مجلس شورى النواب 1866.. (2) المواطنون يخترقون حاجز السلطة

ما الهدف من الاحتفال بالأحداث السياسية والوطنية؟، سؤال لابد من أن نطرحه على أنفسنا.. لابد من فهم أن الأوطان دون ذاكرة وطنية تعكس نضالات شعوبها من أجل تقدم هذه الأوطان، لا مستقبل لها. فالحدث السياسى/ الوطنى، أى حدث، هو ثمرة تفاعلات غاية فى التركيب على أرض الواقع. وسواء كانت نتائج الحدث تعبر عن أحلام وتطلعات المواطنين ومن ثم يعد الحدث «إنجازا». أو لا تعبر عما سعى إليه فيعد «إخفاقا». ففى الحالتين هناك حاجة دائمة إلى التذكر والاستعادة وفهم الملابسات التى أحاطت بالحدث، وأهميته، وما يمثله بالنسبة للمسار التاريخى للمواطنين.. فتجديد الذاكرة الوطنية/ المدنية بما أنجزه المحكومون فى علاقتهم بالحكم والحكام، أو ما يعرف «بعملية المواطنة: صعودا أو هبوطا»؛ هو السبيل إلى مستقبل أفضل.

(2)

فى هذا السياق، لابد من مقاربة ذكرى تأسيس مجلس شورى النواب منذ 150 عاما. فبالإضافة إلى حديث العموميات من عينة: إن مصر عرفت المجالس/ الحياة البرلمانية منذ عام 1866. فإن الأهم هو إدراك الأسباب والدوافع التى أدت إلى تأسيسه. وقد أشرنا فى مقالنا الأول إلى أن المسألة «أعقد من رغبة حاكم. وإنما هى تعبير عن حركة وإرادة المواطنين». هذه الحركة/ الإرادة هى ثمرة نضال ممتد عبر العصور. ولفهم أكثر لدلالة هذا النضال نستعيد ما طرحه أستاذنا وليم سليمان قلادة فى وصف دلالة تأسيس مجلس شورى النواب.. فماذا قال قلادة؟

(3)

فى عبارة عبقرية قال قلادة: «إن إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866 يمثل خطوة جديدة فى مسار اقتحام المحكومين لمجال السلطة».. فهى لم تأت من فراغ. وإنما هى نتاج لثورات المصريين عبر العصور. فالحاكم منذ عصر البطالمة كان وافدا- أى قادما من الخارج/ أجنبيا- وكان دائما يصنع حاجزا يمنع المصريين من أن يشاركوه الحكم والشراكة فى خيرات البلاد. كما باعدت الإثنية المغايرة التى ينتمى إليها هؤلاء الحكام بينهم وبين المصريين.. وعليه جاء تأسيس مجلس شورى النواب ليعلن عن بدء شراكة المصريين فعليا فى إدارة شؤون البلاد.. وتتويجا لنضالات المصريين من أجل استرداد «شيئا فشيئا حقوقهم فى أرضهم». ومن هذه الحقوق، أولا: تقييد الحاكم، وثانيا: تحقيق مصالح الوطن العليا. وثالثا: استكمال بناء الدولة الحديثة التى أطلقها محمد على وتحتاج إلى رؤى المصريين على اختلافهم: الجهوى (قبلى وبحرى)، والسياسى، والدينى (مسلمون وأقباط)، والطبقى (ملاك أرض وأفندية)، ومن ثم الدفع بعملية التطور المجتمعى. (وهو ما تحقق فى أعضاء مجلس شورى النواب بدرجة أو أخرى). ورابعا: مواجهة التدخل الخارجى العثمانى والغربى. وخامسا: التأكيد على المسار المستقل الذى اتبعته مصر بعيدا عن الدولة العثمانية. (المفارقة أن هناك فى الوقت الحاضر من يرجعنا قسرا إلى مرجعية الباب العالى، ولعل استحضار مفهوم الطائفة فى قانون معاصر أمر يحتاج إلى مراجعة، وسوف نعود لذلك قريبا لدحض هذا المنطق وخاصة مرجعية الخط الهمايونى وكيف ألغى نظام الطوائف تاريخيا).

(4)

وتشير الكتابات التاريخية التى تناولت بالبحث والتحليل محاضر جلسات مجلس شورى النواب، إلى كيف مارس أعضاء المجلس مهام عضويتهم بأداء سياسى رفيع المستوى وبلغة رصينة. وكيف كانوا على درجة عالية من الوعى المجتمعى والوطنى والمعرفى؛ تجلى فى الموضوعات التى ناقشوها، والقضايا التى دافعوا عنها، والمقترحات التى قدموها. ومن ثم التشريعات التى ناضلوا من أجل إصدارها. وكلها تعكس عمق إدراك الأعضاء لدورهم من حيث: أولا: المحاسبة، وثانيا: تقديم المصلحة العامة على الشخصية أو الضيقة، وثالثا: الفهم الجيد لمعنى التمثيل السياسى للشعب.. ويمكن الإشارة إلى أمثلة مما نوقش فى مجلس شورى النواب كما يلى: أولا: بحث مسألة السخرة ومواجهة حدتها. وثانيا: إلغاء نظام العهد الذى وضعه محمد على، وبمقتضاه عهد إلى الأعيان جباية ضرائب بلاد بأكملها ثم يستوفونها من الأهالى. وأدى نظام العهد إلى إرهاق الفلاحين وخاصة أن المتعهدين كانوا يوظفونه لحسابهم مما كان يفاقم معاناة الفلاحين. وثالثا: وضع نظام متقدم لقيد تحصيلات الأموال الأميرية لوضع حد لعبث الصرافين وما يترتب عليه من «لخبطة ومغشوشية فى الإيراد».. إلخ، وهكذا أصبح للمصريين ـ باختراقهم حاجز السلطة ــ كلمة ونصيب فى الحكم. والشراكة فى إدارة شؤون البلاد سياسيا واقتصاديا.. ولكن لم يقف الأمر عند هذا الحد.. نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern