السنهورى والقضاء المصرى وبناء دور العبادة

سعدت جدا بردود الأفعال على مقال الأسبوع الماضى: «تقنين مفهوم الطائفية فى دولة المواطنة لا يستقيم». وذلك تعليقا على القانون- الركيك الصياغة والضعيف الإحكام- المتعلق «ببناء وترميم الكنائس». ولعل «أجل وأثمن» ما أسعدنى هو تبلور رأى عام يقظ يدرك الدلالة الرمزية للمصطلحات والمفردات وتداعياتها على الواقع: سياسيا وقانونيا.. وأظنه يمثل إرهاصة حقيقية وجادة لما يمكن أن نطلق عليه: «تيار المواطنة».. وهو التيار الذى أصبح لديه من الخبرة والحنكة ما يميز به بين المقاربتين «الطائفية/الملية»، أو «الأقلوية»، وبين تلك التى تنطلق من قاعدة المواطنة..

والفرق كبير، كبير، كبير جدا بين كل مقاربة وما يترتب عليها فى الواقع.. فهذا التيار كان من الوعى لكى يدرك التواطؤ بين الساعين للعب دور باعتبارهم وكلاء عن الأقباط، حيث يُخدم عليهم- فى هذا المقام ــ ما يمكن تسميتهم «بتكنوقراط» «الملة/ الطائفة»، وبين البيروقراطية الحكومية بعيدا عن الحوار العام.

(2)

والنتيجة هى خروج منتج فاقد الصلاحية منبت الصلة عن أى جهد سابق، ولا يعبر عن المبادئ الدستورية والحقوقية المستقرة المصرية والعالمية. لذا تم النص على: أولا: مفهوم الطائفة، ثانيا: ذكر المسيحيين وكأنهم «جالية». ثالثا: تضمين ما عرف بشروط العزبى باشا (وهى قرارات إدارية) التى صدرت مطلع الثلاثينيات من القرن الماضى (فى ظل دستور 1930 واستبداد إسماعيل صدقى باشا) بنعومة شديدة. رابعا: الاستجابة الضمنية لفقه «صحراوى لا يعرف التعددية تاريخيا»، ومغاير كليا لفقه الخضرة والنيل الذى يمثله بامتياز فقيهنا الليث بن سعد الذى كان يرى فى بناء الكنائس: «عمارة الأرض وزينتها». وهو الفقه الذى انطلق من مجلة الدعوة فى 1980 من خلال حكم بناء الكنائس فى ديار الإسلام، وجدد التذكير به فتاوى سلفية متداولة بيننا الآن. الفرق بين الفتوى القديمة والراهنة هو تحميل ولى الأمر تنفيذ الحكم.. وبالأخير تنصل جميع الذين انخرطوا عن النص الذى تداول.

(3)

وبعد، نذكر من لا يقرأ ويتعالى على العلم والمعرفة والتاريخ والقانون وبالتالى الحقوق كيف تناول القضاء المصرى الدستورى والإدارى هذه القضية: «حرية ممارسة الشعائر الدينية وإنشاء دور العبادة» (وهو ما رصدناه فى بحث نشر فى مجلة اليسار المصرية منتصف التسعينيات، ثم نشر فى جريدة الوفد عام 2008 وأخيرا فى كتيب من إصدار منتدى البدائل العربى للدراسات فى 2012).. وذلك من خلال حكمين هامين...

(4)

الأول؛ حكم محكمة القضاء الإدارى الصادر فى 26 فبراير 1951والذى قضى بما يلى:

أن إقامة الشعائر الدينية قد كفلت للجميع. كما ألغت قرارا لوزير الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة على أساس قلة عدد الأفراد. وأكد الحكم عدم وجود نص يضع حدا أدنى لعدد الأفراد الذين يحق لهم إقامة كنيسة.. إنه حكم يصب فى اتجاه المواطنة بمعناها الحديث حيث العدد لا يعكس الحق فى المواطنة بأبعادها. فكل مواطن مصرى له كل الحقوق بغض النظر عن أى اختلافات.

(5)

الثانى؛ الحكم التاريخى فى القضية رقم 615 لسنة 5 القضائية بتاريخ 16 ديسمبر سنة 1952،والذى أصدره الفقيه الدستورى الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهورى وجاء فيه:

«إن اشتراط ترخيص فى إنشاء دور العبادة على نحو ما جاء فى الخط الهمايونى لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات لا مبرر لها دون إنشاء هذه الدور مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية». «إن حرية الاجتماع للقيام بشعائر الدين تدخل ضمن الحريات التى يحميها الدستور مادام أنها لا تخل بالنظام العام ولا تنافى الآداب. والحكومة لم تزعم شيئا من ذلك، ومن ثم يكون الأمر بتعطيل الاجتماع الدينى قد وقع باطلا مما يتعين معه القضاء بإلغاء الأمر المطعون فيه فيما تضمنه من منع الاجتماعات الدينية». «وقالت المحكمة إن الدستور قد أقر تحويل الملك الخاص إلى كنيسة عامة إذ نص على حماية الدولة للقيام بالشعائر الدينية». ‘‘.. حيث أقر بمبدأ حرية العبادة ومسؤولية الدولة فى تأمينه. وما الترخيص فى هذه الحالة إلا وسيلة للتقنين أو إجراء تقنى مدنى.. ويبقى السؤال: أين المشكلة إذن.. ونواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern