قد يبدو السؤال مزعجا وثقيلا لدى البعض. وقد يبدو متكررا لدى البعض الآخر...«مزعجا وثقيلا» لأن هناك من يدرك أن حديث المواطنة يعنى الحقوق. وأنه ما إن يبدأ حديث الحقوق، فإنما يعنى هذا أنه يجب أن يترتب عليه مكتسبات فى المجالات: المدنية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية. ومحصلة المكتسبات ودرجتها ونوعيتها وطبيعتها هى التى تنقل الأفراد من الحالة الرعوية إلى الحالة المواطنية... ومن الانكفاء على أنفسهم فى التجمعات الأولية (أشكال التنظيم الأولية: العشيرة، القبيلة، الطائفة،...، إلخ)
إلى الانخراط فى المجال العام، كمواطنين متساوين بالرغم من أى اختلافات (والتى عددناها فى كتاباتنا مبكرا ـــ وقد كان لنا إضافة المكانة والثروة بالإضافة إلى الاختلافات المتعارف عليها، ويمكن مراجعة مقالاتنا فى مجلة اليسار، تحت باب حمل اسم «نحو المواطنة» فى التسعينيات، وكتابنا المواطنة والتغيير الصادر فى 2006 ـــ كما يلى: العرق، اللون، الجنس، الجيل، الدين، المذهب، الجهة، والمكانة، والثروة،...)، وبالطبع سواء جاءت هذه المكتسبات بطريقة سلمية نتيجة إدراك النخبة الحاكمة بحقوق مواطنيها، أو نتيجة نضالات متنوعة على أرض الواقع، فإنما هذا يعنى أن موازين القوة سوف يطالها التغيير. وأن مزيدا من الشراكة بين المواطنين على اختلافهم والسلطة بأشكالها المختلفة: الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، سوف تتحقق.
(2)
كما يمكن أن يعتبره البعض مكررا. فحديث المواطنة ــ لدى هؤلاء ـــ من أكثر الأحاديث التى شُغلنا بها على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وطالما قد تم إقرار المواطنة «نصيا» فى الدستور وما دونه. فإنما يعنى هذا ضرورة التوقف عن هذا الحديث الذى بات لا محل له بعد الإقرار النصى. ومن ثم كفانا كلاما عن المواطنة لنلتفت لما هو أهم...مما سبق لزم إعادة طرح السؤال الذى ـــ ربما ـــ يضايق البعض من جهة. ويضجر منه البعض الآخر من جهة أخرى: ماذا تعنى المواطنة؟...السؤال القديم المتجدد...لأنه سؤال يرتبط بحياة الفرد وكينونته... والأمل فى العيش بكرامة، على قاعدتى العدالة والمساواة.
(3)
المواطنة هى حركة المواطن / المواطنين من أجل: أولا: اكتساب الحقوق؛ حينا، وانتزاعها أحيانا أخرى. وثانيا: المشاركة؛ فى شتى المجالات. وثالثا: المساواة التامة؛...ومتى قلنا حركة؛ فإنما يعنى هذا أنه لا يوجد سقف لهذه الحركة. فقد يعيش الفرد عمره من أجل أن يبلغ المواطنة: يكتسب الحقوق، ويشارك، وينعم بالمساواة. وكل عناصر منظومة المواطنة لم تتحقق عبر العصور إلا بنضال المواطنين وحركتهم. وما الدولة الوطنية الحديثة إلا تجسيد لهذه النضالات. والتى تتميز بمؤسسات حديثة (جيش وطنى، وجهاز إدارى حديث، وقضاء رفيع المستوى، ومؤسسات تعليم وثقافة مبدعة) واقتصاد إنتاجى... وبقدر ما تزدهر المواطنة تنهض الدولة بمؤسساتها ومجتمعها. والعكس صحيح.
(4)
وطبيعى ألا تكون حركة المواطن/ المواطنين يسيرة وهينة. فأثناء هذه الحركة قد يواجه المواطن/المواطنين، أولا: قوى ليس من مصلحتها أن تؤمن المواطنة. وثانيا: قيم ثقافية بالية تتناقض مع المواطنة. وثالثا: جماعات ومؤسسات أولية رافضة لدولة المواطنة: الحديثة، الدستورية، العصرية،...أو يواجه بكل ذلك معا...إذن، عملية تبلور المواطنة عملية مركبة يتداخل فيها الاقتصادى، والثقافى، والسياسى، والاجتماعى...لذا ففهم المواطنة باعتبارها قرينة «بالانتماء والولاء» هو فهم قديم. كذلك حصر المواطنة كمصطلح فى الإطار الدستورى/القانونى يتم التعبير عنه بباب «الحقوق والواجبات» فى الدستور. هو منطق بائد وعتيق. فلقد ارتبطت المواطنة ومدى تحققها بحركة المواطنين ونضالاتهم.
(5)
مما سبق، يلزمنا تأمل ما يجرى على أرض المحروسة من حوارات، وخيارات، ومواقف، وأحداث، وتشريعات،...، إلخ. من ضرب مواطن حتى القتل، وقطع طريق للالتفات لمطالب مواطنين من مواطنى مصر، وسن تشريع ينص على الطائفية، وتوجه اقتصادى ــ بات محل نقد فى العالم كله ــ يؤجج الصراع الطبقى والاجتماعى، وممارسة سياسية قاصرة أقرب للنموذج الأثينى القديم، وعدم استيعاب للحركية المجتمعية، وارتداد للعشائرية، وتأويلات دينية تتعارض مع الدولة الحديثة،...، إلخ. أظنها تتناقض كليا مع المواطنة بكل أبعادها: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والمدنية. ليس فقط على مستوى النص الدستورى. وإنما على مستوى النضال الحى لمواطنينا الذى أوصلنا إلى النص الدستورى. ويبدو لى أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر فى الكثير من الأمور...من هنا كان علينا أن نذكر بمعنى المواطنة من أجل الوطن. نواصل...