كرة القدم.. المتعة والعشق والمال

ربحنا أم خسرنا...لن تتبدل متعتنا

متعتنا تظل على حالها...سواء خسرنا أم ربحنا..

كلمات بسيطة يتغنى بها أطفال من أوروجواي، وهم عائدون من لعب كرة القدم... وثقها المؤرخ والأديب إدواردو جوليانو(1940 ـ 2015) فى مقدمة كتابه المتفرد: كرة القدم: بين الشمس والظل (1994). الذى تصادف أن أنهيت قراءته منذ أسابيع، وولد لدى الكثير من الأفكار حول كرة القدم. التى ستكون (وقت نشر المقال) قد انطلقت احتفاليتها الكونية: بطولة كأس العالم التى تنظم كل أربع سنوات، هذا من جانب. كما تمنحنا الكتابة عن كرة القدم، من جانب آخر، فرصة كى نرتاح قليلا من قضايا السياسة وإشكاليات الفكر.

كتاب جاليانو؛ يلقى الضوء على قصة اللعبة التى استطاعت أن توحد سكان العالم ممارسة ومشاهدة. وأن تصبح، مع مرور الزمن، مصدرا للمتعة لا غنى عنه وعشقا فطريا لا تفسير له...حيث تمنح كرة القدم البهجة لكل من يلامسها. ويذكر أن إحدى النجمات سُئلت يوما «كيف توضحين لطفل ماهى السعادة؟...فردت ــ مباشرة ودون كلمة واحدة ــ أعطيه كرة قدم»..

يأخذ جاليانو على كرة القدم الحالية أنها باتت تخضع لقوانين السوق؛ ما حولها من رياضة إلى صناعة،... وهو مُحق جزئيا. بل أزيد بأن الواقع يؤكد سطوة الاحتكارات الكبرى وهيمنتها على عالم كرة القدم فى البث المرئي، وفى سوقنة اللاعبين ــ إذا جاز التعبير ــ، وتملك الأثرياء للأندية،...،إلى آخره، وتداعيات ما سبق من فساد، واستئثار، مما يسبب إعاقة المريدين عن المتعة...

ولكن لست معه فى أن هذا قد سبب استبعاد الجمال الذى يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب...فاستنكرت كرة القدم الاحترافية ما هو غير مفيد،...لا يعود بالربح. ذلك لأن تحولات كبيرة قد جرت فى مجال التواصل الرقمى قد اتاحت حضورا جماهيريا متجددا لتشجيع الساحرة المستديرة مثل عنصرا ضاغطا على أصحاب الصناعة فى ضرورة مراعاة المتعة. وأن الاحتراف لا يعنى تقديم عروض جافة أو لا روح فيها.

الأهم، هو أن صناع المشهد الكروى باتوا يدركون أن استمرارية المتعة وتنميتها تفرض عليهم الاهتمام بكل العناصر التى تدخل فى صناعته. فالتسعون دقيقة، أو الزمن القانونى للمباراة، هو حصيلة عمل وتفاعل هذه العناصر التى تمتد إلى العديد من المجالات مثل: الإدارة، والتدريب، والعلاج الطبيعي، والطب الرياضي، وصيانة الملاعب، والإعلام، وهندسة الاستادات، والملابس، والمرافق العامة، والخدمات،...،إلخ، وانه لا يمكن الحفاظ على المتعة المنشودة مالم يطلها التقدم.

إذن، كان لضغط المشجعين ــ العابر للقارات ــ فعله فى وضع بعض الضوابط الحاكمة فى أن تظل لعبة «كرة القدم» مانحة المتعة وبالمعشوقة التى لا غنى عنها...بالرغم من سطوة المال...

وهكذا، يلعب العشاق من محبى اللعبة دورهم فى فرض ما يريدون على صناع المشهد الكروى الراهن. والمتابع المتأنى لأحوال اللعبة ولأداء القائمين عليها دوليا سوف يلحظ أن التحكم السوقى للعبة بات يقابله إرادة جماهيرية موحدة رغم تنوع الأماكن واختلاف المكانة... إرادة مفادها بأنه لا تنازل عن أن تكون كرة القدم مصدرا للمتعة، وعليه لا مساس بها. بالرغم مما يحدث فى مجالات أخرى من آثار سلبية بفعل تحكم قوانين السوق فإن هذا لا ينبغى أن يحدث للمستديرة الممتعة، عشقنا الدائم...

وعليه، نشأت سلطة جماهيرية ضاغطة فى مواجهة سلطة القوة الاحتكارية باستثماراتها المليارية. حيث نشأت علاقة جوهرها الربح للطرفين. من جهة تكسب الجماهير المتعة. ومن جهة أخرى تستمر القوة الاحتكارية فى جنى المال شريطة أن تتطور اللعبة بكل عناصرها...بالطبع تتفاوت النتائج من مكان لمكان بحسب السياق المجتمعي.

وعليه تراجعت الكثير من قصص الاستغلال والبؤس والشقاء بحسب التى ذكرها جاليانو فى كتابه الذى كتبه مطلع التسعينيات وعرض فيه لتاريخ اللعبة وخاصة أبعاد تحولها من الهواية إلى الاحتراف...حيث لم تكن سلطة الجماهير العاشقة انتظمت ــ بعد ــ لتواجه السلطة الاحتكارية.

فما نعتبره سلبيا، وأقصد سطوة رأس المال الاحتكاري، وهو كذلك، نجده فى مجال كرة القدم وبفعل الحضور الجماهيرى الفاعل، بحثا عن رغبة فى متعة أكيدة ومضمونة، قد لعب دورا لافتا فى كشف الفساد فى مركز قيادة اللعبة. وفى نفس الوقت فرض قيمة وضرورة التجويد فى منظومة كرة القدم استجابة لرغبة الجماهير فى فرجة مثالية بدرجة أو أخري... لذا تقدر الإيرادات السنوية للدورى الإنجليزى بما يقرب من 5 مليارات جنيه استرلينى أى 125مليار جنيه مصري...كما تبلغ حقوق البث الكروى التى تدفعها قناة بلوس لرابطة المحترفين الفرنسية ما يزيد على المليار يورو. كما دفع البرازيل من تخصيص ما يقرب من الـ20 مليار دولار لكأس العالم التى نظمتها مقابل مليار لكاس العالم 1998...كل هذا من أجل تأمين المتعة لعشاق الكرة الذين من جانبهم يضغطون من أجل الحصول على أقصى متعة ممكنة... وفى المقابل إذا ما قصر العشاق فى حق محبوبتهم لن يحصلوا على شيء...

بهذا المعنى أصبحت كرة القدم أكثر من مرآة للواقع...إنها كما قال سارتر الحياة ذاتها، وتطورها البشرى الاجتماعى والاقتصادى..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern