اغتنم المصريون الفرصة التاريخية التى تفتحت أمامهم بعد نضال طويل فى مواجهة الحكام الوافدين منذ البطالمة ومرورا بالرومان إلى العثمانيين. نعم لم يكن محمد على مصريا ولكنه شرع فى بناء دولة مصرية حديثة مستقلا عن «الباب العالى العثمانى». وأدرك أنه لا يمكن ذلك بغير حضور المصريين فى هذا المشروع. فأقام دولته على أعمدة ثلاثة رئيسية هى: «الجيش الوطنى، والجهاز الإدارى، ومؤسسات الحداثة».
ولأول مرة تملك المصريون الأرض الزراعية من خلال مجموعة من الأعيان الذين تم اختيارهم. وكان هؤلاء إلى جوار الأفندية الذين تعلموا فى الخارج وعادوا لقيادة الجهاز الإدارى نواة الطبقة التى شاركت الحاكم فى إدارة شؤون البلاد: «كتفا بكتف» و«بندية تامة». وهو ما تجلى فى العضوية الفاعلة للأعضاء الـ75 لمجلس شورى النواب.
(2)
ولد مجلس شورى النواب عملاقا (بمعايير زمنه وفى إطار التطور الاجتماعى آنذاك ويمكن قراءة أعمال جلساته والمناقشات رفيعة المستوى فى أكثر من مصدر). لم يكن مجلسا تابعا للحاكم يقدم المشورة فى أحسن الأحوال أو ديكوريا، أو منفصلا عن أحوال البلاد، أو مدافعا عن مصلحة أعضائه الضيقة، أو امتدادا للسراى أو الجهاز الإدارى يمرر رغباتهما. فكما عرضنا مارس الأعضاء دورهم التشريعى، والرقابى، والمحاسبى، بجدية وإخلاص، واحترافية، ووطنية فائقة. فكانت المصلحة العامة المحرك الحاكم لكل ما نوقش من ملفات (عرضنا لها فى مقالاتنا السابقة مثل: تنمية الزراعة والتجارة، إلغاء السخرة، وضرورة تقديم الحكومة لموازنة سنوية، وتعميم التعليم، وتنظيم المحاكم، وانتخاب العمد، تقييد المصروفات الخديوية،...،إلخ)، فتميزوا بحس اجتماعى (تنموى بلغة العصر) مميز، وحس وطنى رفيع،..كيف؟.
(3)
يذكر لنا الرافعى، أنه فى سنة 1879: «بلغ التدخل الأجنبى فى شؤون مصر المالية أقصاه (بسب إفراط إسماعيل فى الاستدانة)، فألف نوبار باشا وزارة أدخل فيها وزيرين أوروبيين» (2 يناير). وتم التخطيط للتخلص من مجلس شورى النواب لتكون للوزارة التى تضم أجنبيين «الكلمة العليا فى إدارة شؤون البلاد دون حسيب» أو رقيب أو مراجعة. نيابته انتهت. وثار الضباط على الوزارة (18 فبراير). فسقطت الوزارة ــ فى نفس اليوم ـــ وتشكلت وزارة جديدة (10 مارس)، تضم الوزيرين الأوروبيين. وعهدت إلى رياض باشا بالتوجه إلى المجلس لإبلاغ أعضاء مجلس شورى النواب مرسوم فض الدورة. وحين تلا الوزير المرسوم فى 27 مارس 1879. رفضه أعضاء الشورى بالإجماع...«نعم بالإجماع». والأهم ما قاله الأعضاء ونذكر منهم، أولا: محمد أفندى راضى الذى قال: إن المجلس طلب النظر فى المسائل المادية ولم يرد إليه رد منذ ثلاثة شهور. ولذلك لابد من استمرار المجلس لأجل رؤية تلك المسائل. ونال تأييدا جماعيا. وثانيا: باخوم أفندى لطف الله الذى رفض فض المجلس لأن عضويتهم هى للنظر فى راحة المواطنين، والنظر فى المسائل التى قررها المجلس من قبل وميزانية المالية، وأى أمر غير ذلك قد يسبب زعزعة للأهالى... وثارت فى نفوس «الطليعة البرلمانية» ضرورة الدفاع عن كرامة مصر الوطنية وضرورة التخلص من التدخل الأجنبى وإسقاط الوزارة.
(4)
فقامت الطليعة البرلمانية بما يلى: أولا: قدموا عريضة احتجاجية لإسماعيل رافضة مسلك الوزارة. ثانيا: دعوا إلى اجتماع حاشد فى دار السيد على البكرى نقيب الأشراف وتوالت الاجتماعات. وكان الاجتماع أقرب إلى «جمعية وطنية»، ذلك لأنها ضمت بحسب الرافعى: «صفوة كبراء البلاد وأصحاب الرأى فيها». واتفقوا على صياغة بيان يتضمن: «تسوية مالية يضمنون فيها وفاء ديون البلاد. ورفض الرقابة الدولية. ومن ثم تشكيل وزارة وطنية مستقلة. وإقرار نظام دستورى لمصر يجعل الوزارة مسؤولة أمام مجلس شورى النواب. وتم صياغة هذه البنود وغيرها فيما عرف بـ«اللائحة الوطنية»؛ ومن أهم ما جاء فيها نقتطع ما يلى: «فلأجل ذلك نحن عن أنفسنا ونيابة عن أبناء وطننا صممنا جزماً على بذل كل مجهودنا فى تأدية ديون الحكومة وبذل كافة ما فى وسعنا وطاقتنا فى إجراء ذلك. ويعد هذا إعلانا بتصديق ذلك وإننا متحدون اتحادا تاما قولا...».
(5)
إنها صفحة مجيدة ومنيرة من تاريخ مصر عنوانها بمصطلحات العصر: «الاستقلال الوطنى والاقتصادى، الكرامة الوطنية، التضامن الوطنى لدفع ديون مصر، ممارسة المواطنة: الشراكة فى الحكم، وإقامة العدالة»...نواصل.