اليمين الدينى الأمريكى ينتعش مجددا

المتابع لما يعرف باليمين الدينى الجديد فى الولايات المتحدة الأمريكية سوف يلحظ أنه يعيش فترة انتعاش جديدة بعد أفول ممتد خلال فترتى أوباما.

وكخلفية تاريخية، أظن من الأهمية ذكرها للقارئ الكريم، نشير إلى أن الخريطة الفكرية/السياسية الأمريكية تبلورت عبر التاريخ من ثلاثة تيارات رئيسية هي: الأول: المحافظون. الثاني: الليبراليون. الثالث: الراديكاليون. أخذا فى الاعتبار أن الدلالة المعرفية لهذه المصطلحات تختلف فى معناها وتطورها التاريخى عن مثيلاتها فى أوروبا. فالراديكاليون؛ على سبيل المثال ليسوا اليساريين أو الماركسيين أو،...،إلخ

، كما هو الحال فى أوروبا. وإنما هم الإصلاحيون الذين يحملون قيم العدالة الاجتماعية، ونشطاء الحركات المدنية، والبيئة، والعمالية، ومناهضة كل أشكال التمييز. وهم اصلاحيون بشكل عام.

أما الليبراليون التاريخيون فهم الذين يرفعون قيم الحرية والديمقراطية والدستور وقد انقسموا إلي: أولا: ليبراليين كلاسيكيين. وثانيا: الليبراليين الجدد أو «المحافظين الجدد» وهو تيار نخبوى يعبر عن أصحاب المصالح العليا فى قطاعات النفط والغاز والأدوية والسلاح والبورصة.

وأخيرا يأتى المحافظون المعنيون بالقيم الأسرية وبالتقاليد الفكتورية القديمة. وهو التيار الذى خرج من عباءته اليمين الدينى الجديد. وهو تيار اجتماعي/سياسى مر بأربع مراحل منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي. فهو أولا: خرج على الأصولية البروتستانتية ومن إطارها الكنسى العام. وقام ثانيا: بالانتشار القاعدى فى جسم المجتمع المدنى مؤسسا كيانات مدنية مثل: الرابطة الوطنية للإنجيليين(1942)، ومنظمة الأغلبية الأخلاقية (جيرى فولويل ـ 1979)، ومنظمة الائتلاف المسيحى (بات روبرتسون ـ 1988). وعمل على ثالثا: بلورة رؤية سياسية لحركته. وأخيرا ورابعا: مارس سلوك جماعات الضغط والتعبئة...

ويمكن اعتبار هذا التيار المقابل الموضوعى للجماعة فى سياقنا المصري. فمن خلال دراستنا لمسارهم التاريخى وكيفية تحركهم السياسى (فى دراسة مبكرة الأولى باللغة العربية لهذا التيار)، نجد اليمين الديني؛ بدأ أولا بتبنى سلوك دفاعى لنشر أفكاره المحافظة. ثانيا: الانتقال من الموقف الدفاعى إلى الهجوم لكل ما هو مخالف لما يبشر به من قيم محافظة وأصولية. وفى هذا المقام نجد هذا التيار يمارس نوعا من المكارثية الدينية، إن جاز التعبير، ضد الرؤى المسيحية التجديدية المغايرة والمنفتحة على العصر كذلك الأفكار الليبرالية التى انحازت للمساواة والانتصار لقيم الحركة المدنية. ثالثا: طورت هجومها بشن حملة شاملة فى أنحاء البلاد لفرض الأخلاق الدينية بمرجعية توراتية. وهو ما تلقفه المحافظون الجدد الذين ليسوا متدينين ونخبويين وقت ريجان للتغطية على الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة من جهة. ومواجهة الاتحاد السوفيتى التى تم اعتباره محورا للشر. وهو ما أهلهم رابعا: إلى الانخراط فى العملية السياسية ككتلة تصويتية برز دورها المؤثر فى دعم بوش الابن تصويتيا ثم ترامب. ثم فى تشكيل تحالف ثلاثى رسمى غير مسبوق بين اليمينين الجديدين: السياسى النخبوي/الدينى الشعبوي، بالإضافة إلى المجمع العسكرى التكنولوجى الصناعي. وإطلاق صيغ: الهيمنة والسيادة الأمريكية، ثم أمريكا قوة عظمى وحيدة، فالإمبراطورية الأمريكية. وفق خطط عسكرية لا حدود لها، وإستراتيجيات سياسية كونية للمحافظين الجدد، بغطاء توراتي (فى الأغلب) لليمين الديني... وهى خطط واستراتيجيات سرعان ما تراجعت أمام القوى الدولية الصاعدة الجديدة... ولعل العراق يعد نموذجا تطبيقيا مثاليا لكيفية عمل هذا المحور الذى لم يسلم أى مكون من مكونات العراق الدينية والمذهبية والقومية والسياسية من ضرره.

ومع انتخاب أوباما، وعلى مدى دورتين رئاسيتين أفل هذا التيار لأسباب كثيرة. ولكن منذ انتخاب ترامب رئيسا لأمريكا، وهم يعتبرونه أيقونتهم الذى سوف يجدد نفوذهم الذى كانوا يتمتعون به وقت بوش الابن. بالرغم من أن ترامب لا يعتبر ابنا لحركة اليمين الدينى الجديد مثل قرينه الرئيس الأسبق بوش الابن.

إلا أن تحولات الداخل الأمريكى المُعقدة (تناولناها فى أكثر من مقال) من: تراجع للحزبين الكبيرين، وبزوغ كتل شبابية جديدة فى حراك سياسى ومدنى خارج الحزبين الكبيرين، وتصاعد الغضب الأبيض الرسمى والمدنى (نسبة للعرق الأبيض الأمريكي) حيال الأعراق المغايرة بألوانها المختلفة (إعادة توظيف صراع الحضارات بحسب ما أوضحنا فى مقالنا السابق)، بالإضافة إلى ما يمثله ترامب من مصالح مالية تمثل انقلابا جذريا يصب فى مصلحة القلة الثرية، وتحقيق سيطرة تامة لرأس المال على كل مناحى الاقتصاد والاجتماع (ويعد قانون الضرائب ــ بحسب الباحث ناصر الرباط ــ الذى صدر نهاية 2017 تتويجا للجهود التى بدأها ريجان لتمكين الطبقة الأوليجاركية الثرية من الحفاظ على مكاسبها كاملة على حساب الطبقات الأخري)،...،إلخ...قد أدت إلى أن يعتمد ترامب على اليمين الدينى كقاعدة اجتماعية داعمة لمواجهة هذه التحولات.

فى هذا السياق، أقدم ترامب على نقل السفارة الأمريكية للقدس وفق قانون صادر فى 1995 تنص ديباجته على أحادية هوية القدس اليهودية فقط، لا تعدديتها...كما يحرص على ترضية التيار ببعض التصريحات الأخلاقية. والتواصل من خلال لقاءات دورية للجنة استشارية شكلت من أجل التنسيق والتشاور. حيث يمثل ترامب فيها نائبه عضو تيار اليمين الديني...ويبقى السؤال إلى أين ستصل بنا هذه العلاقة المنتعشة... ومدى قدرة التيارات الأخرى والقوى المدنية والشبابية على إيجاد التوازن السياسى المطلوب... هذا ما ستجيب عنه تفاعلات الواقع الأمريكي...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern