(1) من الإشكاليات التى يطرحها بيكيتى فى مجلده المرجعى «رأس المال فى القرن الـ21»، (ترجمة وائل جمال وسلمى حسين- 2016)- تراكم الثروة، وتمركزها لدى القلة. وهو الأمر الذى يزيد من اللامساواة ويجعلها تتسع، وتتسع، وتتسع، بين قلة ثرية وأغلبية تزداد فقرا، ما يُحدث توترا شديدا. وفى هذا يقول بيكيتى: اللامساواة تنشأ، وتزداد بفعل التوزيع غير العادل المتعلق برأس المال. ويميز هنا بين توزيع ملكية رأس المال (والدخل من رأس المال) الذى يكون أكثر تركزا من توزيع الدخل من العمل.. وجميع البلدان تتشابه فى هذه الظاهرة، أخذا فى الاعتبار تفاوت الأرقام بحسب كل دولة على حدة.. كيف؟
(2) ويدلل بيكيتى على ما سبق بأن: الـ10% العليا من توزيع دخل العمل تتلقى من 25- 30% من إجمالى دخل العمل. فى حين أن الـ10% العليا فيما يخص توزيع دخل رأس المال تمتلك دائما أكثر من نصف الثروة كلها، وتزيد النسبة فى بعض الدول إلى 90%. وما سوف يدهش له القارئ الكريم أن الـ50% الأدنى فى توزيع الأجور يتلقون نصيبا كبيرا من الدخل الكلى للعمل (فى العموم بين الربع والثلث، أى فى حدود ما تحصل عليه الـ10% الأعلى)، فى حين أن الـ50% الأدنى من حيث توزيع الثروة لا يمتلكون شيئا على الإطلاق، أو تقريبا لا شىء (فى أحسن الأحوال أقل من 10%، وفى أغلب الأحوال أقل من 5% من إجمالى الثروة، أى عُشر ما تملكه الـ10% الأغنى من السكان).
هذا هو الواقع الذى آلت إليه البشرية فى ضوء دراسة بيكيتى التاريخية الممتدة.. فى هذا السياق، يطرح بيكيتى سؤاله عن مدى حتمية الحال الذى وصلنا إليه.
(3) فى هذا المقام، يحاول بيكيتى أن يترجم هذه الأرقام المتدرجة والموزعة على الجسم الاجتماعى من أعلى، حيث تتركز الثروة فى غالبيتها، وفى منتصفه: حيث تتراوح الثروة بين المقبول وغير المقبول، وأخيرا فى أدناه، حيث لا تحصل الأغلبية إلا على الفتات.. وهى الترجمة التى أعادت الاعتبار إلى التحليل الطبقى، والتحليل الاجتماعى للمواطنة والتحليل الخاص بالدولة القادرة على النهوض بمواطنيها، من حيث العدالة التوزيعية والحرية السياسية والمدنية وتحقيق الكرامة الإنسانية مجددا.
(4) و(بيكيتى) وغيره مثل ديفيد هارفى وإريك أولين رايت وجوران ثيربورن وجى ستاندينيج وويل أتكينسون، ودانييل أوسش... إلخ- استطاعوا فى ظل التحليلات الاقتصادية الموسعة ذات الأرقام الدقيقة (يشير بيكيتى إلى تعمد تشويه الأرقام فى هذه المرحلة ويستند بالإضافة إلى المراجع العلمية، للروايات الأدبية حيث الدخول والأموال كانت مستخدمة بكثرة ودقة للتدليل على أحوال شخصيات الرواية فى وقت مبكر من القرن العشرين، كما فى روايات نجيب محفوظ، بينما فى روايات أورهان باموك التركية فى السبعينيات من القرن الماضى نجد وقد انحسر أى معنى للنقود بفعل التضخم)- أن يجددوا من علوم كانت الليبرالية الجديدة قد قررت أن تقضى عليها.
فالمتابع سياسات الليبرالية الجديدة منذ نهاية السبعينيات سوف يجد كيف تم التقليل من أهمية التحليل الاجتماعى والتاريخى لفهم الظواهر. كما تم التركيز على الدراسات التى تُخدّم على اقتصاد السوق مثل: «البيزنس أدمنستيرشن انجليش» و«ما شابه».
(5) فلقد كشفت التحليلات الراهنة المتجددة عن «قلق» مكونات الجسم الاجتماعى الطبقية، وعودة الصراع بين «طبقاته»، بشكل عام. وبين ما يشير إليه «بيكيتى»: بصراع الواحد فى المائة.. هذا الصراع الذى تبلور بين الطبقة المسيطرة التى تتكون من الـ1% من تكوينة الجسم الاجتماعى- وتشغل النقطة الأعلى فيه بحكم استحواذها على 90% من إجمالى العائد العام- وبين الـ9 شرائح مئوية الباقية. وتبلور مع تنامى اللامساواة طبقة خارج الجسم الاجتماعى يطلق عليها «جى ستاندينج» طبقة البريكاريات- كما هو الحال فى بريطانيا- وهى التى كنا أول من كتبنا عنها كطبقة «خارج الحسابات السياسة والاجتماعية» أو طبقة «المحرومين» أو «المسحوقين»... إلخ.
(6) ونتج عما سبق تاريخ سياسى مضطرب فى كل دول العالم دون استثناء. وبقدر ما تزيد التفاوتات الاجتماعية/ الاقتصادية وتمركز الثروة، يزيد الاضطراب... ونواصل.