اتصلت بى إحدى طالبات مدارس اللغات العريقة. وعرفت عن نفسها ومدرستها. وتُعرف المدرسة تاريخيا بأنها مدرسة تضم أبناء وبنات العائلات «المستورة»؛ أو بلغة أخرى الطبقة الوسطى التى لديها فائض مالى، ليس ضخما، ناتج عن أعمال مهنية فى الأغلب. حيث أهالى الطلبة «مهنيون»- فى الأغلب- أو أصحاب تجارة متوسطة، أو من كبار الموظفين،...، إلخ. بالإضافة إلى أن هذه المدرسة تحديدا تعد من المدارس التى قدمت نموذجا راقيا لكيف تكون العملية التعليمية على مدى ما يقرب من 150 عاما.
وتشهد الرغبة المتزايدة، والطلب المتنامى لآلاف الأسر كل عام لإلحاق أبنائها بهذه المدرسة تحديدا على السيرة النقية، والمسيرة الناجحة للمدرسة..علقت بأنى أؤكد على ما سردت. وأكملت: أنا أعرف تاريخ المدرسة وقد تخرجت من مدرسة مشابهة ولكن فى منتصف السبعينيات، والأكثر أعرف بعضا من القائمين عليها. فما المشكلة؟.. قالت الفتاة: هل يمكن لى أن أرسل لكم بعض الصور عن اليوم الأول للدراسة ثم نواصل الحديث؟.
(2)
أرسلت الفتاة الصور، وما هى إلا مجموعة من الصور لليوم الأول فى المدرسة نشرت فى أحد المواقع الصحفية الشهيرة بترتيب مع المدرسة. وكان تعليقى- للفتاة لاحقا- وماذا فى ذلك؟.. قالت: اصبر ونرجوك أن تتمعن فى هذه الصور وهل لديك أى ملاحظات عليها؟.. تمعنت فى الصور سريعا. وقلت: لا يوجد ما يلفت نظرى. فقالت: «خذ وقتك ولا تتعجل». تجولت ببصرى فى الصور مرة أخرى فلم أجد فيها إلا تسجيلا وتوثيقا لوقائع اليوم الأول من العام الدراسى فى فناء المدرسة بما يتضمن من استعراض لطوابير المدرسة، ولقاء الطالبات والمدرسات،...، إلخ. وكان تعليقى للمرة الثانية: «لا يوجد فى هذه الصور ما يعد خروجا عن المألوف». فعلقت الفتاة: «هو كذلك». فضحكت وقلت هل هو مقلب؟.. أجابت فى ألم: ليته كذلك؟.. وقامت سريعا بإرسال تعليقات قراء الموقع الصحفى على الصور.. حيث عكست- التعليقات ـ ما يفوق التوقع، ويثير الغضب، والضيق، والألم، وأيضا الغثيان.
(3)
إنها حالة من التحرش الطبقى؛ هذا هو انطباعى الأول عن مجمل ما قرأت من تعليقات. حيث تغلبت حالة شعورية «جمعية» ناقمة على صور هؤلاء الذين يمرحون، ويرتدون ملابس ذات مواصفات معينة (Uniform)، وينعمون بفرصة تعليم حقيقية، وعناصر عملية تعليمية متكاملة. وعلاقات إنسانية حارة بين الطالبات وبعضهن البعض، وبين الطالبات والقائمين على العملية التعليمية.. لقد أثارت الصور- فى ظنى- لدى المعلقين مرارة الواقع الذى يعيشونه. كما أزاحت الستار عن أن هناك أكثر من مصر. مصر «العشة» ومصر «القصر». بحسب إمام ونجم. لقد كان لهذه الصور فعلها فى إطلاق الإحساس بالفجوة الاجتماعية، ولنقل الطبقية، بوضوح. لذا جاءت التعليقات جارحة، ومتجاوزة لكل الأعراف، وأظن مفاجئة لأصحاب الصور. وربما تكون لمن هم صامتون- عن وعى أو جهل- عن الاتساع الدائم بين الطبقات والشرائح الاجتماعية. كذلك عن هؤلاء الذين تحت شعارات دينية محافظة وموالية لرافضى المساواة الاجتماعية بأن الفجوة الطبقية قدر، لأن الله قد خلق الفقير ليكون فقيرا والغنى ليكون غنيا. وليس لأن ظاهرة الفقر هى ظاهرة تكونت فى التاريخ/ الزمان.. كان من نتاجها أزمنة صعبة؛ بحسب «تشارلز ديكنز»، أبدع من رصد الأزمة الطبقية فى أوروبا فى القرن التاسع عشر وعبر عنها.
(4)
بالطبع، لا يعنى ما سبق تبرير التعليقات الموجهة لطبقة عانى أصحابها لتأمين المال اللازم لبناتهم. وإنما لضرب جرس إنذار لفهم اللحظة التاريخية التى نمر بها. هناك من سيذهب بتفكيره- بشكل ميكانيكى- إلى الغلق والمنع. وهناك من سيحاول استثمار ذلك ليحول النظر عن جوهر الأزمة إلى أنها بسبب ضعف التدين. وهو ما حاول البعض فى تعليقاته أن يوظفه ولكن الفجاجة فى التعبير الاجتماعى فاضحة عن مكنون ما بداخل هؤلاء المعلقين.
(5)
وبعد، نحن فى حاجة إلى الاعتذار لفتيات ليس لهن ذنب فى وضعهن الاجتماعى ورغبة التعلم الجيد. كذلك لابد من الإقرار بأن هناك خطأ ما تتحمله السياسات التى طبقت عبر عقود، وأدت إلى هذا الخلل الاجتماعى، وخاصة أن هناك صورا تزامن نشرها عن سوء أحوال المدارس الحكومية فى أول يوم الدراسة.. ونواصل...