إستراتيجية الكسب المشترك و«مبادرة المئات الست»

«سيتم انجاز بناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة قوية ومزدهرة وديمقراطية ومتحضرة ومتناغمة وجميلة.. ويتطلب هذا أن يحقق الاقتصاد الصينى نموا ثابتا يتسم بالمستوى العالى والعدالة والفوز المشترك».

وردت هذه الكلمات فى المؤتمر الوطنى التاسع عشر للحزب الشيوعى الصينى فى أكتوبر الماضي. وكنا قد ألقينا الضوء على الصين وحزبها، من خلال سلسلتى مقالات(3مقالات من 20/2إلي5/3/2016، و4 مقالات بعنوان: التمدد الصينى من 23/12/2017 إلي13/1/2018). وظنى أن التجربة الصينية لم تلق الاهتمام الكافى بعد. فنحن أمام دولة بدأت انطلاقتها نحو التحرر من الواقع الأليم فى منتصف القرن الماضي، 1949، فيما عرف بالمسيرة الوطنية التاريخية التى سار الصينيون فيها على أقدامهم فى شتى أنحاء الصين. ووفقها، بدأ ما يعرف فى الأدبيات السياسية ببدء خطة المائة سنة. التى قام الصينيون بتنفيذها بدقة وصرامة شديدتين فى ثلثيها الأولين. وتعكس كلمات المقدمة اصرارهم على استكمالها مع 2050، تاريخ مئوية المسيرة الكبري.

ولأننا أفضنا كثيرا حول التجربة الصينية، فإن ما يهمنى القاء الضوء عليه اليوم هو استراتيجية السياسة الخارجية الصينية، بحسب ما وردت بجريدة الأهرام فى 18 مايو الماضى (على مساحة صفحة كاملة)...ذلك لأنها تعكس بشفافية تامة السلوك الصينى فى تمددها الكونى العابر للقارات.

تحاول الصين أن تسلك سلوكا سلميا نافعا يقوم على التعاون المشترك بين دول العالم يدفع «ببناء رابطة المصير المشترك للبشرية، وخلق مستقبل افضل مع شعوب العالم. بالطبع بما فيها الشعوب العربية».. وتتسم هذه الرابطة بتبادل المنافع بين الدول على قاعدة الكسب المشترك المتبادل أو ما يعرف فى أدبيات علم التفاوض, ومن ثم تحرص على أن تكون هناك فوائد متبادلة بينها وبين الدول التى تتعامل معها وفق ما تطلق عليه دبلوماسية القوى الكبرى ذات الخصائص الصينية والتى تتسم بخمسة ملامح وهى: اولا: التنمية السلمية، ثانيا: التعاون القائم على المنفعة المشتركة والفوز المتبادل، ثالثا: دعم الدول النامية فى عملية التحديث دون أن تفرط فى استقلالها الوطني، رابعا: حل الصراعات الدولية والإقليمية سلميا بتسويات مبتكرة تحترم الخصوصيات الثقافية والحضارية، بتأكيد التشاور الدائم المتكافئ، خامسا: العمل الدءوب على استقرار البيئة الدولية وقبول تنوعها وازدهارها دون تمييز وفى نفس الوقت...شريطة نبذ عقلية الحرب الباردة وسياسة القوة، وتعظيم التعاون التنموى المشترك والتصدى الجبهوى الكونى تجاه التحديات التى تواجه البشرية...

تطرح الصين، مما سبق، نفسها كنموذج مغاير عن النموذج الاستعمارى/الامبريالى التاريخى الذى لم يكن همه إلا تفتيت الدول، وتفكيك سيادتها الوطنية، والتدخل فى شئونها الداخلية، ونزح ثرواتها كى تبقى تابعة... بينما الصين ــ لأسباب كثيرة ــ تسعى إلى: «تقدم البشرية، وتحقيق الإنصاف والعدالة فى العالم على قاعدة رابطة المصير البشرى المشترك».. كما ترفض الصين الأنماط التقليدية القديمة للتحالفات السياسية والعسكرية أو التصنيف الأيديولوجى أو العرقى بأنواعه المختلفة لدول العالم...حيث يوحد المصير المشترك بين الجميع...

وتمثل الرؤية السابقة ذات الخصائص أو الطبعة الصينية التى بدأت الصين ممارستها عمليا مع غالبية دول العالم، انقلابا لما عرفه المسرح العالمى (بحسب تعبير عالم السياسة الفرنسى برتران بادي) منذ معاهدة وستفاليا(1648) التى كرست منظومة العلاقات الدولية فى طبعتها الأولي.

فى هذا السياق، أطلقت الصين مبادرة المئات الست لدعم الدول النامية أو التعاون بين الجنوب والجنوب فى خفض معدل الفقر. وتتيح الصين للدول النامية خلال خمسة أعوام أولا: تخصيص100 برنامج للحد من الفقر. ثانيا: 100 برنامج للتعاون الزراعي. ثالثا: 100 برنامج لتعزيز التجارة. رابعا:100 برنامج للمساعدة. خامسا: 100 برنامج لحماية البيئة ومكافحة تغير المناخ. سادسا: 100 مستشفى وعيادة ومدرسة ومركز تدريب مهني.. ويتم تفعيل مبادرة المئات الست فى ضوء رؤية تنموية ذات أبعاد اربعة هي: أولا: حث الدول النامية على البحث عن مسارات تنموية متنوعة، ما يعنى عدم إجبارها على نمط تنموى بعينه بل ترك الاختيار التنموى وفق ظروفها الذاتية من حيث تطورها المجتمعى وتطورها الانتاجي.. ثانيا: تعظيم التبادل الفكرى والمادى لثمار الاستراتيجيات التنموية بين دول الجنوب. ثالثا: فى ضوء الرؤية التنموية التى تختارها كل دولة تعمل كل منها على صياغة مجموعة من المشروعات ذات الأهمية الاستراتيجية. رابعا: بذل جهد دولى مشترك لتحسين المنظومة الاقتصادية الدولية، وتطوير الحوكمة الاقتصادية العالمية وتجديد النظام التجارى متعدد الأطراف وفق مجتمع دولى ذى مصالح مشتركة.

ونشير، أيضا، إلى أن الصين نجحت فى تعبئة 22 دولة آسيوية لتأسيس البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية منذ ثلاثة اعوام، برأسمال يبلغ 50 مليار دولار على أن يزيد إلى الضعف خلال خمسة أعوام. كما حشدت الصين فى مايو 2017 ـ 68 دولة ومنظمة دولية لتوقيع اتفاقيات تعاون تحت مظلة مبادرة الحزام والطريق.

وبعد، تشير المراجعة العملية للتمدد الصينى كونيا، إلى أنها تعمل ـ بالفعل ــ على تعظيم مكسب من يتواصل معها بقدر سعيها الذاتى للكسب بدرجة أو أخري...وعليه لابد من توفير آلية ما؛ تُعنى بتطوير وتفعيل ومتابعة التعاون مع الاستراتيجية الصينية ومبادراتها المتنوعة وفق مصالحنا القومية العليا.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern