بإعمال التعاون المشترك في شتى المجالات،والتكامل الاقتصادي وبالأخص في مجال الطاقة،والمواجهة المشتركة لأي خطر يواجه القارة الأوروبية،ومساعدة أي دولة عضو تتعرض لأي كارثة من أي نوع،ويشار إلى تكرار المعاهدة لتعبيرات من عينة:الدعم Supporting ،التنسيق Coordinating،الإجراء التكاملي Complementary Action
ودخولها في كثير من التفاصيل في هذا المقام تجعل من المبادئ واقعا ماديا ملموسا.
ومن أهم ما أكدت عليه المعاهدة، فكرة أساسية تكررت أكثر من مرة ألا وهي حرية التحرك للمواطن الأوروبي – لاحظ عزيزي القارئ تعبير المواطن الأوروبي- في أرجاء دول القارة الأوروبية،هذه الحرية تتجاوز حرية الحركة إلى ماهو يؤكد الرابطة بين دول القارة،وأنه بات من الممكن ممارسة مواطنة عابرة للحدود بكل أبعادها. وفي نفس الوقت ترك الباب مفتوحا للانسحاب الاختياري لأي دولة في أي وقت، بيد أن المميزات التي تضمنتها المعاهدة من تبادل ثقافي واستفادة اقتصادية وحماية قارية..الخ، تجعل هذا الأمر بعيدا…لقد نجحت المعاهدة في ابتكار آليات اندماجية تجعل من المواطن الأوربي حقيقة..كيف؟

قراءة في معاهدة لشبونة

تعد معاهدة لشبونة من أهم المواثيق التي تم التوافق عليها بين مجموعة من الدول منذ معاهدة وستفاليا التي وقعت في العام 1648..فكلاهما ترتب عليه وضعا جديدا، كما أوضحنا في السابق،حيث الأولى(وستفاليا 1648) كانت الأساس في تأسيس الدول القومية واندماج مكونات كل دولة معا في إطار علاقات متساوية بينها على قاعدة المواطنة داخل الدولة الواحدة من جانب،وعلى قاعدة الاستقلال بين الدول القومية من جانب آخر..والثانية(وثيقة لشبونة 2008) يترتب عليها ميلاد الدولة الأوروبية الواحدة واندماج كل الدول الأوروبية في إطار قاري جامع وتأسيس ما يمكن أن نطلق عليه “المواطنة الأوروبية”(على الرغم من تعدد الدول التي تكونت نتيجة لانقسامات – مثل التشيك وسلوفاك واستونيا ولاتفيا وليتوانيا – إلا انها تعود للاندماج في وعاء أكبر) …كيف تم ذلك؟

الاندماج:كيفية التفعيل..و مواجهة الاستبعاد

انشغل العقل الأوروبي والمؤسسات الأوروبية بمستوياتها المتعددة على مدى العقد الماضي، بقضية الاندماج.وتوصل الاتحاد الأوروبي من خلال أدبياته إلى أنه لا يمكن انجاز الاندماج بدون الأخذ في الاعتبار الجانب المجتمعي،أو بلغة أخرى لا يمكن أن يصبح الاندماج حقيقة بغير إحداث تغيير في الواقع الاجتماعي بإزالة كل ما يعوق الاندماج وتكوين آليات قادرة على تفعيل هذا الاندماج. وخلص الجهد العلمي والسياسي الأوروبي إلى أن تفعيل الاندماج لا يقوم بغير:
إتاحة فرص متساوية للجميع وتمكين المهمشين والضعفاء بغض النظر عن أية
اختلافات.
ونقطة البدء في تفعيل الاندماج تكون بفهم الأسباب الهيكلية التي أدت إلى التهميش والاستبعاد الاجتماعي Social Inclusion. فما هي يا ترى هذه الأسباب؟

أجمع كثير من الباحثين أن الاستبعاد الاجتماعي ينتج بفعل الخلل في المنظومة الاقتصادية/ الاجتماعية في الأساس…فضعف المكانة وغياب السلطة والثروة لمن هم في أسفل البناء الاجتماعي يجعلهم يشعرون بعدم التكافؤ مع الآخرين، ويزداد هذا الشعور مع غياب الفرص المتساوية في الانتفاع بالخدمات المتنوعة مثل العلاج و التعليم. ولاشك أن الانتماء إلى فئات نوعية من غير الأغلبية يفاقم من هذا الشعور. وبناء عليه يحدث خللا مزدوجا في البنية الاجتماعية على المستويين الأفقي والرأسي وذلك كما يلي:
رأسيا:حيث الهيمنة الطبقية.
أفقيا: حيث الهيمنة السلطوية(قد تكون قومية،فئوية،سياسية،جيليه،جنسية،إثنية،دينية).

وعليه فان حل مشكلة الأقليات،والمهاجرين،والفقراء،لا يكون بنصوص نظرية،أو بنوايا حسنة،أو بحلول مؤقتة،أو بمزايا تخص البعض بمعزل عن وجود حلول جذرية تمتد للجميع و تضمن ألا تكون هذه المزايا مجرد حلول تسكينية أو حلول تمييزية لجماعة دون أخرى خاصة وأصل المشكلات قائم. كذلك الحل لا يكون بتقديم إحسانات ومعونات،أو بإجراءات إدارية،أو بإتاحة الفرصة للتدخلات الخارجية من خلال إقامة روابط عابرة للحدود بهدف الاستقواء أو طلب المساعدة لأن هذا يؤدي مع الوقت إلى التفكيك الداخلي…وإنما الحل يكون بالاندماج بتمكين الأقليات والمهاجرين والفقراء في إطار النهوض العام بالدولة(لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن أن نحيل إلى ..(The Politics of Inclusion &Empowerment كيف؟

الاندماج مشروع متكامل

الاندماج في التصور الأوروبي هو مشروع متكامل بين جميع أطراف المجتمع يبدأ بتحليل موضوعي لكل أنماط اللامساواة الاجتماعية،والخلل المجتمعي،والأشكال الجديدة من الانقسامات الهيكلية التي تؤدي إلى الاستبعاد والتهميش. وبناء عليه يتم وضع سياسات تقوم على وعي الجماعات النوعية والمهمشين بحقوقهم في إطار الوعاء الأوسع الجامع للكل،والمشاركة في صياغة الواقع مع الآخرين وليس بمعزل عنهم.
لذا اهتم الأوروبيون بالتأكيد على أن الاندماج (في هذا المقام يمكن مراجعة مقالنا عن مستقبل المواطنة في بريطانيا بجريدة الأهرام 16/8/2007)هو حصيلة كل من:
المواطنة الأفقية:ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن والتي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار مجال عام جامع لبناء الدولة بغض النظر عن الاختلافات.
والمواطنة الراسية: والتي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطنين والدولة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وحماية وأمن.
في هذا السياق صدرت وثيقة لشبونة مانحة كل مواطن أوروبي حق التنقل والعمل والحياة على أي أرض من أراضي الاتحاد الأوروبي باعتباره مواطن أوروبي. ويحظى هذا المواطن الأوروبي بمنظومة حقوق بأبعادها المتعددة. فمن حقه أن يترشح للبرلمان الأوروبي ويصوت لمرشحيه تماما كما يفعل في انتخاباته المحلية. الأوربيون ليسوا مستهلكين أو أطراف في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وإنما هم مواطنون من حقهم أن يشاركوا في التخطيط واتخاذ القرار والمحاسبة والمراجعة ولاطمئنان على تحقق الشفافية لكل ما يجري في دول الاتحاد الأوروبي.

وثيقة الحقوق الأساسية

تستلهم وثيقة لشبونة التزامها نحو المواطنين بتفعيل ما جاء في وثيقة الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي Charter of Fundamental Rights of the EU . وجاءت الوثيقة تحمل ستة عناوين أساسية وذلك كما يلي:
(1) الكرامة. (2) الحرية. (3) المساواة.
(4) التضامن. (5) حقوق المواطنين. (6) العدالة.
وتضمنت الوثيقة 54 بندا تؤكد في المجمل على القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لمواطني الاتحاد الأوروبي.( يلاحظ تعدد عناصر المواطنة والتي طالما نوهنا عنها في تعريفنا للمواطنة الذي اقترحناه منذ وقت مبكر في كتابنا المواطنة والتغيير،ويلاحظ كيف تحقق كل عنصر على التوالي – الحقوق المدنية فالسياسية والاقتصادية والاجتماعية – في الخبرة الأوروبية في ضوء التطور الاجتماعي،وإن هذا لا يعني أن نتبع هذا التعاقب ولكن ما أن تدلنا خبرة الآخرين على ذلك فإنه لابد أن نسعى لتحقيق المواطنة بأبعادها مجتمعة‘ وهو ما حاولنا أن نبرزه في رصدنا لتطور المواطنة في مصر من خلال ما أسميناه المراحل الخمس لمحاولات الاقتراب من المواطنة في الحالة المصرية منذ محمد علي).
بالعودة للوثيقة الأوروبية..نوجز أهم ما تضمنته في الآتي:

تؤكد البنود الافتتاحية على الكرامة الإنسانية،وحق الحياة، وحق احترام الإنسان ككيان متكامل،وتحريم التعذيب بصوره والعبودية والعمل القسري.وضمان حرية الإنسان الأسرية والخاصة،وحماية خصوصياته وأي معلومات شخصية،
وحق أن يعبر كيفما شاء،وحق التفكير وضمان حرية العقيدة.
وحتى يتحقق الاندماج بالمعنى الذي اشرنا إليه لابد من أن يكون حق التعليم والتوظف والامتلاك…على قاعدة المساواة الكاملة واحترام التنوع الثقافي والديني واللغوي بغير تمييز.
وتؤكد الوثيقة على حق الإضراب،وحق العاملين على أن تتم إشراكهم في المعلومات كما تتم استشارتهم،وتوفير الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وأية مساعدات اجتماعية.
وهكذا تترجم المبادئ الحقوقية من خلال تفعيلها بدمج المواطنين عمليا قي الواقع من خلال المشاركة وممارسة الحقوق وتوفير كل ما يلزمهم. ولعل أهم ما يهمني أن أؤكد عليه كدرس مستفاد من الخبرة الأوروبية هو أن الاندماج هو ما يحفظ للكيان تقدمه،وأن حقوق الأقليات والمهمشين لا يمكن أن تتحقق بعيدا عن الاندماج الذي هو مسئولية مشتركة بين الأقليات والمهمشين بالإصرار على الاندماج وبين الأطراف الأخرى والدولة…

وهذه هي الصيغة الأوروبية في حلتها الجديدة..والتي اختارت أن تستلهم موسيقتها الوطنية من لحن الفرح في الحركة الرابعة والأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن (المعروفة بالكورالية والتي سمعت في فيينا للمرة الأولى عام 1824) ..ولحن الفرح هذا كتب كلماته الشاعر الألماني شيلر(استعنا بترجمة للدكتور حسين فوزي من كتابه عن أعمال بيتهوفن) تعبير عن “الفرح بالاندماج” وجاء فيه:
“إلى الفرح”:
“يا جذ وة الفرح، أيها القبس الإلهي الجميل
يا بنت وادي الهناء!
إنا لنرد قدسك نتلظى بنشوة حمياك
يا بنت ماء السماء..
يا أيها الفرح ضم شمل النازحين والمتفرقين…
فالناس جميعا إخوان، تظللهم بجناحك
أيها الفرح العلوي..
ليحتضن البشر بعضهم بعضا،
وهذه قبلة أرسلها للناس جميعا،
أيها الملايين! اسجدوا لفاطر السموات،خلقكم فسواكم!

تلخص الكلمات السابقة توجه أوروبا الجديد في العناية بقوة القارة على قاعدة الاندماج بين كل مكوناتها ،والانطلاق كقوة عظمى قارية لها مصالحها التي ليست بالضرورة متطابقة مع المصالح الأمريكية. فأوروبا الموحدة باتت قوة سياسية منافسة لأمريكا حيث ناتج المحلي قد تجاوز 10 تريليون دولار وهو ما يزيد عن الناتج المحلي لأمريكا.
إن نجاح أوروبا في استيعاب دول البلطيق وتركيا والدول الجديدة نتاج التفكك في الإطار القاري الجامع سوف يدعم عملية التكامل السياسي في أوروبا كما سيفعل القدرات الأوروبية في شتى المجالات. بيد أن التحرك الأوروبي يواجه الآن بأمرين: الأول المخططات الأمريكية التي تحاول أن تضغط على أوروبا في أن تدفع ثمن تكلفة التوسع الأمريكي الإمبراطوري. وللتذكير فقط نقول كيف تلح أمريكا على فرنسا وألمانيا لزيادة قواتها في أفغانستان،كذلك تحاول أن تخيف أوروبا من الإرهاب الديني . الأمر الثاني هو تهديد روسيا بوتين إلى أوروبا إذا ما قبلت بولندا وتشيكيا أن تنشر الصواريخ الأمريكية على أراضيهما،كذلك قبول انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وهكذا يستعيد النظام الدولي بعضا من ملامح الحرب الباردة. وأخيرا أجج استقلال كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية المسلمة من كل من دعم أمريكي رسمي ورفض أمريكي غير رسمي يلتقي مع الدعم الروسي. وليلاحظ القارئ الكريم كيف تلتقي مصالح روسيا وبعض من رموز المحافظين الجدد في أن كوسوفو ستكون بوابة للإرهاب كما إنها سوف تعيد إلى الذاكرة الصراع بين الشرق والغرب مرة أخرى كما حدث في معركة كوسوفو بولي في القرن الرابع عشر إبان الامتداد العثماني البازغ.
ومرة أخرى تواجه أوروبا الجديدة تحديا من قبل أمريكا وروسيا على الرغم من اختلاف دوافع كل منهما. إن القوة المحتملة لأوروبا Potential Power بسبب محاولتها للتوحد واندماج دولها يمثل خطرا على أمريكا التي من جهة ، ولروسيا التي تحاول استعادة موقعها العالمي ولو على حساب حق الشعوب في الاستقلال. وعليه يتعرض مشروع أوروبا الجديدة للكثير من المخاطر بالرغم من أهمية ما يطرحه ويمكن أن يكون نموذجا إنسانيا كونيا يقتدي به من خلال وثيقة الحقوق الأساسية التي تستلهمها معاهدة لشبونة بعناوينها الستة: الكرامة،الحرية،المساواة،التضامن،حقوق المواطنين،العدالة.
ملحق (2)
برنارد لويس : نهاية الدولة الوطنية (النابليونية)..
وبداية حقبة الانقسام المذهبي. *

عقد معهد السياسة والإستراتيجية الإسرائيلي مؤتمرا حول “الخطر الإسلامي”، في هرتز ليا يناير 2007،فيما بات يعرف باسم “مؤتمر هرتز ليا” ، الذي يعقد بشكل سنوي. المفارقة أنه لم تكن هناك إشارة له من قريب أو بعيد في إعلامنا العربي، ولم يحظ باهتمام بحثي أو سياسي. ويعد هذا المؤتمر من أخطر المؤتمرات التي تعقد في المنطقة ،وذلك لاعتبارين هما:
الأول، هو طبيعة الموضوع الذي يتم اختياره وكيفية معالجته بصور وأشكال تأخذ منحى إستراتيجيا وإجرائيا في ضوء المعلومات الغزيرة التي يتم توفيرها والأفكار التي يتم طرحها.
الثاني، هو نوعية الحاضرين،حيث يشارك فيه رموز عسكرية، استخباراتي،وأكاديمية،واقتصادية،وسياسية،وتكنوقراطية،من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ،من المتعاطفين مع إسرائيل.
انعقد المؤتمر ،بحضور حشد غير مسبوق من المشاركين، بلغ 164 مشاركا من القيادات الإسرائيلية في شتى المجالات مثل:شيمون بيريز ،وأولمرت ،ونتنياهو،ووزراء سابقين وحاليين في الحكومة الإسرائيلية،وقيادات حالية وسابقة للموساد، وقيادات سابقة وحالية في الجيش الإسرائيلي، وقيادات عشرات من منظمات الضغط الإسرائيلية العاملة في أمريكا مثل “AIPAC ” وغيرها ،ورموز المحافظين الجدد والجمهوريين مثل ريتشارد بيرل،ونيوت جينجريتش، هذا بالإضافة لممثلي عدد من هيئات التمويل الأوروبية، ورجال الأعمال،ونخبة من الأكاديميين يأتي على رأسهم “برنارد لويس”(91 عاما)،الملقب “بشيخ المستشرقين المعاصرين”، الذي ألقى كلمته في الجلسة الأولى من اليوم الثاني من أعمال المؤتمر والتي انعقدت تحت عنوان مزدوج:

“اعرفوا عدوكم “Knowing Thy Enemy ،
في ظلال إيران والحرب ضد حزب الله.

و جاء في كلمته التي يمكن اعتبارها “مفتاحيه” للمؤتمر، ولمستقبل المنطقة، أن ما أسماه “الحقبة النابليونية” نسبة لقدوم نابليون بونابرت إلى المنطقة – والتي أطلقت “الدولة الوطنية” – قد” انتهت” بنهاية الحرب الباردة حيث القوى الدولية قد فتر اهتمامها بالشرق الأوسط،الأمر الذي يعني العودة إلى طبيعتها الأولى والتي سوف تتسم بأمرين هما:
* أولا، الرجوع إلى الهوية الدينية بديلا عن الهوية الوطنية التي سادت مع حركات الاستقلال وتفرغ المنطقة للصراع مع الآخر (الغرب المسيحي) ، حيث العودة للمعركة التاريخية بين الإسلام والمسيحية والتي احتدمت أكثر من مرة قبل قدوم نابليون إلى المنطقة،مرة في القرن السابع الميلادي،ومرة أخري مع الإمبراطورية العثمانية.كانت المرحلة النابليونية مرحلة ذات طابع وطني استقلالي وحداثي في آن،ولكن بانهيار الإتحاد السوفيتي عادت المواجهة الدينية مرة أخرى،المواجهة التي عرفت دوما بمواجهة المسلمين ضد الآخرين،It is always Muslim Against The Rest
إنها المحاولة الثالثة التاريخية كما تؤكدها كتابات المسلمين أنفسهم. وقد انطلق فيما قاله بان الهوية الأولية للشرق الأوسط دينية بالأساس وليست قومية أو إثنية.

ثانيا، يتم الصراع مع الآخر(الغرب) في ظل تنافس بين التيار السني الوهابي ويمثله بن لادن، والتيار الشيعي الذي مر بمرحلتين ثوريتين ،الثورة الإيرانية الخومينية الأولى، والثورة الإيرانية الثانية الحالية ،على هذا الصراع.والمحصلة المنطقية لما سبق،في تقديره ،الصراع مع الآخر الغربي،والتنافس على هذا الصراع بين السنة والشيعة، لابد وأن تتم عبر الصراع الداخلي في المنطقة بين المتنافسين أي بين السنة والشيعة، تماما مثل الصراع الكاثوليكي البروتستانتي الأوروبي،ويشير في هذا المقام لصدى الثورة الإيرانية وبريقها لدى أهل المنطقة على اختلاف مذاهبها.
هذه هي خلاصة الكلمة التي ألقاها برنارد لويس في إسرائيل،والتي تحتاج إلى تعليق،ولكن في ضوء المنهجية التي يكتب بها برنارد لويس – عادة – في إطار الفكر الاستشراقي ، وقد قمنا بدراستها عند ترجمتنا لدراسته الغرب والشرق الأوسط والتي نشرت في مجلة فورين أفيرز عام 1997 وتعد هذه الدراسة هي مشروع كتابه الذي نشر لاحقا بعنوان أين الخطأ؟ والآن مازا عن كلمة برنارد لويس.
القارئ لبرنارد لويس،يمكنه أن يلحظ بسهولة ،وبحسب إدوارد سعيد، إن جهده هو “جزء من البيئة السياسية أكثر من البيئة الفكرية الصرفة”56. من هذا المنطلق تأتي أهمية كلمة برنارد لويس التي ألقاها في محفل يضع استراتيجيات من أجل المستقبل ،فهو لا يتقدم بأفكار ذات طابع إشكالي فكري وإنما بأفكار تصب في الإطار “الجيو سياسي” ،فهو لا يتوقف كثيرا عن توضيح ماذا يعني بدقة بالحقبة النابليونية ؟ وما هي الدوافع التي أدت إلى قدوم الحملة الفرنسية إلى المنطقة ؟
لاشك أن الحملة الفرنسية كانت – تاريخيا – تعكس لحظة إشكالية مركبة بين المنطقة والغرب، لحظة لقاء/مواجهة- تحديث /استعمار لم تزل تداعياتها فاعلة إلى الآن. ولكن لا يمكن اختزال بناء الدولة الوطنية في منطقتنا انه تأسس بحسب الغرب وحده دون أي عوامل أخرى،وذلك بإسقاط أي جهد وطني ومحلي في التحرر،وعليه إعلان نهاية الحقبة النابوليونية، ومن ثم ضرورة الدخول إلى مرحلة الانقسام المذهبي –وأيضا –بحسب النموذج الغربي.
أي انه في الحالتين وبالرغم من تناقضهما،فانه لا مفر من سلوك المسار الغربي، وكأن التطور التاريخي هو – محض – ميكانيكي(بحسب أحد الباحثين)،وكأن المراحل التاريخية تبدأ وتنتهي بقرارات إستراتيجية ، حيث لا يؤخذ في الحسبان الجهود الذاتية الوطنية من أجل التقدم مهما كانت ضعيفة أو كثيرة الانتكاسات. إن هذا المنهج يستقيم مع محاولات هندسة المنطقة في صيغ سابقة التجهيز، وهو ما يتبناه لويس في كتاباته منذ وقت مبكر في الترويج للنموذجين التركي والإسرائيلي ،ويتلقفه البعض الآن حول استعارة النموذج التركي والكثير من الاستعارات الأخرى التي تصب في النهاية لصالح المشروعات الشرق الأوسطية بل ويستعيدون مقولات بايندر وناداف صفران و ادوارد واكين ، على حساب التراكم التاريخي.

 ش

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern