أهم أفكار 2016...«1» فضيلة المراجعة الدائمة

عاما بعد عام، يتأكد لى من خلال مراجعتى لحصاد العقل الإنسانى فى المجتمعات الحية من إبداعات فكرية تمثل إضافة حقيقية لتاريخ المعرفة- كيف أن هذه المجتمعات تتميز بعقل نشط ودائم التساؤل فى شتى مناحى الحياة، فلا توجد لديه: أولا: إجابة نهائية. ولا يعرف ثانيا: إجابة نموذجية. ولا ثالثا: إجابة سابقة التجهيز. كما لا يعيد ـــ وهو الأهم ـــ رابعا: إعادة طرح الأسئلة التى سبق الإجابة عليها، إنها أربعة معايير تميز عقل المجتمعات الحية، فهو عقل مدرب على التساؤل، بالأساس. ذلك لأن هناك علاقة جدلية وشرطية بين الحيوية والبحث عن جوهر الأشياء، وأسباب الظواهر، والبحث عن حلول مبتكرة خارج ما هو متعارف عليه، إنها ما يمكن أن نصفه بفضيلة المراجعة الدائمة.

(2)

والسؤال هل هى فضيلة موروثة تتوارثها المجتمعات عبر العصور. أو هى فضيلة تحتكرها أعراق بعينها. واقع الحال فإن هذه الفضيلة هى فضيلة تتعلق ــــ بالأساس ــــ بقيم الإنتاج وتجلياته المتنوعه، فالإنتاج يعنى البحث عن الجديد، والبحث عن الجديد يعنى وجود معمل/مختبر: تقنى، وفكرى، والمعمل/المختبر يعنى التجريب والاكتشاف، ومن ثم التطبيق، وهى دورة لا سقف لها، ولا نهاية تحدها، فالتطبيق لا يعنى النهاية وإنما الطريق لدورة إبداع أخرى. ينطبق هذا على العلوم الإنسانية مثله مثل العلوم التطبيقية، فالفكرة مثلها مثل المادة الطبيعية قابلة للمعالجة واستخراج معنى وتوظيف لها ثم إعادة اختبارها وهكذا.

(3)

فى هذا السياق، نجد العقل الإنسانى دائم الإبداع والإنتاج الفكرى شأنه شأن إنتاج الأجيال المتعاقبة من التقنيات المختلفة، وعلى العكس نجد المجتمعات غير المنتجة تجتر الأسئلة، وتعيد إنتاج الأجوبة. ولا تدرك الأسئلة الجديدة العديدة التى تطرحها حركة الناس وتفاعلاتها فى حياتها اليومية، وكأنها فى حالة ثبات، لذا تكون النتيجة: أولا: «إجابات قديمة مستعادة من الماضى»، أو ثانيا: «استجابات قدرية بضرورة قبول المقدر دون تفكير».

(4)

فلقد تبنت المجتمعات الحية/المنتجة؛ فكرة مفادها: «نحو ولادة جديدة دائمة»/«إنتاج جديد» فى شتى المجالات. وتبين أن ما يضمن استمرارية الإبداع؛ وضمان ديمومة تحول (ولادة) «آمنة» نحو التقدم؛ هو الأخذ بمبدأ- أو لنقل فضيلة- المراجعة الدائمة.

(5)

وتقوم منهجية المراجعة الدائمة على ممارسة «إعادة النظر» Reconsideration؛ فى المفاهيم والأفكار والتوجهات والممارسات. حيث تخضع كلها للتفكير، والبحث، والفهم، والتنظير، مرة تلو المرة. ولم يعد غريبا أن يراجع الباحثون ما يخلصون إليه من حين إلى آخر. فبعد أن يقدم تصوره حول فكرة من الأفكار أو قضية من القضايا. نجده يبدع مجددا حول نفس الفكرة أو القضية، وفى هذا المقام نذكر مجموعة من الأعمال صدرت خلال السنوات الأخيرة تمارس منهج إعادة النظر مثل: إعادة التفكير فى المواطنة لموريس لاروش، وإعادة التنظير فى القومية لرونالد باينر، وإعادة البحث فى العولمة لمالكوم واترز، وإعادة التفكير فى الطبقة لمايك سافاج وجون سكوت، وإعادة بناء الماركسية لإريك أولين رايت، وإعادة النظر فى الرأسمالية لوالرشتين ومايكل مان، وأطروحة وليم هارفى النقدية حول الرأسمالية التى شرفنا بتقديمها للقارئ العربى العام الماضى لأول مرة، والصراع الطبقى والاجتماعى عبر المجال الرقمى وقد قدمنا لها فى حصاد العام الماضى، كذلك التصورات الجديدة للعلاقات الدولية،...، إلخ.

لا يتوقف ما سبق على القضايا الإشكالية وإنما يتجاوزها لأحداث التاريخ: ويكفى الإشارة إلى عدد الكتب والدراسات والأفلام الوثائقية من وجهات نظر متنوعة التى تناولت مئوية الحرب العالمية الأولى- ولا تزال- وإعادة تقييمها (على سبيل المثال). كذلك التركيز على الدراسات الخاصة بنقد الدولة القائمة وأسباب فشلها فى غياب العدالة وانتشار اللامساواة بين المواطنين. والظروف التى واكبت نمو ظاهرة الحركات الشعبية الجديدة المضادة للمؤسسات. ودراسة التطورات التى لحقت بالمجتمعات على المستويين الاجتماعى والسياسى. غنى عن الذكر، التطور المذهل فى مجالات: الكيمياء، والفيزياء، والطب،...، إلخ، فى نفس الوقت.

(6)

ما سبق هو ما يعكسه حصاد الفكر فى 2016. فبالرغم من كل الارتباكات المجتمعية التى شهدها العالم خلال العام الذى سيفارقنا خلال أيام، إلا أنه يقول لنا بوضوح إن العقل لم يزل حيا ودائم الاجتهاد والمراجعة. لذا فلقد أنتج الكثير والكثير سوف نعرض له فى قادم مقالات نهاية العام التى نخصصها لأهم إبداعات العقل الحى فى 2016. نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern