لدىّ قناعة أننا نعيش مرحلة تتسم بالجدل الحاد. ليس على مستوى الحوار فقط، الذى نمارسه جميعا طوال الوقت. وإنما بات يصل إلى درجة ما يعرف بالجدل الفلسفى. فكل قضية تصعد على سطح الواقع تجد اشتباكا حادا حولها يعكس الرأى ونقيضه، والمعالجة ونقيضها. إنها الظاهرة التى وصفتها فى أكثر من مقال تحت عنوان: «قديم ينازع وجديد يصارع».. خذ أى قضية من القضايا التى يتم الجدل حولها بين المصريين. فإننا سوف نجد جدلا حادا يتراوح بين رؤية قديمة يتم استدعاؤها من الماضى من قبل فريق. ورؤية تحاول أن تطرح رؤية مغايرة لما دأبنا عليه. إنها «اللقطة» التى أظنها تمثل قلب الصورة العامة المصريين.
(2)
فى هذا السياق، تأتى واقعة المنيا التى جرت منذ أيام لتضع «زوووم» كبيرة على لب الجدل بين القديم والجديد.. قديم تمثل فى الآتى: أولا: «إنها قصة بسيطة»، وثانيا: «الاحتواء من خلال حشد كل ما هو عرفى بعيدا عن إعمال القانون»، ثالثا: التعاطى مع المواطنين عبر المؤسسات الدينية. ورابعا: التعتيم على ما جرى ثقة فى ما سبق على «لم الموضوع والناس بتنسى مع الوقت».. ولكننى لاحظت، وقد كنت أتابع الواقعة وردود الفعل من خارج مصر، ما يلى: أولا: التمسك بالقانون كحكم بين المصريين لتأمين الحقوق بغض النظر عن الانتماء الدينى. ثانيا: التأكيد على التعاطى مع الواقعة من منظور مدنى وجنائى من قبل قوى مجتمعية خارج فريق الوكلاء والوسطاء التقليديين والمعنيين بإطفاء الحرائق دون تكلفة أنفسهم ـ لا أقول معرفة الأسباب ـ وإنما حتى إزالة آثار الحريق. ثالثا: الموقف الكنسى الذى أصر على إعمال القانون ومن ثم الانتصار لدولة المواطنة، بعيدا عن «اللملمة». رابعا: وهو أهم ما فى الأمر، هو ظهور بعض الأجيال الجديدة من المصريين المسيحيين ينحازون فى خطابهم السياسى لمبدأ المواطنة. خامسا: بدء الأخذ بمنطق فى التحليل يميز بين البعد الجنائى والبعد الدينى للواقعة. وهو ما أشرنا إليه فى دراسة مطولة حول أنواع وأسباب أحداث التوتر الدينى فى مصر من خلال مراحلها «الأربع ــ مراحل النزاع الدينى»ــ والتى بدأت سنة 1970كما يلى: 1) المرحلة العنفية، و2)مرحلة الاحتقان. و3)مرحلة السجال الدينى.و4)مرحلة التناحر القاعدى. وقد رصدنا سبعة أسباب لأحداث التوتر الدينى. وميزنا بين أحداث فى مبدأها وطبيعتها دينية. وأحداث تبدأ جنائية وتتحول إلى دينية (ساعدنى فى هذه الدراسة كل من الباحثتين: عبير رشيد وغادة صبحى). وأظن أن هذا ينقلنا إلى مرحلة جديدة فى التعامل مع التوترات الدينية. وقد وضعنا تصورا متكاملا ثلاثى العناصر بعد واقعة إطفيح أطلقنا عليه آلية عبور وكان نواة ـ فيما أظن ـ لمجلس العدالة. عناصر الآلية هى: أولا: دراسة جغرافية التوترات الدينية وأسبابها، وثانيا: تصميم تدخلات تنموية، ثالثا: إنذار مبكر...
(3)
وفى هذا المقام، أذكر أننا فى 2008 وفى هذا المكان، وفى دراسة لنا كانت آخر ما كتبنا فى هذا الشأن قدمت فى بيروت لمركز عصام فارس للشؤون اللبنانية عنوانها: ’’الأقباط من انتزاع المواطنة إلى اصطناع الأقلية واختراع الملة‘‘ ـ نشرت مطلع 2011. حيث طريقة التعاطى مع الشأن القبطى هى التى سوف تحدد كيف نراهم. أى هل هم مواطنون، أم جماعة سياسية أى أقلية، أم جماعة دينية أى ملة. وفيها حددنا ثلاثة سيناريوهات مستقبلية: هى المواطنة، أو الملة (الدولة العثمانية) أو الجماعة السياسة. وإن سيناريو المواطنة يتحقق مع انفتاح المجالين السياسى والمدنى وهو ما تم مع 25 يناير. فالحراك الذى جرى والتمرد الذ تلاه فى 30 يونيو فى مواجهة الاستبدادين السياسى والدينى على التوالى قد أتاحا الفرصة للجديد أن يصارع ما يحاول أن ينازع من أجله القديم.. فلا يمكن أن يستقيم العرفى مع الدولة الحديثة...
(4)
وظنى أن انحياز الرئاسة لإعمال القانون ومن ثم لدولة المواطنة هو انحياز للجديد واختراق لقديم دأب على اجترار لغة ومعالجات نمطية، وتقطع الطريق على الوصفات القديمة السطحية والتسكينية فى معالجة التوترات الدينية.. وفى المجمل ’’تعرية القديم‘‘؛ الذى يريد أن يسير بحسب «المانيوال القديم» الذى تجاوزه الزمن والواقع والضرورة.. ونواصل...