في صيف 2017، لفت النظر الأكاديمي البريطاني الشهير روجر أوين، إلى خطورة ما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي ألقاه في وارسو وقال فيه: إن الحضارة الغربية تواجه خطر الاضمحلال على يد من يسعون إلى تدميرها؛ حيث اعتبر أوين ما طرحه ترامب محاولة لإعادة الحالة الاستقطابية الكونية الحادة التي عاشها العالم بداية من مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وتعد فكرة صراع الحضارات/الثقافات/الأعراق، الفكرة الأبرز التي روج لها الغرب عن طريق أطروحة هانتينجتون الشهيرة، التي نشرت كمقال في 1993 ثم في كتاب لاحقا، وذلك عقب انتهاء الحرب الباردة بينه وبين الاتحاد السوفيتي بعد تفكيكه. حيث تبلورت نظريته في أنه مع انتهاء الصراع الأيديولوجي مع الاتحاد السوفيتي، ستكون الانقسامات العالمية الكبرى ذات طابع ثقافي وليس سياسيا وأيديولوجيا واقتصاديا، وأن الإسلام سيكون العدو الأعظم للحضارة الغربية...
وأجج هذه المقولة تضافر عاملين هما: أولا: كارثة تفجير سبتمبر 2011 من جهة. وثانيا: وصول جورج بوش الابن إلى سدة الحكم كأول رئيس أمريكي يعلن انتماءه إلى اليمين الديني في الولايات المتحدة الامريكية بدعم من الكتلة السياسية والتصويتية للمحافظين الجدد: دينيا وسياسيا. وكانت السمة البارزة لهذا التحالف اليميني: السياسي/الديني، على مدى دورتين رئاستين لبوش الابن (2001 ـ 2008)، هي صبغ المقدس(الديني) على المسرح الدولي. فلقد التقت شهوة الحرب المدمرة لدى اليمين السياسي مع التفسيرات التوراتية التي تشرعن وتبرر للحرب من قبل اليمين الديني وكان نموذجها المثالي غزو العراق أو ماعرف بحرب بابل.
لكن تحولات عدة طرأت على الداخل الأمريكي حاصرت اليمين الديني الذي أضر كثيرا بالمصالح الأمريكية. وجاء أوباما معبرا عن حركية مجتمعية جديدة تمثلها كتلة شابة من خارج المؤسسات التقليدية وهي ما عبر عنها بيرنى ساندرز المرشح السابق في انتخابات الحزب الديمقراطى للرئاسية الامريكية بدرجة أو أخرى (راجع مقالاتنا عن الداخل الأمريكي وقت ترشح أوباما وتبنيه خطاب المواطنة وعن ساندرز واليسار الجديد). وهي حركية قللت ـ إلى حد ما ــ من تأثير الكتلة التصويتية الدينية (تقدر بثلاثين مليون صوت في الجنوب والغرب) في الانتخابات التي أتت بترامب. حيث تنوعت الكتل التصويتية الداعمة خاصة بين الأثرياء البيض، وبعض من الشريحتين العاملة والوسطى لأنهم رأوا فيه المنقذ للأزمة الاجتماعية والاقتصادية خاصة مع رفع شعار الحماية للاقتصاد الأمريكي.
وأنه كما أعانت الحكومة الشركات الخاسرة والمتضررة من الأزمة المالية(التي اعتبرت أكبر من أن تسقط بالرغم من أن تعاملاتها شابها الكثير من الفساد) يمكن أن تعين، بالمثل، الشرائح الاجتماعية المتضررة...وبالفعل تراجعت أوضاع الطبقة الوسطى ويخرج من ينتمون إليها من سوق العمل الممتد والمستقر إلى صف العمال اليوميين (كما توضح دراسة صدرت أخيرا).
والنتيجة التي سرعان ما تم اكتشافها، أن ترامب «لم يعن يوما بعدالة توزيع الثروة» وهمه طوال الوقت جمع الثروة على حساب العمال والفقراء والطبقات الوسطى كما لم يقم بأي خدمات اجتماعية أو يقدم أي مساعدة لهم. وعليه، لن يقدر على تلبية متطلبات هؤلاء المأزومين الاجتماعية والاقتصادية. كما أن ترامب ـ في واقع الأمر ــ (حسب أحد الباحثين)، لا يعبر عن مصالحهم.
وما سوف يفاقم من الأزمة المجتمعية هو أن كثيرين ممن ينتمون إلى الشريحتين الفقيرة والوسطى ينتمون إلى أعراق متعددة ثقافية: مكسيكية، ولاتينية، وإفريقية،...وأعراق دينية: مسلمة، وبوذية، ومسيحية غير بروتستانتينية...ما يتطلب تحويل النظر عن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المركبة التي سوف تطال كتلا بشرية متنوعة. ما يمكن أن تؤدي بالولايات المتحدة الأمريكية إلى صراع مجتمعي حاد... ويدعم هذا الاتجاه نخبة المركب الاقتصادي الصناعي العسكري التكنولوجي، التي تعمل على التعمية على طبيعة الصراع القائم وأنه ليس طبقيا ــ بحسب أحد الباحثين ــ وإنما هو «محض ثقافى»... لذا كان من الضروري استعادة نظرية صراع الحضارات أو صراع الهويات...وبدلا من معالجة التفاوتات الكبيرة في أنماط المعيشة، وتطوير النشاطات الاقتصادية، وتحديث التعليم، وتأمين المواطنين صحيا واجتماعيا،...، إلخ. فإنه يجري تبني إجراءات حادة للتعاطي مع المختلفين عرقيا.
وتعكس زلات اللسان الرئاسية مدى الانحياز المطلق للأرستقراطية البيضاء، دون غيرها. وانعكس ما سبق على تعليقات الكثير من الصحف والدراسات والندوات والمؤسسات البحثية خلال الشهور الثلاثة الماضية. ولعل من أبرز ما نشر في هذا الاتجاه هو المقال الذي كتبه معلق النيويوركر مات فيني وعنوانه الدال: الولايات «المتشرذمة» الأمريكية... ومجتمعها المتذرر إلى هويات وجماعات. وبعد، لا تتوقف خطورة استخدام مقولة صراع الحضارات على مجرد تحويل النظر عن طبيعة الصراع المجتمعية الأصلية: الاجتماعية/ الاقتصادية فقط. وإنما في أمرين غاية في الأهمية هما:
أولا: توسيع نطاق توظيفها ليس في الخارج فقط بل في الداخل أيضا.
ثانيا: توسيع نطاق الخصوم للأرستقراطية البيضاء الأنجلو ساكسون البروتستانت... واعتماد سياسة تطهير الأصول, وليس تطهيرها من الفساد وامتيازات القلة الثروية. ما يضرب في مقتل نموذج البوتقة الأمريكي... وفي الحالتين سيعد الأمر كارثة محققة... وبالرغم من الانفضاض التدريجي النسبي للكثيرين ممن ينتمون للشرائح الاجتماعية عن ترامب، فإن الكتلة التصويتية لليمين الديني لاتزال داعمة لترامب... ولهذا قصة أخرى.