ليس فى العنوان أى خطأ...حديثى اليوم عن رسائل فان جوخ التى عشت معها عوالم خفية فى حياة الرسام العالمى الكبير. تشكل، الرسائل، بورتريهات بالكلمات لا بالفرشاة، لا تقل جمالا وإبداعا عن لوحاته الذاتية التى تقدر بالعشرات والمنتشرة فى العديد من متاحف العالم.
وتكمن أهمية نصوص الرسائل، والبورتريهات الذاتية لفان جوخ فى أنها تعكس التطور الفني، والنفسي، والحياتى للفنان خاصة فى السنوات العشر الأخيرة من عمره والتى تعد ذروة توهجه الفنى والتى بلغت ما يقرب من ألف لوحة تقريبا. أخذا فى الاعتبار أن فان جوخ لم يعش سوى 37 سنة فقط من 1853 إلى 1890. كما توضح العالم السرى للمبدعين فى ظل ظروف اجتماعية ضاغطة من جهة. ومن ثم حالة نفسية وذهنية غير مستقرة على حال، من جهة أخري. ترجم هذه الرسائل إلى العربية ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدى فى 1300 صفحة وتصدى لنشر هذا العمل المهم دار الكتب خان بعنوان: المخلص دوما فنسنت: الجواهر من رسائل فان جوخ.
ويلخص العنوان الرئيسى لمقدمة الكتاب حياة فان جوخ بأنها حياة، فنان، تتراوح بين التعثر والمثابرة. فمن هذا التراوح نتج الجديد الذى ميز فان جوخ. فلقد كان الإبداع بالنسبة له قوة مضادة مقاومة للواقع الأليم. ويلزم المبدع لتقديم إبداع متميز أن يكون مستوعبا العالم المحيط به. وهو ما اجتهد بحب استطلاع جارف القيام به فى حياته القصيرة. لذا لم يجرؤ على أن يخوض تجربته الإبداعية إلا متأخرا بعد أن تسلح بالثقافة المطلوبة. ولم يكن متسرعا فى العمل. فلم يكن يجلس للعمل إلا بعد تأن طويل: لأن ما هو عظيم لا يحدث من الاندفاع وحده، بل هو تتابع لأمور صغيرة تجتمع معا. فكانت قوة الإرادة والعمل الشاق هى ما تمكن فان جوخ من تجاوز تدنى حالته المعنوية. وكان واعيا بأن الفن لا يكون حقيقيا إلا إذا كان من أجل الآخرين دون تمييز. وبحسب ما ورد فى إحدى الرسائل: فن يواسى القلوب المكلومة...وقد كان فى المقام صادقا جدا مع نفسه فمثلما كان فنه من أجل الناس كانت حياته من أجلهم أيضا حيث كرس نفسه بالكامل للعناية بالمرضى والمصابين. حيث تماهى تماما مع المعوزين حتى إنه تخلى عن كل ممتلكاته ليقيم فى كوخ فقير ينام فيه على الأرض...وكان عزيز النفس يؤمن بأنه أكرم له أن يبيع شيئا فى مقابل 5 جيلدرات (العملة الهولندية) على أن يتلقى عشرة بصفة الرعاية من أحد...
وما أن بدأ يبدع صار مخلصا لفنه، مقاوما الإغراءات الدنيوية، ومنهمكا كليا فى برنامج للتعلم الذاتى ومتعاليا على توافه الأمور فصارت حياته الشخصية بكاملها رديفة للفن، بدأ من الصفر، وتعلم ما فى وسعه عن المواد والمنظورات والنسب والتشريح. وكان يقرأ الكتب التعليمية، ويعمل من الصباح لليل فى استنساخ بعض المطبوعات. لذا تفوق وابتكر مدرسة فنية خاصة به من حيث الأسلوب والمضمون ولطشات الكتل اللونية الثقيلة المنيرة التى تميز بها. وأن يخلق عالما مضادا من الصور والكلمات سُجل باسمه فى دنيا الفن التشكيلى والتصويري
وإذا ما أردنا أن نوجز العملية الإبداعية لدى فان جوخ فيمكن أن نرصدها فى الكلمات الآتية: التجريب، والرغبة فى الاكتشاف، والتحرر من القيود...وأظنها مقومات ثلاثة ــ لا غنى عنها ــ لأى عملية إبداعية بالنسبة للمبدعين... وهو ما تكشفه مجمل الرسائل الـ 265 (بالإضافة إلى 108 اسكتشات) التى ترجمها الأستاذان ياسر ومحمد، سواء الرسائل التى وجهها إلى شقيقه ثيو والتى تناولت الجانب الحياتى والعلائقي(نسبة لعلاقات فان جوخ المتنوعة) أو رسائله إلى الفنان أنطون فان رابارد حيث تركزت حواراتهما فى الآتي: أولا: التقنيات والمواد المستخدمة فى عملية الرسم. ثانيا: أفكاره واكتشافاته وتمكنه المعرفى والحرفى لإبداعات وإنجازات من سبقوه ومعاصريه فى مجال الرسم. ثالثا: الإشكاليات الفنية المثارة آنذاك. رابعا: الفلسفة الحاكمة لتفاصيل ما كان يرسمه والمنطق وراء مكونات كل لوحة (لوحة البطاطا ــ لوحة البيت)...ما جعل ــ فى المحصلة ــ سطور الرسائل نصا ثريا على المستويات: الفكرية، والنفسية، والفنية، والاجتماعية،...،إلخ. وما يزيده ثراء هو أن القارئ تاريخ أوروبا ــ الحاضر بقوة ــ فى خلفية الرسائل.
عاش فان جوخ تحكمه آمال أن يحقق تطورا؛ فلقد ــ بحسب ما جاء فى إحدى الرسائل ــ بدأت الرسم متأخرا نسبيا، ولا يمكننى الاعتماد على أننى سأعيش لسنوات طويلة جدا...لذا كان حريصا على أن يبدع... يقدم لنا المجلد البديع شكلا ومضمونا بسطوره وكلماته الأدبية وتشكيلاته الفنية حالة إبداعية ممتعة ومثيرة للتفكير. إنها «ملحمة» تعكس جدل الصراع الإنسانى بين تفعيل قدراتنا الإبداعية وتعطيل حيويتنا الابتكارية... إن أغلب المبدعين الذين أبدعوا أدب الرسائل مثل: هيمنجواي، وماريو بارجاس يوسا، وسارتر التى أرسلها لسيمون دى بوفوار، ورسالة كافكا التى خص بها والده، والرافعي، وعبد الحكيم قاسم، والرسائل المتبادلة بين مى وجبران، وغادة السمان وغسان كنفاني، كانت تركز على موضوعات بعينها...بينما تتميز رسائل فان جوخ، بأنها شاملة ومركبة متعددة مستويات التناول...ومن هنا تأتى أهميتها...تحية لكل من حرص على تأمين طبعة عربية لهذا العمل الأدبى الضخم الذى لم يحظ بالاهتمام.