(1) هناك تيار لم يزَل، لا يرى «حجم التركة الثقيلة»، التى خلفتها الأزمة المالية العالمية. ويدفع بكل قوته لاستمرار الآليات الاقتصادية التى نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتمارس ما دأبت على ممارسته مع دول العالم. فكل الظواهر الاقتصادية السلبية التى كان من الصعب أن تتجمع فى آن واحد، نجدها وقد «تكثفت» معا لتمثل تهديدات حقيقية تؤذن بكارثة كونية دون ريب.. ما أدى إلى «تشاؤم» صندوق النقد الدولى، نفسه، حول مستقبل الاقتصاد العالمى، وتضاؤل فرص تحسنه. (يمكن مراجعة التقرير السنوى لصندوق النقد الدولى المعنون: آفاق الاقتصاد العالمى ـ 2015).
فلقد خلص التقرير ــ بشكل حاسم ــ إلى أن الاقتصاد العالمى سوف «يزداد هشاشة وتراجعا».. لم يجب التقرير عن أسباب ما آل إليه الاقتصاد العالمى. ولكن من المثير أن التقرير قد أحال ما يعانى منه اقتصاد العالم إلى الأزمة المالية العالمية التى «أقر» بأنها لم تظهر «فجأة» فى 2007 /2008، وإنما كانت ممتدة منذ سنة 1998 وجاء انفجارها الكبير فى 2008.. إلا أن هذا الإقرار لم يقل لنا مدى مسؤولية الآليات الاقتصادية التى أدارت الاقتصاد العالمى عن حدوث هذه الأزمة. كذلك «الخراب الاقتصادى والاجتماعى» الذى طال العديد من دول العالم.
(2) فى هذا المقام، يرصد لنا «أرنست فولف» فى كتابه المرجعى البالغ الأهمية «لمستقبلنا»: «صندوق النقد الدولى: قوة عظمى فى الساحة العالمية» (ترجمة عدنان عباس على ــ 2016). كيف أدت سياسات الصندوق، التى هى خليط من: توجهات الليبرالية الجديدة، والرأسمالية المالية الأمريكية «American Finance Capitalism»، إلى أكبر فجوة عرفها التاريخ بين القلة الثروية والغالبية من المواطنين. هذا بالإضافة إلى: أولا: انهيار الجهاز المصرفى فى أيسلندا، وثانيا: الهيمنة على مصائر الدول من خلال التقيد بالديون وتوظيف ذلك فى المعادلات السياسية، ثالثا: إعاقة الديمقراطية حيث الليبرالية الجديدة تعنى ديمقراطية السوق فقط دون أن تمتد هذه الديمقراطية إلى المجالين السياسى والمدنى، ذلك لأن هذا يعنى بزوغ ـــ لا محالة ـــ تيار ناقد لليبرالية الجديدة، ورافض لتدخلات الآليات الدولية لتنفيذ هذه السياسات الليبرالية. ورابعا: دفع عدد من البلدان إلى إعلان الإفلاس كما حدث فى الارجنتين. وخامسا: تصاعد الفقر فى إيرلندا على نحو «انفجارى». وسادسا: نهب مقدرات البلدان وإطلاق عمليات نزع الملكية التى تؤدى إلى بيع الأصول نظير مزيد من الاقتراض كما هو الحال فى قبرص. وسابعا: التدخل السافر فى شؤون البلدان من خلال ما يعرف بـ«الإدارة الإلزامية» كما جرى فى اليونان مؤخرا (وهو أمر يذكرنا بالرقابة الثنائية: البريطانية/ الفرنسية على مصر إبان حكم إسماعيل وبعدها). وثامنا: التمهيد للحروب ورعايتها كما حدث فى يوغوسلافيا. تاسعا: اقتراب بعض الدول من حافة المجاعات مثل اليونان. وعاشرا: استحداث أطر مؤسساتية لتنفيذ عمليات نهب الدول بشكل مؤسسى لتعويض انهيار المصارف وتأمين خسائر الأغنياء. وقد نفذ هذا فى قبرص.. ولعل حالة جنوب أفريقيا حالة مثالية شاملة جديرة بالدراسة التفصيلية تعكس وجود صفقة تتجاوز الاقتصادى إلى ما هو أبعد من ذلك..
(3) ويخلص المؤلف فى خاتمة الكتاب إلى ما يلى: بينما يعيش الآن «ملايين من بنى البشر فى أدنى السلم الاجتماعى، بفعل سياسات الليبرالية الجديدة، فى نكد وتعاسة وفقر مدقع، كانت القلة الثرية منهمكة بجنون ومجون فى زيادة ثرواتها إلى مستويات لا مثيل لها فى تاريخ البشرية. وفيما يتضور فى العالم الراهن 840 مليونا من شدة الجوع، ويعيش 770 مليونا بلا مياه صالحة للشرب، وعدد مماثل أميون لا يقرأون ولا يكتبون، هناك أفراد تكفى ثروة الواحد منهم لإصلاح الأحوال...». ومن ثم لابد من إصلاح النظام الاقتصادى جذريا بما يضمن سد فجوة التفاوتات وإلا فإن التوترات الاجتماعية سوف تتزايد، ما يعنى أن التنظيمات الجماهيرية وخاصة العمالية والنقابية والفلاحية والشبابية (المحظورة أو غير المحببة بحسب روشتة الصندوق فى تجارب كثيرة يسردها الكتاب) سوف تتمرد على «المعايشات المهلكة للأعصاب والتى تنجم عن غضب عارم له ديناميته وطاقته الخاصة به» أو ما وصفه المؤلف بـ«الاختمار الثورى فى مواجهة الانبطاح». وهو ما بدأ بتيار نقدى داخل الصندوق... ونواصل.