عندما تقرأ رواية السمسار، تأليف صديق العمر عمرو كمال حمودة، الصادرة عن دار الثقافة الجديدة ـــ 2016، تتذكر فورا مجموعة الأعمال الأدبية التى اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية مطلع القرن العشرين والتى تزايدت كثيرا فى أعقاب أزمة الكساد الكبير. حيث تناولت هذه الأعمال حقيقة «الحلم الأمريكى»، ومدى صدقيته. كما شرحت الصراعات الاجتماعية بين العمال والطبقة الوسطى والطبقة الرأسمالية من جهة. كذلك الصراعات السياسية بين عناصر النخبة الحاكمة. والمدى الذى بلغه فساد الحكم وجشع أصحاب «الكرتلات»..
وتأتى أعمال «فرانك نوريس» ونذكر منها: «الأخطبوط»، و«الجشع»، فى المقدمة من حيث تناولها لموضوعات مثل: السلطة السياسية والمالية وامتدادهما للقبض على كل شىء. وتفنيد الحلم الأمريكى الذى نكتشف من خلال الواقع أنه ليس إلا غطاء للصراعات والقتل والخيانة والصعود على جثث الآخرين،...، إلخ... تأسيسا على ما سبق، أؤكد أن «السمسار» لا تقل عن هذه الأعمال. وأن المؤلف قد استطاع أن يجسد ما جرى فى مصر عبر العقود الخمسة الماضية.
(2)
إذن نحن أمام رواية متعددة مستويات القراءة. فيمكن تناولها: أولا باعتبارها سيرة شخصية قررت أن تمتلك القوة والسلطة والثروة على حساب القيم والأخلاق. فلقد «كره منتصر (البطل) الحرمان وكره معه الموت». فأخذ يبحث عن «مفتاح السيطرة» فوجدها «فى القوة». ولكن كيف الوصول إليها. وجد منتصر«الإجابة لدى فوشيه» (رجل دين فرنسى دافع عن فقراء الثورة أولا وما إن صعد فى السلم السياسى انحاز للأغنياء) للمؤرخ النمساوى ستيفان زفايج حيث أجابه: «من حزمة متكاملة.. المعلومات + معرفة نقاط الضعف + اختراق النفوس والخزائن + امتلاك الأسرار».. وترك فوشيه الثورة تحرق وتحترق، وانشغل بصناعة الملفات. فالملف قد يصبح دليل إدانة صاحبه، أو يكون له ثمن قد يشتريه به صاحبه لينقذ رقبته. ولم تستطع أى سلطة متعاقبة على اختلافها أن تستغنى عن «فوشيه». الأهم كان فوشيه الثورى هو من «هندس» لإعادة الملكية. قرأ «منتصر» سيرة «فوشيه» مرتين، وشعر بأن نوعا من الهداية قد تسرب إلى صدره. طريق فوشيه نحو النفوذ والمال، وقدرته الفائقة على البقاء فى كرسى السلطة، ألهم ذهن «منتصر» وأوضح له السبيل.
(3)
وهنا ننتقل إلى المستوى الثانى من القراءة ويتعلق: بالعوالم التى تحرك فيها «منتصر» ومنها: أجهزة الدولة المختلفة، وأماكن عمله الخاصة. تلك التى عمل بها. أو التى امتلكها. أو الدول التى تعامل معها.. حيث انطلق «منتصر» على طريق «فوشيه» حيث: «كفاءة الجشع فى صناعة الأقنعة». فاجتهد أن: «يبقى فى السلطة من خلال أجهزة الدولة التى عمل فيها وأن يرتقى إلى أعلى مقام فيها من حيث التأثير والاستفادة بغض النظر عن أى صفة رسمية». «وبغض النظر ـ ويا للمفارقة ــ عن أن إحساسه الوطنى غير ملموس». وأن يحول كل شىء إلى: «قيمة مالية يمكنه أن يتكسب من ورائها». فما العالم إلا «سوق كبير». وما العلاقات الإنسانية أو أى شىء إلا «سلعة لها ثمنها ولها عمولتها»...وما «الحياة إلا مجموعة صفقات فى أى شىء وكل شىء».. وزمننا هو زمن «الصفقة الكبرى».. وكان له ما أراد بأن دخل «العالم العلوى للأثرياء». وأصبح «السمسار الشاطر اللى يخلى البائع والمشترى يدوروا عليه» فأصبح مصدر ثقة الكبار. وفى هذا كان يضحى برفاقه إذا انتهى دورهم.. كما دخل «العالم السرى لتجارة السلاح والطاقة»...
(4)
كان «منتصر» فى مسيرته من أجل «تراكم الثروة ونفوذ السلطة»، وثيق الصلة بالأحداث والقرارات الكبرى بالبلد. ويمكن أن نعتبر هذه العلاقة المستوى الثالث فى قراءة الرواية. فلقد كان يوميا يحقق نجاحات ثروية وسلطوية زادت من فجوة إحساسه بالناس. فكان يقول تعليقا على تذمرهم الاجتماعى: «الناس دى لازم تتأدب.. إحنا أصحاب البلد دلوقتى...». ولم تنجُ ابنته من هذا التوجه، حيث نالت منه «علقة ساخنة بالحزام عندما أبدت رغبة فى الزواج لا يمثل صفقة حقيقية»... وهكذا تعامل مع ثروات البلد... ولم يدرك أن مصر تعيش على حقل من الألغام كما قالت له صديقته اليهودية.. وما إن تحركت رياح الاحتجاج: «زاره الماضى وأيام الحرمان والهوان...فهرب»..
(5)
جسد عمرو كمال حمودة بسلاسة وفهم كيف تحولت مصر إلى صفقة كبيرة لا وطن... تديرها المصالح الخاصة.. وما جرى فى مصر زمن الصفقة... ونواصل.