أوروبا

أوروبا: المواطنة… الاندماج… 

( لشبونة 2008)
سمير مرقس


” يا أيها الفرح ضم شمل النازحين والمتفرقين…

فالناس جميعا إخوان، تظللهم بجناحك

أيها الفرح العلوي..”


بعض من كلمات الشاعر الألماني شيلر
(استعنا بترجمة للدكتور حسين فوزي من كتابه عن أعمال بيتهوفن)
والذي يشدو بها الكورس في لحن الفرح
في الحركة الرابعة والأخيرة من
السيمفونية التاسعة لبيتهوفن
(المعروفة بالكورالية والتي سمعت في فيينا للمرة الأولى عام 1824)
وقد اختارتها أوروبا كي تكون الموسيقى الوطنية لأوروبا المندمجة


أوروبا: وستفاليا (1648).. لشبونة (2008)

في احتفال بسيط أقيم بدير جيرونيمو العريق في لشبونة بالبرتغال..وعلى خلفية موسيقى تعبر عن التراث الموسيقي الأوروبي..تم توقيع معاهدة لشبونة(بالأمس وقت كتابة المقال)،وهي الوثيقة التي ستأخذ أوروبا إلى القرن الواحد العشرين بحسب ما جاء في عنوانها..إنه حدث تاريخي بكل المعايير لا يقل عن توقيع معاهدة وستفاليا التي وقعت في عام 1648 التي يفصلها عن المعاهدة الحالية 360 عاما …فما العلاقة بين الوثيقتين..وما أهمية هذه الوثيقة الحالية التي ستكون جاهزة للتفعيل في يناير 2009 بعد أن تقرها أيرلندا الدولة التي سوف تعود إلى برلمانها في 2008 للموافقة عليها..وعليه يكون العام 2008 هو العام الذي سيشهد إقرار أوروبا بكامل دولها الأعضاء بالعمل بمعاهدة لشبونة.. سوف نتناول أهمية هذه الوثيقة..ونلقي الضوء على مفهوم المواطنة القائم على الاندماج حسبما جاء في المعاهدة..

دول قومية في إطار قاري جامع

بداية، تعد هذه الوثيقة البديل الذي تم التوافق عليه لما كان يعرف في السنوات الأخيرة بالدستور الأوروبي والذي كان يتضمن بنودا محل خلاف بين عدد من الدول الأوروبية. بيد أنه منذ اجتماع الإتحاد الأوروبي الذي عقد في ديسمبر الماضي(2006)،أخذت السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا على عاتقها أن تستثمر رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي لاستصدار وثيقة مرجعية تكون مقبولة من جميع الدول الأعضاء،والمزمع ضمهم،في الاتحاد الأوروبي. فالقلق الذي أبدته كلا من فرنسا وهولندا في العام 2005 حول الدستور المقترح آنذاك، لابد من مراعاته من جهة، والاستمرار في توحيد أوروبا بكل الطرق من أجل المصالح البعيدة المدى للقارة الأوروبية من جهة أخرى. وخلال هذا العام تم حل كل الإشكاليات التي كانت محل خلاف وخرجت إلى النور وثيقة لشبونة التي توافقت عليها 27 دولة أوروبية..إنها لا تقل أهمية عن وستفاليا..كيف؟

إذا كانت أوروبا قد استطاعت أن تتجاوز “حالة الطبيعة”،بحسب هوبز،(في القرن 17) حيث” الإنسان يعيش في حالة أولية سابقة على ظهور المجتمع،وهي حالة من الفطرة من حيث الدوافع والمواقف وردود الفعل ،فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان.وعليه فانه لا توجد بالتالي معايير وضوابط،أو بلغة أخرى قوانين..وعليه تكون الحرب هي السبيل الوحيد بين الدول وبعضها وهذا ما شهدته أوروبا في القرن السابع عشر،وتم تجاوزه بمعاهدة وستفاليا…فإن الأوروبيين قد أثبتوا،من خلال معاهدة لشبونة،إنهم قادرون على تجاوز ما تعرضت له شرعية وستفاليا من تفكيك للكيانات القومية. فعلى الرغم من أن صيغة الدولة ـ الأمة هي الصيغة التي سادت في أوروبا بموجب شرعية وستفاليا(1648)،فان هذا لم يمنع من أن تقبل الصيغة الأوروبية تفكك الكيانات المتعددة القوميات مثل الاتحاد السوفيتي،ويوغوسلافيا،وتشيكوسلوفاكيا.. بيد أن القارة الأوروبية أبدت قدرة ذاتية على إعادة اندماج الدول الوليدة في اتحادات قارية وإقليمية:اقتصادية وجمركية وسياسية وثقافية،الأمر الذي ساعد على علاج الترنح الذي طال الأسس القومية للدولة والتفكك الذي أصاب الدول الاتحادية..وهنا تأتي أهمية معاهدة لشبونة..
بلغة أخرى،من ناحية أوقفت معاهدة وستفاليا النزاعات القائمة على أسس مذهبية و عرقية في لحظة تاريخية معينة،وأسست لميلاد الدول القومية في أوروبا مؤسسة لمبدأين هما:

مبدأ السيادة، حيث يتم الاعتراف بسلطة الدولة الوحيدة والمطلقة داخل حدودها. فالسيادة الإقليمية أصبحت أساسا للنظام الجديد واعترافا بالشخصية الدولية لعدد كبير من الأمم.وواكب ذلك نشوء مفهوم السيادة الوطنية للدولة واحترام السيادة الوطنية للدول الأخرى داخل النظام الإقليمي.

مبدأ المساواة،حيث أكدت المعاهدة على المساواة القانونية بين جميع الدول المستقلة التي تتمتع بالسيادة دون النظر إلى عدد السكان أو مساحة الدولة أو ثرواتها أو تنوعها المذهبي أو الإثني.

ومن ناحية أخرى،أكدت معاهدة لشبونة على مرجعية الدولة القومية وسيادتها،في صورتها التاريخية،مع قبولها لأن تكون للدول الوليدة حضورها القومي في إطار قاري جامع من واقع التراث الثقافي والديني والإنساني المشترك للقارة الأوروبية القائم على الحقوق الأصيلة للشخص الإنساني من حرية وديمقراطية ومساواة وحكم القانون،كما جاء في المادة الأولى للمعاهدة. كما تراعي المعاهدة حقوق الأشخاص الذين ينتمون للأقليات،وتؤكد على أن القيم الأساسية التي وردت سابقا سوف تكون قيما مشتركة لكل أعضاء المجتمع الأوروبي حيث التعددية، وعدم التمييز،والتسامح،والعدالة والتضامن،والمساواة النوعية.

التضامن فعلا لا قولا

أكدت المعاهدة على أهمية التضامن بين مواطني دول أوروبا، وأن هذا التضامن كي يكون حقيقة، لابد له من درجة انتماء عالية إلى أوروبا الموحدة..وقد أدرك القائمون على بناء هذه الوحدة أو الرابطة الأوروبية، أن الشعور بالانتماء والإحساس بالمصير المشترك لا يمكن أن يكون صناعيا أو إنشائيا من خلال عبارات نصوصية في الوثائق أو شعارات ،وإنما يتم هذا بعمل دءوب قاعدي ومؤسسي،وتحديدا في مجالي الثقافة والتعليم.وفي نفس الوقت بإعمال التعاون المشترك في شتى المجالات،والتكامل الاقتصادي وبالأخص في مجال الطاقة،والمواجهة المشتركة لأي خطر يواجه القارة الأوروبية،ومساعدة أي دولة عضو تتعرض لأي كارثة من أي نوع،ويشار إلى تكرار المعاهدة لتعبيرات من عينة:
الدعم Supporting،
التنسيق Coordinating،
الإجراء التكاملي Complementary Action
ودخولها في كثير من التفاصيل في هذا المقام تجعل من المبادئ واقعا ماديا ملموسا.

ومن أهم ما أكدت عليه المعاهدة، فكرة أساسية تكررت أكثر من مرة ألا وهي حرية التحرك للمواطن الأوروبي – لاحظ عزيزي القارئ تعبير المواطن الأوروبي- في أرجاء دول القارة الأوروبية،هذه الحرية تتجاوز حرية الحركة إلى ماهو يؤكد الرابطة بين دول القارة،وأنه بات من الممكن ممارسة مواطنة عابرة للحدود بكل أبعادها. وفي نفس الوقت ترك الباب مفتوحا للانسحاب الاختياري لأي دولة في أي وقت، بيد أن المميزات التي تضمنتها المعاهدة من تبادل ثقافي واستفادة اقتصادية وحماية قارية..الخ، تجعل هذا الأمر بعيدا…لقد نجحت المعاهدة في ابتكار آليات اندماجية تجعل من المواطن الأوربي حقيقة..كيف؟

قراءة في معاهدة لشبونة

تعد معاهدة لشبونة من أهم المواثيق التي تم التوافق عليها بين مجموعة من الدول منذ معاهدة وستفاليا التي وقعت في العام 1648..فكلاهما ترتب عليه وضعا جديدا، كما أوضحنا في السابق،حيث الأولى(وستفاليا 1648) كانت الأساس في تأسيس الدول القومية واندماج مكونات كل دولة معا في إطار علاقات متساوية بينها على قاعدة المواطنة داخل الدولة الواحدة من جانب،وعلى قاعدة الاستقلال بين الدول القومية من جانب آخر..والثانية(وثيقة لشبونة 2008) يترتب عليها ميلاد الدولة الأوروبية الواحدة واندماج كل الدول الأوروبية في إطار قاري جامع وتأسيس ما يمكن أن نطلق عليه “المواطنة الأوروبية”(على الرغم من تعدد الدول التي تكونت نتيجة لانقسامات – مثل التشيك وسلوفاك واستونيا ولاتفيا وليتوانيا – إلا انها تعود للاندماج في وعاء أكبر) …كيف تم ذلك؟

الاندماج:كيفية التفعيل..و مواجهة الاستبعاد

انشغل العقل الأوروبي والمؤسسات الأوروبية بمستوياتها المتعددة على مدى العقد الماضي، بقضية الاندماج.وتوصل الاتحاد الأوروبي من خلال أدبياته إلى أنه لا يمكن انجاز الاندماج بدون الأخذ في الاعتبار الجانب المجتمعي،أو بلغة أخرى لا يمكن أن يصبح الاندماج حقيقة بغير إحداث تغيير في الواقع الاجتماعي بإزالة كل ما يعوق الاندماج وتكوين آليات قادرة على تفعيل هذا الاندماج. وخلص الجهد العلمي والسياسي الأوروبي إلى أن تفعيل الاندماج لا يقوم بغير:
إتاحة فرص متساوية للجميع وتمكين المهمشين والضعفاء بغض النظر عن أية
اختلافات.
ونقطة البدء في تفعيل الاندماج تكون بفهم الأسباب الهيكلية التي أدت إلى التهميش والاستبعاد الاجتماعي Social Inclusion. فما هي يا ترى هذه الأسباب؟

أجمع كثير من الباحثين أن الاستبعاد الاجتماعي ينتج بفعل الخلل في المنظومة الاقتصادية/ الاجتماعية في الأساس…فضعف المكانة وغياب السلطة والثروة لمن هم في أسفل البناء الاجتماعي يجعلهم يشعرون بعدم التكافؤ مع الآخرين، ويزداد هذا الشعور مع غياب الفرص المتساوية في الانتفاع بالخدمات المتنوعة مثل العلاج و التعليم. ولاشك أن الانتماء إلى فئات نوعية من غير الأغلبية يفاقم من هذا الشعور. وبناء عليه يحدث خللا مزدوجا في البنية الاجتماعية على المستويين الأفقي والرأسي وذلك كما يلي:
رأسيا:حيث الهيمنة الطبقية.
أفقيا: حيث الهيمنة السلطوية(قد تكون قومية،فئوية،سياسية،جيليه،جنسية،إثنية،دينية).

وعليه فان حل مشكلة الأقليات،والمهاجرين،والفقراء،لا يكون بنصوص نظرية،أو بنوايا حسنة،أو بحلول مؤقتة،أو بمزايا تخص البعض بمعزل عن وجود حلول جذرية تمتد للجميع و تضمن ألا تكون هذه المزايا مجرد حلول تسكينية أو حلول تمييزية لجماعة دون أخرى خاصة وأصل المشكلات قائم. كذلك الحل لا يكون بتقديم إحسانات ومعونات،أو بإجراءات إدارية،أو بإتاحة الفرصة للتدخلات الخارجية من خلال إقامة روابط عابرة للحدود بهدف الاستقواء أو طلب المساعدة لأن هذا يؤدي مع الوقت إلى التفكيك الداخلي…وإنما الحل يكون بالاندماج بتمكين الأقليات والمهاجرين والفقراء في إطار النهوض العام بالدولة(لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن أن نحيل إلى ..(The Politics of Inclusion &Empowerment كيف؟

الاندماج مشروع متكامل

الاندماج في التصور الأوروبي هو مشروع متكامل بين جميع أطراف المجتمع يبدأ بتحليل موضوعي لكل أنماط اللامساواة الاجتماعية،والخلل المجتمعي،والأشكال الجديدة من الانقسامات الهيكلية التي تؤدي إلى الاستبعاد والتهميش. وبناء عليه يتم وضع سياسات تقوم على وعي الجماعات النوعية والمهمشين بحقوقهم في إطار الوعاء الأوسع الجامع للكل،والمشاركة في صياغة الواقع مع الآخرين وليس بمعزل عنهم.
لذا اهتم الأوروبيون بالتأكيد على أن الاندماج (في هذا المقام يمكن مراجعة مقالنا عن مستقبل المواطنة في بريطانيا بجريدة الأهرام 16/8/2007)هو حصيلة كل من:
المواطنة الأفقية:ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن والتي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار مجال عام جامع لبناء الدولة بغض النظر عن الاختلافات.
والمواطنة الرأسية: والتي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطنين والدولة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وحماية وأمن.
في هذا السياق صدرت وثيقة لشبونة مانحة كل مواطن أوروبي حق التنقل والعمل والحياة على أي أرض من أراضي الاتحاد الأوروبي باعتباره مواطن أوروبي. ويحظى هذا المواطن الأوروبي بمنظومة حقوق بأبعادها المتعددة. فمن حقه أن يترشح للبرلمان الأوروبي ويصوت لمرشحيه تماما كما يفعل في انتخاباته المحلية. الأوربيون ليسوا مستهلكين أو أطراف في الأمور الاقتصادية والاجتماعية وإنما هم مواطنون من حقهم أن يشاركوا في التخطيط واتخاذ القرار والمحاسبة والمراجعة ولاطمئنان على تحقق الشفافية لكل ما يجري في دول الاتحاد الأوروبي.

وثيقة الحقوق الأساسية

تستلهم وثيقة لشبونة التزامها نحو المواطنين بتفعيل ما جاء في وثيقة الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي Charter of Fundamental Rights of the EU . وجاءت الوثيقة تحمل ستة عناوين أساسية وذلك كما يلي:

(1) الكرامة.
(2) الحرية.
(3) المساواة.
(4) التضامن.
(5) حقوق المواطنين.
(6) العدالة.

وتضمنت الوثيقة 54 بندا تؤكد في المجمل على القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لمواطني الاتحاد الأوروبي.( يلاحظ تعدد عناصر المواطنة والتي طالما نوهنا عنها في تعريفنا للمواطنة الذي اقترحناه منذ وقت مبكر في كتابنا المواطنة والتغيير،ويلاحظ كيف تحقق كل عنصر على التوالي – الحقوق المدنية فالسياسية والاقتصادية والاجتماعية – في الخبرة الأوروبية في ضوء التطور الاجتماعي،وإن هذا لا يعني أن نتبع هذا التعاقب ولكن ما أن تدلنا خبرة الآخرين على ذلك فإنه لابد أن نسعى لتحقيق المواطنة بأبعادها مجتمعة‘ وهو ما حاولنا أن نبرزه في رصدنا لتطور المواطنة في مصر من خلال ما أسميناه المراحل الخمس لمحاولات الاقتراب من المواطنة في الحالة المصرية منذ محمد علي).
بالعودة للوثيقة الأوروبية..نوجز أهم ما تضمنته في الآتي:

تؤكد البنود الافتتاحية على الكرامة الإنسانية،وحق الحياة، وحق احترام الإنسان ككيان متكامل،وتحريم التعذيب بصوره والعبودية والعمل القسري.وضمان حرية الإنسان الأسرية والخاصة،وحماية خصوصياته وأي معلومات شخصية،
وحق أن يعبر كيفما شاء،وحق التفكير وضمان حرية العقيدة.
وحتى يتحقق الاندماج بالمعنى الذي اشرنا إليه لابد من أن يكون حق التعليم والتوظف والامتلاك…على قاعدة المساواة الكاملة واحترام التنوع الثقافي والديني واللغوي بغير تمييز.
وتؤكد الوثيقة على حق الإضراب،وحق العاملين على أن تتم إشراكهم في المعلومات كما تتم استشارتهم،وتوفير الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وأية مساعدات اجتماعية.

وهكذا تترجم المبادئ الحقوقية من خلال تفعيلها بدمج المواطنين عمليا قي الواقع من خلال المشاركة وممارسة الحقوق وتوفير كل ما يلزمهم. ولعل أهم ما يهمني أن أؤكد عليه كدرس مستفاد من الخبرة الأوروبية هو أن الاندماج هو ما يحفظ للكيان تقدمه،وأن حقوق الأقليات والمهمشين لا يمكن أن تتحقق بعيدا عن الاندماج الذي هو مسئولية مشتركة بين الأقليات والمهمشين بالإصرار على الاندماج وبين الأطراف الأخرى والدولة…

وهذه هي الصيغة الأوروبية في حلتها الجديدة..والتي اختارت أن تستلهم موسيقتها الوطنية من لحن الفرح في الحركة الرابعة والأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن (المعروفة بالكورالية والتي سمعت في فيينا للمرة الأولى عام 1824) ..ولحن الفرح هذا كتب كلماته الشاعر الألماني شيلر(استعنا بترجمة للدكتور حسين فوزي من كتابه عن أعمال بيتهوفن) تعبير عن “الفرح بالاندماج” وجاء فيه:

“إلى الفرح”:

“يا جذ وة الفرح، أيها القبس الإلهي الجميل

يا بنت وادي الهناء!

إنا لنرد قدسك نتلظى بنشوة حمياك

يا بنت ماء السماء..

يا أيها الفرح ضم شمل النازحين والمتفرقين…

فالناس جميعا إخوان، تظللهم بجناحك

أيها الفرح العلوي..

ليحتضن البشر بعضهم بعضا،

وهذه قبلة أرسلها للناس جميعا،

أيها الملايين! اسجدوا لفاطر السموات،خلقكم فسواكم!

تلخص الكلمات السابقة توجه أوروبا الجديد في العناية بقوة القارة على قاعدة الاندماج بين كل مكوناتها ،والانطلاق كقوة عظمى قارية لها مصالحها التي ليست بالضرورة متطابقة مع المصالح الأمريكية. فأوروبا الموحدة باتت قوة سياسية منافسة لأمريكا حيث ناتجها المحلي يتجاوز 10 تريليون دولار وهو ما يزيد عن الناتج المحلي لأمريكا.

إن نجاح أوروبا في استيعاب دول البلطيق وتركيا والدول الجديدة نتاج التفكك في الإطار القاري الجامع سوف يدعم عملية التكامل السياسي في أوروبا كما سيفعل القدرات الأوروبية في شتى المجالات. بيد أن التحرك الأوروبي يواجه الآن بأمرين: الأول المخططات الأمريكية التي تحاول أن تضغط على أوروبا في أن تدفع ثمن تكلفة التوسع الأمريكي الإمبراطوري. وللتذكير فقط نقول كيف تلح أمريكا على فرنسا وألمانيا لزيادة قواتها في أفغانستان،كذلك تحاول أن تخيف أوروبا من الإرهاب الديني . الأمر الثاني هو تهديد روسيا بوتين إلى أوروبا إذا ما قبلت بولندا وتشيكيا أن تنشر الصواريخ الأمريكية على أراضيهما،كذلك قبول انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وهكذا يستعيد النظام الدولي بعضا من ملامح الحرب الباردة. وأخيرا أجج استقلال كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية المسلمة من كل من دعم أمريكي رسمي ورفض أمريكي غير رسمي يلتقي مع الدعم الروسي. وليلاحظ القارئ الكريم كيف تلتقي مصالح روسيا وبعض من رموز المحافظين الجدد في أن كوسوفو ستكون بوابة للإرهاب كما إنها سوف تعيد إلى الذاكرة الصراع بين الشرق والغرب مرة أخرى كما حدث في معركة كوسوفو بولي في القرن الرابع عشر إبان الامتداد العثماني البازغ.

ومرة أخرى تواجه أوروبا الجديدة تحديا من قبل أمريكا وروسيا على الرغم من اختلاف دوافع كل منهما. إن القوة المحتملة لأوروبا Potential Power بسبب محاولتها للتوحد واندماج دولها يمثل خطرا على أمريكا التي من جهة ، ولروسيا التي تحاول استعادة موقعها العالمي ولو على حساب حق الشعوب في الاستقلال. وعليه يتعرض مشروع أوروبا الجديدة للكثير من المخاطر بالرغم من أهمية ما يطرحه ويمكن أن يكون نموذجا إنسانيا كونيا يقتدي به من خلال وثيقة الحقوق الأساسية التي تستلهمها معاهدة لشبونة بعناوينها الستة: الكرامة،الحرية،المساواة،التضامن،حقوق المواطنين،العدالة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern