محمد سيد أحمد: صفات ثلاث
"التفكير غير النمطي"...
"الموسوعية"...
"استشراف المستقبل"...
صفات ثلاث ميزت المفكر والكاتب الكبير محمد سيد أحمد، منذ نشأته الأولى، إلَى أن رحل عن عالمنا...
فلقد آمن بأهمية "كسر النمطية"، وعدم الأخذ بالإجابات السهلة والشائعة، أو التي يحب أن يسمعها الناس، لأنها تريحهم... فالعملية الفكرية الناجحة لديه هي القادرة على أن تثير الأسئلة لأنها عملية جدلية متجددة وممتدة ما دامت هناك حياة... والحياة وفقًا للعلم في ديمومة مستمرة.
لقد كان ساعيًا بنهم للإلمام بالكثير من المعارف فاهتمَّ بأن يكون "موسوعي المعرفة"، لأن "الموسوعية" من شأنها أن تفسِّر الكثير من الأشياء، كما أن الموسوعية هي أساس التقدم الحقيقي... لأنها توسِّع زاوية الرؤية وتتيح التعرف على التفاصيل مكتملة في آن واحد... وهو منطق يتناقض مع ما انحازت له ثقافتنا في أن يركن المرء إلَى تخصصه الضيق الأمر الذي يحد من الفهم ومن الابتكار، وإمكانية الرؤية الشاملة...
وكانت عينه على المستقبل، ليس هروبًا من الحاضر، ولكن لأن التقدم يبدأ من تصور المستقبل الأفضل، ومن ثم العمل على تغيير الواقع وفق هذا التصور.
عاش محمد سيد أحمد حاملًا هذه الصفات منذ نشأته الأولى إلَى اليوم الأخير من رحيله... حملها في كلٍّ من سلوكه وأحاديثه وحياته، وفي كل سطر سطره من كتاباته... دعم ذلك دراسته لكل من الهندسة الإلكترونية والحقوق في آن واحد، وتعرُّضه للفلسفة مبكرًا على يد أستاذ الفلسفة الذي ساهم في اطلاعه على الفكر الماركسي في نفس الوقت...
كل ذلك ساهم في أن يصبح نموذجًا رائعًا للمثقف الشامل المتسق مع نفسه...
بل تكاد تكون هذه مهمته:
- كسر النمطية.
- الموسوعية.
- استشراف المستقبل... قولًا وفعلًا...
(2)
الطموح الموسوعي
عُنِي محمد سيد أحمد، منذ وقت مبكر، بأن يكون "تفكيره مختلفًا" و"موسوعيًّا"، منشغلًا بدراسة المستقبل من أجل تغيير الواقع... وحَوْل التفكير غير النمطي، يذكر لنا في سيرته التكوينية: "طلب منا في موضوع الإنشاء الذي طرح علينا في امتحان البكالوريا الفرنسية أن نُعلِّق على السؤال: هل الأدب يكتب بالقلب أم بالعقل؟... وكانت إجابتي أن الأمر تحكمه في النهاية الظروف الاجتماعية... ففي عصر الكلاسيكية، كان الأدب يكتب بالعقل لفرط التزام الكلاسيكيين بالعقلانية؛ وأوردتُ أسبابًا فسَّرَت ما سقته في هذا الصدد... ثم في عصر الرومانسية، كان الأدب يكتب بالقلب؛ وعددت الأسباب التي أوجدت هذه الظاهرة في أعقاب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية... ولم يعجب الأستاذ المصحح نهجي في معالجة الموضوع... وربما اعتبر ما كتبته منشورًا شيوعيًّا وأنا لا أعلم!... وسألني في الامتحان الشفهي: هل أنت الذي كتب كذا وكذا؟ قلت بكل براءة: نعم. قال: كدت أعطيك 2 من 20 لأن ما كتبته خارج الموضوع تمامًا... ولكن لأنك ملم بمعلومات كثيرة، وأنك من حيث المعلومات تستحق 18 من 20، فأعطيتك المتوسط 10 من20"...
تعكس هذه القصة كيف أن إجابة محمد سيد أحمد المبكرة في امتحان "البكالوريا" كانت تمثل خروجًا عن المألوف... خروجًا على الإجابات النمطية أو "النموذجية" بلغة أيامنا هذه... خروجًا أربك المصحح، ومعه منظومة المعايير التي دأب على أن يقيِّم بها طلابه، ووضح أن معاييره غير قادرة أو مستعدة للتعاطي مع ما هو غير نمطي وتقليدي...
إنها قصة دالة ولا شك، وأظنها انعكست على المنهج الذي حكم محمد سيد أحمد في كل ما كتب بعد ذلك، مدركًا أن الجديد لا يمكن أن يولَد إلا بكسر المألوف والمتوقع...
وحول أهمية "الثقافة الموسوعية"، نجده يدرك أهمية هذا الأمر منذ وقت مبكر... ويذكر لنا في التكوين وتحت عنوان (لاحظ العنوان) "طموح موسوعي" ما نصه:
"ونشأ لديَّ طموح، حَتَّى قبل معرفتي بالماركسية، بأن أكون ملمًّا بكل ما هو وارد أن يلم به إنسان! كان لي طموح موسوعي... وكنت أعتقد أن هذا ممكن... وقد مرت عليَّ سنوات كثيرة قبل أن أدرك أن الإنسان ليس عليه أن يعلم... بل أن يعلم كيف يعلم... وأن القضية قضية نهج قبل أن تكون قضية تخزين معلومات".
ويعكس لنا هذا النص، كيف أن محمد سيد أحمد كان مدركًا منذ منتصف الأربعينيات لأمرين هما:
الأول، أهمية الثقافة الموسوعية وأن ذلك ضروري وممكن.
وثانيًا، أهمية توفر منهج يضمن معالجة مثمرة للمعرفة...
فالقضية ليست "تخزين معلومات" - بحسب تعبيره - وإنما القضية في المنهج العلمي الذي يضمن تنظيم المعرفة، ورفع القدرة على التربيط، وتوليد الجديد... ولا يخفى على القارئ الكريم أن كل هذه الأفكار قد تمت بلورتها بدقة مع التقدم التقني في مجال المعلوماتيات لاحقًا... وليس صدفةً أن محمد سيد أحمد كان من أوائل المثقفين المصريين الذين تناولوا القضايا المتعلِّقة بثورة المعلومات... كذلك تجدر الإشارة أن محمد سيد أحمد في استخدامه لتعبير "تخزين المعلومات" قد سبق باولو فريري الذي حذر من (التعليم البنكي).
بالأخير، فإنه يصبح من الطبيعي متى عُنِيَ المرء بـ "الموسوعية" و"التفكير غير النمطي"، أن يكون همه الأول هو استشراف المستقبل...
(3)
"آن الأوان"... قراءة في منهج محمد سيد أحمد
لعل القارئ لكتابه الهام "بعد أن تسكت المدافع، سوف يلحظ كيف أن هذا الكتاب قد عبَّر عمَّا حاولنا التأكيد عليه... فلقد اختار لحظة تاريخية حاسمة من تاريخ المنطقة، وتحديدًا عقب حرب 1973، كي يطرح أفكارًا يتجاوز بها نمط التفكير السائد واللغة التقليدية في إطار قراءة موسوعية للمتغيرات العالمية وإدراك عميق للتطور الإنساني، بمنهجية صارمة ميزت كل ما كتب بعد ذلك، وصارت تقليدًا التزم به.
ويطالعنا في مقدمة الكتاب وتحت عنوان "آن الأوان" بما يلي:
"آن الأوان أن نفكر فيما لا نجرؤ أن نفكر فيه.
آن الأوان أن نتحلل من محاذير كثيرة، طالما وقفت عقبة أمام قدرتنا على التصور.
لم نعد نملك أن نفكر بعقلية القرون الوسطى، حيث هناك محاذير على الفكر، لأن هناك محاذير على القول.
آن الأوان ألا نقصر محاور المستقبل على محاور الماضي، وألا نرفض مسبقًا ما لا يَستمد أحقيته أو شرعيته من أوضاع استقرت في الماضي.
ليس هناك بالتأكيد تطور لا يستند إلَى قاعدة في التاريخ. ولكن التاريخ لم يعد تاريخ منطقة بعينها فقط، ولا تاريخ حضارة محددة بقسماتها الخاصة وحدها، أو تطور قطاع من العالم بمعزل عن التطور العالمي ككل.
وبالمقابل، فان مستقبل القضايا التي تواجه أي شعب لا يمكن استشرافها لو قصرنا الرؤية على مجريات تطور هذا الشعب وحده، وأسقطنا التطور العالمي بأسره، في عالم يتمدد إلَى غير حد، وتتسع آفاق حيزه المكاني وحيزه الزماني دونما قيد، وتتنوع وتتعدد اتجاهات الحركة فيه فوق أبعد ما يملك استطلاعه أخصب خيال.
إن العالم يتحول بسرعة، ولا يرحم المتخلف. علينا أن نتعلَّم لما يصدمنا، وألا يشل تفكيرنا ما يوجعنا.
لقد اعتدنا على ضبط تفكيرنا وفق ما هو مُصَرَّح به فقط.
وعلى تقييده بأغلالٍ ننسجها بأيدينا، الواحدة بعد الأخرى:
- أغلال التقاليد الراسخة.
- وأغلال التقاليد المقبولة.
- وأغلال السلطة القائمة.
نسعى إلَى تكييف كل اجتهاد وفق ما يُرضي أو يَرضى به الحاكم أولًا. ولو خالفناه، خالفناه استنادًا إلَى أسانيد نستمدها من الشرعية القائمة، ولا نتعدَّى هذا أبدًا.
ما زلنا نعيش منطق المجتمع القبلي... بل نحن مهدَّدون بزيادة استشراء منطق المجتمع القبلي، بعد تعاظم شأن الثروة العربية بفضل كنوز تختزنها الأرض، ولم تكن ثمرة اجتهاد عقلي، ولا جهد عضلي، ولا معاناة إنسانية، ولا عملية ارتقاء حضاري. والقبيلة لا تقبل عاصي تقاليدها، ولا الخارج على نظمها، وترفض كل متطلِّع إلَى منهج مستنير، لأن منهج الاستنارة هو القضاء على الحجة التي تستمد أحقيتها فقط من وزن وقوة السلطة، لا من محاولة استكشاف الحقيقة.
إن السلطة في دول الغرب تخلق الآن أجهزةً مهمتها فقط هي تنفيذ كل قرار هي بصدد إصداره، وتقليبه من الوجوه، ونقده من شتى جوانبه، لتتسلح بالحجج المضادة، بدلًا من أن تفاجأ بها بعد فوات الأوان. وهذا نقيض منطق القبيلة في الصميم.
إن قيمة الكلمة وقيمة الفكرة هي التي تصمد لاختبار الزمن. هي التي لا تحكمها فقط العوارض المؤقتة (ولن ينتجها الالتفات إلَى العوارض المؤقتة)، بل هي التي تتسم بخاصية كل تحفة فنية، قابليتها لأن تزداد ثراء كلما زادت قدمًا.
إننا في عصر ثورة. وليست الثورة مصطلحات ثورية فقط، ولا هي تمجيد أو تقديس أحداث كانت ثورة في يوم ما... بل هي عملية متصلة حلقاتها، متجددة أبدًا، متسعة الآفاق أبدًا. هي أن نقفز باستمرار إلَى أبعد، وأن نفتش باستمرار عمَّا هو ناشئ، وندفع بالمولود الجديد إلَى الحياة، أيًّا كانت آلام المخاض".
(4)
استقراء المستقبل: البيان التأسيسي
"آن الأوان"، تعبير دقيق عن المنهج الفكري لمحمد سيد أحمد... وأقرب إلَى بيان تأسيسي يدعو فيه للانضمام لحزب البحث والمعرفة والمستقبل... محرِّضا على فك الارتباط بالقبيلة ذات الثراء السهل وعصيانها، والانخراط في حزب الحداثة حيث العقل والاستنارة... لأن هذا - وبهذا وحده - هو سبيلنا للتقدم، وهذه هي الثورة الحقيقية.
بَيْدَ أن هذا البيان التأسيسي يحتاج إلَى تأصيل نظري يعمِّق الأفكار الأولية، وهنا نجد الفصل الأول من كتاب "بعد أن تسكت المدافع"، يقوم بهذه المهمة تحت عنوان:
- "هل استقراء المستقبل ممكن؟"
ونكتشف أن محاولته التأصيلية تتجاوز موضوع الصراع العربي الإسرائيلي إلَى ما هو أبعد من ذلك... إنها محاولة تأصيل للكيفية التي يجب أن نعالج بها قضايانا وملفاتنا الكبرى... من خلال رؤية تتداخل وتتقاطع فيها مجالات:" التاريخ" و"علم الاجتماع" و"العلوم الطبيعية والتكنولوجيا" و"فلسفة الزمن" و"فلسفة العلم"...
ونقطة البدء عنده هي "المستقبل"... "... فلم يعد المستقبل إذًا أمرًا يحتمل تركه للمجهول، بل أصبح تحديد تصور عنه، واضح المعالم والملامح، من صميم المسائل التي تقرر في عصرنا اختيارات الحاضر..." ، وبناءً عليه، فإن ارتياد المستقبل ليس ترفًا، وإنما هو ضرورة لتغيير الواقع.
"... إن استقراء المستقبل لا يختص بالوقائع، وإنما يختص بالاحتمالات الراجحة. وليس شرطًا أن ما يجري التنبؤ به سوف يقع حتمًا، ولكننا لو تصورنا علمًا لاستقراء المستقبل، فإننا نعني به علمًا يحدد الاحتمالات الأكثر رجحانًا، انطلاقًا من معطيات أو من مؤشرات قائمة فعلًا في الحاضر. ولن تكمن أهمية هذا العلم في أنه سوف يطرح ما نملك الجزم بأنه واقع لا مناص، وإنما تكمن أهميته في أنه مرشد يجوز الاعتداد به لقرارات تخص الحاضر. نتصوره علمًا منصبًّا على المستقبل، ولكنه يستمد أحقيته من أنه أداة لخدمة الحاضر. وسوف تزداد قيمة هذا العلم كلما أثبت قدرته على تنبيهنا إلَى احتمالات لن تبدو لنا بديهية لو غضضنا النظر عنه، وقصرنا رؤيتنا للأمور على ما نلمسه في واقعنا الراهن".
ويحدد محمد سيد أحمد عددًا من القواعد الحاكمة لاستقراء المستقبل:
"أولًا: المنهج:
حيث يزداد ثراءً كلما انطوى على مفاتيح خليقة بتفجير مشاكل، وتنشيط الفرضيات العلمية، وكلما حفز الإبداع الفكري، وطرح الافتراضات التي يمكن أن تكون نواة لتصورات ربما يقبل بعضها التطبيق.
ثانيًا: الخيال:
فأي استقراء للمستقبل لا يجوز أن يكون خاليًا من الخيال؛ ذلك أن الخيال جزء من مكونات التصور الإنساني. والإنسان بخياله يتحدَّى الجبريات والحتميات، ويصنع تاريخه بيديه. وقد لا يكون الخيال دائمًا قابلًا للتطبيق. قد ينم عن تصور خاطئ يفتقد الأساس العلمي، أو قد لا يملك الإنسان الأدوات التكنولوجية لوضعه موضع التطبيق في مرحلة ما من تاريخه. ولكن لا ينبغي التهوين من شأن الخيال وأهميته. إن الخيال هو دائمًا زاد الإنسان لإثراء التاريخ، ولزيادة أحكام قبضته على الواقع الذي يحيط به.
ثالثًا: أدوات ووسائل استقراء المستقبل:
أدوات ينبغي أن نغترفها من العلم المعاصر، لوضع افتراضاتنا ونتاج تخيلاتنا موضع الاختبار. أدوات ووسائل كفيلة بتقديم نماذج لواقع مرتقب ظهوره مستقبلًا، كفيلة بطرح سيناريوهات Scenarios عن هذا المستقبل، وطرح بدائل متعدِّدة تفسح الطريق لانتقاء الأرجح، أو لإرشادنا إلَى الأفضل".
ويميز محمد سيد أحمد بين من سوف يقصر استقراء المستقبل على الأمور الكمية مثل: حركة التعداد السكاني، أو كمية الطاقة المطلوب استهلاكها، أو الموارد الطبيعية المتاح لنا استغلالها... حيث إن الأهم هو أن "ندرك أن هذه المتغيرات الجزئية التي تنم عن أجزاء فقط من صورة المستقبل، لا تنطلق في فراغ، ولا هي معزولة بعضها عن بعض، وإنما تتطور وتتغير وهي تزاحم بعضها البعض، وتتصارع وتتفاعل فيما بينها. ما تطورها وتغيرها إلا تعبير عن هذا التصارع. ولذلك كان استشراف المستقبل هو في المقام الأول دراسة لخريطة هذه الصراعات والتفاعلات، ودراسة لحركة التناقضات وصراع الأضداد، والمعضلات الناجمة عن ذلك".
يعتبر محمد سيد أحمد من أوائل المثقفين الذين تبنوا المنهج المستقبلي حياةً وفكرًا، وتأتي أهميته في أنه يفتح آفاقًا تحليليةً ذات طبيعة مركبة من جهة، كما أن هذا المنهج يأخذ في الاعتبار الجديد في شتى المجالات... لذا نجد محمد سيد أحمد في حديثه عن صراع الأضداد لا يقصر الحديث على البعدين السوسيو سياسي، والسوسيو اقتصادي، وإنما يأخذ في حسابه التطورات المطردة في علوم الذرة والفضاء، التي انعكست على حركة المجتمع بخريطة تناقضاته من حيث إعادة النظر في كيفية مقاربته من منطلق ديناميكي لا سكوني... بالإضافة إلَى أن الزمن بمعناه الكلاسيكي لم يعد كذلك، وأن المسافات قد تم اختزالها بسبب ثورة الاتصالات.
(5)
في رؤية العالم/الواقع
إن ثلاثية: "التفكير غير النمطي"، و"الثقافة الموسوعية"، و"استشراف المستقبل"، قيم ثلاث أساسية آمن بها محمد سيد أحمد... وكانت محركة لتفكيره، وفاعلة وحية في كل ما يكتب... فلقد كانت بالنسبة له أعمدة ثلاثة لا يمكن أن تقوم للمثقف الحقيقي قائمة بدونها، خاصة وأننا في عصرٍ تتضاعف فيه المعرفة بشكل مذهل لم تعرفه البشرية من قبل، ومن ثم تتجدد فيه التكنولوجيا للدرجة التي نشهد فيها جيلًا وأكثر من المنتج التكنولوجي في السنة الواحدة... ولذا كان يقول إن إنجازات العلم والتكنولوجيا في عصرنا تعلمنا:
"أننا كلما زدنا علما زدنا إدراكًا بما لا نعلمه".
وعليه، وعلى الرغم من تسلُّح الكثيرين باليقينية للدرجة التي تجعلهم لا يُعنون بالاستزادة من نهل المعرفة والانفتاح على إبداعات العقل الإنساني؛ حيث لا حاجة لهم بأدب وشعر وفن وعلم، ظنًّا أنهم ملكوا الحقيقة المطلقة - فإن هذا في الواقع يؤكد مدى نسبية الحياة التي نعيشها بسبب المتغيرات المطردة/المركبة، وأن سلوكهم هذا ما هو إلا ردة فعل على "النسبية"/"المتغيرات" التي لم نعد نقدر على مواكبتها... وبالطبع يزداد الأمر تعقيدًا في بلدان الجنوب أو العالم الفقير، الضعيف، المتخلف، عالم الكم وليس الكيف، بحسب محمد سيد أحمد.
وفي هذا السياق نرصد رؤية أتصورها جديرة بالاهتمام يطرحها محمد سيد أحمد حول مستقبل العالم، يقول فيها:
"... الحقيقة أن العلاقة الجدلية بين الكم والكيف هي أحد مصادر ما نشهده من أوجه تباين على اتساع المجتمع الدولي كله. هناك بلغت من التقدم ما حقق لشعوبها قدرًا ملموسًا من الكيف، مع كل ما قد يوجد داخل هذه المجتمعات من تباينات. بينما هناك مجتمعات ما زالت متخلفة، تتكاثر كمًّا دون أن يتحقق لها أي قدر من الكيف"...
ولكن، وبسبب أن موارد الكوكب محدودة، فإننا "بصدد نوعية جديدة مختلفة من العلاقة بين قطبي الازدواجية. ليست علاقة تناظر وتكافؤ. ولكن بسبب أن الطرفين ينتميان معًا إلَى كوكب واحد، وإلى موارد طبيعية محددة (بمعنى أن الموارد المتوفرة لعمليات التنمية عمومًا تظل في حدود معينة، مع كل ما أنجزته، أو سوف تنجزه مكتشفات العلم والتكنولوجيا في هذا الصدد). فلقد ترتب على هذه الحقيقة، حقيقة أن عالم اليوم بات يتسم بصفة المنظومة المغلقة Closed System، لا انفصام لمكوناته... إنه عالم أينشتايني (نسبة إلَى أينشتاين)... أي عالم تتمدد فيه المسافات داخل حيز يتقلص. إن الضعيف كفيل بتحاشي أن يتحمل وحده الضرر، وكفيل بإلحاق ضرر بالغني والقوي أيضًا، وإلزامه مثله بمواجهة تحدي الازدواجية، وبألا يتاح له ترف صرف النظر عنها...".
"... معنى ذلك أن حماية الكوكب - كوعاءٍ للحياة - أصبحت من العوامل التي تقرر حرية الفرد، وضوابط السلوك البشري. معنى ذلك التسليم بخطأ التصور أننا أمام وعاء مفتوح، وارد أن نغترف منه ما نشاء، وخطأ الانطلاق من أن موارد الكوكب لا نهاية لها، أو قابلة دائمًا للتجديد. إن هذه افتراضات...".
هناك ضرورة للحضور الفاعل في الحضارة الكوكبية، كبديلٍ عن حتمية صدام الحضارات، أي: انتعاش القوميات والأعراق والعصبيات في مختلف صورها، والأصوليات والسلفيات... وأن تصارعها حتمي... وأن هذا هو الحل لإشكالية التناقض بين شمال وجنوب الكوكب...
ويجب التأكيد على أن ما طرحه محمد سيد أحمد يكتسب أهمية كبرى؛ ذلك لأنه طرحه مبكرًا، ولم تكن هذه النوعية من الموضوعات يدركها كثير من المثقفين، وهو الأمر الذي لم يكن ليبلغه لولا دأبه على الاطلاع الدائم على الجديد في هذا المقام... وأيضًا ثقافته الواسعة التي مكَّنته من استيعاب الكثير من الأفكار التي تمزج بين الثقافة العلمية من جانب، والثقافة السوسيو اقتصادية من جانب آخر... لذا كان محمد سيد أحمد سابقًا في أطروحاته...
ونشير في هذا السياق إلَى كيف أنه طرح أسئلة مبكرة في مطلع الثمانينيات حول مستقبل مصر يقول فيها:
هل بوسع مصر الغد أن تحتمل نظامًا ديمقراطيًّا؟ وهل بوسع نظام ينتسب إلَى الديمقراطية أن يكون ديمقراطيًّا بالفعل؟
هل بوسع مصر الغد أن تُسقط البعد الاجتماعي، وأن يكون التركيز فقط على الحريات السياسية وحقوق الإنسان؟
هل بوسعها إسقاط البعد الاقتصادي مع اضطراب خريطة مصر الطبقية، وتمزق نسيج المجتمع، وزيادة الفوارق الاجتماعية، وانفلات الأوضاع الاقتصادية من سيطرة الجميع؟
أليست هذه الأسئلة، التي أثارها محمد سيد أحمد منذ ربع قرن، مثارةً إلَى يومنا هذا؟!
(6)
المستقبل عنصر أساسي في أعماله
المستقبل إذًا، صار المنهج الحاكم لمحمد سيد أحمد... فبعد أن وضع رؤيته التأصيلية حول المستقبل، جاءت صفحات الكتاب كلها تدور حول مستقبل الصراع والمواجهة، ومستقبل الداخل الإسرائيلي، ومستقبلنا ومستقبل المنطقة، وكذلك مستقبل النظام الدولي... وباتت الكلمة ذاتها من أكثر الكلمات استخدامًا في كتابات محمد سيد أحمد... فعلى سبيل المثال لا الحصر نجدها فيما يلي:
(أ) الكتب.
- مستقبل النظام الحزبي في مصر.
- سلام أم سراب .وفي هذا الكتاب نجد كلمة المستقبل تتكرر في الفصول التالية كما يلي:
* هل لعملية السلام مستقبل؟ (الفصل الأول).
* المستقبل كمرجعية. (الفصل الرابع).
* دور مستقبلي لمصر. (الفصل الثامن).
(ب) الدراسات والمقالات:
- مستقبل الماركسية في مصر.
- حول مفهوم اليسار مستقبلًا.
- حروب المستقبل.
- مستقبل المسيحيين العرب.
القارئ لهذه الكتابات وغيرها، يجد تجسيدًا حيًّا لما ألزم نفسه به منذ عقود... تفكير غير نمطي، ثقافة موسوعية لا تفرق بين العلوم الإنسانية والتطبيقية، محاولة لاستشراف المستقبل فيما يتعلق بالقضية التي يتناولها... لذا كانت أطروحاته تثير الكثير من الجدل. البعض اتفق معه، والبعض الآخر اختلف معه... ولكن كان هناك إجماع على أهمية ما يطرحه، وتقدير لاجتهاداته التي تتجاوز ما هو سائد...
في هذا السياق، نشير لبعض التعليقات حول كتاباته تجمع على العناصر الأساسية التي تميز كتابات محمد سيد أحمد، والتي قمنا برصدها في هذه الورقة، والتي لا يمكن أن تخفى على أحد أو يتغاضى عنها منصِف، مهما كانت درجة الاختلاف بينهما، وذلك كما يلي:
- يقول ناصيف حتي: "... أسوة بدبلوماسية الصدمات في العلاقات الدولية، هنالك أيضًا في الأدبيات السياسية ما يمكن توصيفه بفكر الصدمات، وهو كناية عن تفكير جريء وطليق وخلاق يخرج عن دائرة المفاهيم المترسخة، ويبتعد عن التحليل النقدي، ويُعتبر محمد سيد أحمد بحق من أبرز ممثلي هذه المدرسة الفكرية. فكلنا يذكر (بعد أن تسكت المدافع) في منتصف السبعينيات، والذي شكل حينذاك خروجًا على النص المألوف على الصعيدين القومي والسياسي، وأسقط الكثير من المحرَّمات والقوالب الفكرية الجاهزة. ويعود علينا محمد سيد أحمد بفكر الصدمات مرة أخرى مع كتاب (سلام أم سراب)، في منتصف التسعينيات".
- ويقول إبراهيم فتحي حول كتاب (سلام أم سراب): "هذا كتاب يتميز بالعمق وبعد النظر والجسارة الفكرية، لا يقف عند سطح الظواهر ولا يتقيد بالشائع، ولا ينحني أمام المسلَّمات المتداولة، بل يحيط بالوقائع في تنوُّعه، ويلمُّ بوجهات النظر المتباينة، ليصل إلَى رأي مدروس. لذلك فإن هذا الكتاب يتطلب جهدًا كبيرًا من القارئ لمتابعته، كما يتطلب جهدًا مضاعفًا لقراءته قراءةً نقديةً يستدعيها منهجُ الكتاب نفسه... وابتداءً من السطور الأولى، يحيلنا المؤلف إلَى نظريات علمية جديدة تخالف الكثير مما نسب إلَى العلم طوال قرون، مثل نظرية الفوضى ونظرية التركيب، في إيماءة موحية إلَى أن آراء المؤلف لن تسير في الطريق المعبَّد الذي سار فيه الفكر السياسي العربي طويلًا".
- ويقول عمرو كمال حمودة عن نفس الكتاب أنه: "يقدم بانوراما شاملة للأوضاع التي تحكم عملية السلام مع إسرائيل، في إحاطة أخاذة ثم محاولة جريئة لتقييم الموقف ومحاولة تقديم بديل للأزمة المحيطة بالصراع. وقد أدخل المؤلِّف في بنائه الفكري العديدَ من العوامل والعناصر الجديرة بالاهتمام، بالربط بين الماضي والحاضر والمستقبل. فنحن أمام عمل كبير جاد ورصين وتناول غير تقليدي مؤسس على العقلانية وهي نادرة هذه الأيام”.