قضية «توزيع الثروة، من الأهمية بحيث لا ينبغى تركها للاقتصاديين وعلماء الاجتماع والمؤرخين والفلاسفة». فهى قضية «تهم الجميع»... «إن الواقع المادى الملموس (للامساواة) مرئى بالعين المجردة، ويلهم بالطبع أحكاما سياسية قاطعة لكنها متناقضة. فالفلاح والنبيل، والعامل وصاحب المصنع، والساقى والمصرفى: الكل لديه موقع المراقبة الخاص به، ويرى منه مظاهر مهمة للكيفية التى يعيش بها الناس، ولعلاقات القوة والسيطرة بين المجموعات الاجتماعية. هذه الملاحظات تشكل أحكام كل شخص حول ما هو عادل وما هو غير عادل.
من ثم سيكون هناك دائما بعد نفسى وذاتى بالأساس للامساواة يتسبب فى صراع سياسى لا يمكن لأى تحليل علمى مزعوم تسكينه. لا يمكن أبدا أن تحل جمهورية الخبراء محل الديمقراطية».. وعليه فإن «سؤال التوزيع (توزيع الثروة)، يستحق الدراسة بأسلوب منظم ومنهجى».. وفى غياب مصادر ومناهج ومفاهيم محددة بدقة، «من الممكن أن نرى الشىء ونقيضه. البعض يعتقد أن اللامساواة تزداد دائما بشكل مضطرد، وأن العالم بالتعريف يصبح دائما أكثر ظلما. ويعتقد البعض الآخر أن اللامساواة تقل بشكل طبيعى، أو أن الانسجام يتحقق تلقائيا، وأنه بكل الأحوال لا يجب فعل أى شىء من شأنه أن يخاطر بخلخلة التوازن السعيد.. وفى حوار الطرشان هذا، يبرر كل معسكر كسله الفكرى بالإشارة إلى كسل الآخرين».
(2)
بالكلمات السابقة، يقدم «توماس بيكيتى» كتابه المرجعى: «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين، دار التنوير، 2016. إذن قضية «توزيع الثروة» هى القضية المبحث الرئيسى لهذا المجلد (800 صفحة). وواقع الحال هو المبحث الذى تسعى البشرية للإجابة عنه على مدى عقود ولم تتلق إجابة منهجية منظمة عليه. لذا يمكن أن نقول عن «قضية توزيع الثروة» إنها «سؤال القرن»، و«سؤال الإنسانية» القلق. والمطلوب الإجابة عنه بعيدا عن التحيزات السياسية، والإجابات الانطباعية، والتخصص المهنى التكنوقراطى. ذلك لأنها قضية حياتية تمس العدالة المجتمعية بين المواطنين فى المجتمع الإنسانى المعاصر. والأكيد أن هذا الوازن آخذ فى الاختلال.. وعليه لابد من «إعادة التساؤل» حول مسألة «توزيع الثروة». كذلك لماذا الاختلال والتفاوت بين المواطنين أو لماذا تغيب أو تتراجع المساواة بينهم.
(3)
فى هذا السياق، يقسم «بيكيتى» أطروحته المتميزة، إلى 4 أجزاء تتكون من 16 فصلا. حيث يتتبع التراكم التاريخى «لراس المال» منذ قبل منتصف القرن التاسع عشر. وفى هذا التتبع يرسم المؤلف ملامح رأس المال وتحولاته أو Metamorphosis of Capital، كيف أن «الثروة» بأشكالها المتنوعة، تركزت فى أيدى قلة.. ويستعرض المسار التاريخى لرأس المال من أوروبا القديمة إلى العالم الجديد.. ويشير إلى دور الحربين العالميتين فى أنها فتحت أفقا للطبقات المتوسطة وللعمال فى الاستفادة من هذا التراكم على مدى عقود ثلاثة ممتدة هى الأعظم بالنسبة للطبقة الوسطى وذلك من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات.. وهى اللحظة التى بدأ فيها التحول مرة أخرى لصالح القلة الثروية وفق إجماع واشنطن الذى انطلقت فيه سياسات الليبرالية الجديدة، حيث عادت اللامساواة مرة أخرى.. وينتقد بحدة التحايل على استمرارها رغم الأزمات المالية المتكررة.
(4)
ويبدأ المؤلف رحلته للبحث عن إجابة حول «توزيع الثروة»، من خلال العلاقة بين رأس المال والدخل.. ويبدأ بسرد كارثة تدخل شرطة جنوب أفريقيا فى نزاع بين عمال منجم ماريكانا للبلاتينيوم بالقرب من جوهانسبرج وملاك المنجم: أصحاب الأسهم فى شركة لونمين إنك، ومركزها لندن (2012). أطلقت الشرطة النيران بالذخيرة الحية على المضربين. وقتل 34 عاملا فى المنجم. وكما هو معتاد فى مثل هذه الإضرابات، كان الصراع متعلقا فى الأساس بالأجور: طالب عمال المنجم بمضاعفة أجورهم من 500 إلى 1000 يورو فى الشهر. وبعد مأساة فقدان الأرواح، عرضت الشركة زيادة شهرية قدرها 75 يورو»!.. ويضيف عدة قصص تكررت فيها هذه الواقعة فى أمريكا وأكثر من مكان. حيث تشير هذه الوقائع إلى سؤال مشروع يتعلق: بأى حصة من الناتج يجب أن تذهب للأجور وأى حصة يجب أن تذهب للأرباح. أو كيف يجب تقسيم الدخل من الإنتاج بين العمل ورأس المال؟.. وهنا تحديد يبدأ التفاوت الفعلى فى التوزيع. حيث باتت الأنصبة التى توزع غير عادلة.. كيف.. ونواصل...