«يعد ضبط النفس، كما يعرفه الفلاسفة، فضيلة نادرة ومحيرة. كما يعد أيضا فضيلة، تميل إلى التلاشى كلما أصبحنا أقوى. ويشبه ضبط النفس فى هذه الميزة تلك العلاقة بين الثقة والنجاح: كلما زادت أواصر الثقة فيما بيننا، زاد نجاحنا الجماعى والفردى» ... ومن ثم يتحقق التقدم...شريطة ألا يدفعنا النجاح إلى الجشع فننسى ضبط النفس فنهزم من داخلنا ونتراجع عن نجاحنا...
فكرة وردت فى كتاب من كتب يانيس فاروفاكيس؛ الخبير المثقف(لا الخبير الموظف)، وزير مالية اليونان فى الفترة الحرجة من 27 يناير 2015 إلى 6 يوليو من نفس العام. وأظنه كان يتبعها بالتزام شديد عندما بدأ مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبى حول الأزمة الاقتصادية التى حلت ببلاده وجاءت به من خلال حركة سيريزا...الحركة التى تعبر عن جيل جديد وفكر «طازج» مغاير تماما لفكر مؤسسات وأحزاب الحرب العالمية الثانية الخانعة والتابعة والخاضعة.
أولا: ضبط النفس؛ فى مواجهة «وصفة نمطية» من التقشف الشديد الذى لا يستفيد منه إلا من كانوا سببا فى الأزمة المالية. وهنا المفارقة التى تحتاج إلى «ضبط النفس» من أجل عبور آمن من مرحلة الضغوط الأولى التى يمارسها الطرف المفاوض: الاتحاد الأوروبى ولجانه مع اليونان. والتى يفاوض موظفوها فى إطار استراتيجية «حافة الهاوية». وتعنى هذه الاستراتيجية الضغط على اليونان من خلال التفاوض بأن أزمتها قد أوصلتها إلى حافة الهاوية. ما يعنى أنه لم يعد أمامها إلا أن تذعن للشروط المفروضة عليها أو تنزلق إلى الهاوية التى بلغت حافتها.
ثانيا: الثقة فى النفس؛ ليس بالمعنى الانشائى الأجوف، وإنما الثقة بالقدرة الذاتية على إمكانية التفكير فى استحداث وابتكار البدائل غير المُجحفة، وبلورتها فى صياغات عملية قابلة للتحقق. وقبل ذلك اكتساب ثقة المواطنين ودعمهم على رفض الخنوع للحلول الأوروبية الجارحة للذات الوطنية اليونانية وهو ما عبر عنه المواطنون اليونانيون فى رفض «التقشف» من خلال الاستفتاء الشعبى الذى أجرى ربيع 2015... ونشير هنا إلى أمرين هما: أولا: نوعية المفاوضات التى كشف عن طبيعتها فاروفاكيس فى كتابيه «الأزمة الأوروبية ومستقبل الاقتصاد الأمريكى (2016)» «كبار فى الغرفة: معركتى مع المؤسسة العميقة (الاقتصادية) الأوروبية والأمريكية(2017)». حيث كان فاروفاكيس يحمل دوما أفكارا من خارج الصندوق «كما يقولون»...ثانيا: من هذه الأفكار نذكر ــ بإيجاز ــ رؤيته لما أطلق عليه: التعافى المستدام.
التعافى المستدام يقوم على حزمة من الاصلاحات المتكاملة التى من شأنها أن تطلق العنان لإمكانات البلاد الكبيرة... فسبع سنوات من عملية تقليص الديون، والضغط المؤلم فى اتجاه تطبيق سياسات قاسية من أجل التقشف الأبدي، تسببت فى إهلاك الاستثمار الخاص والعام وأرغمت البنوك الهشة على التوقف عن الإقراض. ومع افتقار الحكومة إلى الحيز المالى اللازم، وإثقال كاهل البنوك اليونانية بقروض متعثرة، فمن الأهمية بمكان أن نعمل على تعبئة الأصول المتبقية لدى الدولة وتنشيط تدفق الائتمان المصرفى إلى الأجزاء الموفورة الصحة من القطاع الخاص. ولإعادة الاستثمار والائتمان إلى مستويات تتماشى مع سرعة الإفلات اللازمة لتمكين الاقتصاد اليوناني. وفى هذا المقام، يحتاج الاقتصاد اليونانى إلى نوعين من المؤسسات العامة الجديدة تعملان جنبا إلى جنب مع القطاع الخاص والمؤسسات الأوروبية: بنك للتنمية يوظف الأصول العامة التوظيف المثالي. وبنك للقروض يعمل على تمكين النظام المصرفى من الخروج تحت أنقاض أصولها المتعثرة واستعادة تدفق الائتمان إلى الشركات المربحة الموجهة للتصدير (راجع الاقتصاد والمعرفة فى عالم يتغير)... والنتيجة المتوقعة هى تطور النظم المالية والضريبية بالإضافة إلى نظام الضمان الاجتماعى بتوحيد صناديق التقاعد، وارتفاع المساهمات عقب ارتفاع مستويات تشغيل العمالة. والاستثمار فى استثمارات انتاجية مختارة مثل: الشركات البادئة، وشركات تكنولوجيا المعلومات بالعقول الوطنية، وشركات الزراعة العضوية الصغيرة والمتوسطة الحجم، والأدوية شريطة أن تكون مصدرة، والبرامج التعليمية التى تستفيد من الانتاج الفكرى اليونانى والمواقع التاريخية...ويكشف ضمنا عن الإعاقات التى يضعها أصحاب المصالح الضيقة، والبنوك المتساهلة...ولا يفوته أن يذكر أنه لا غنى عن الديمقراطية بما تحمله من قيم المحاسبة والشفافية والمساءلة لإنجاح البدائل الذاتية الوطنية المبدعة مقابل الوصفة النمطية القسرية المُجحفة.
فى هذا السياق يمكن أن يتحقق التعافى المستدام...
ثالثا: المثابرة؛ ويقصد بها أن حل المشكلة الاقتصادية اليونانية هى عملية مستمرة وممتدة وليست آنية قصيرة المدى. وعلينا جميعا، يقول فاروفاكيس، مساعدة هذا الضوء على التألق...
وتؤكد التقاريرالأوروبية انحسار الأزمة اليونانية وانبعاث النمو بزيادة الصادرات، وتنامى الاستثمارات(بنسبة 70% فى 2017). كما يوجد فائض فى الموازنة الأولية،...،إلخ، بحسب وزير الاقتصاد والتنمية مطلع هذا العام ديمترى باباديمتريو.(نلاحظ الربط بين الاقتصاد والتنمية)...
إنها ملحمة يونانية معاصرة بكل المعايير وجديرة بالدراسة المتأنية...
وإذا أردنا أن نرصد أهم ما فى تجربة يانيس فاروفاكيس نقول ما يلي: أولا: إنه يقدم نموذجا للخبير المثقف الذى ينجح فى المزج بنجاح بين الممارسة التكنوقراطية والمعرفة النظرية الاقتصادية والثقافة الموسوعية...ثانيا: تجديد الفكر الاقتصادى وتقديم اجتهادات اقتصادية مبدعة غير الحلول المدمرة لقلاع العولمة...ثالثا: إعلان حضور متميز لجيل من الاقتصاديين الجدد (الخبراء المثقفين)، ومبدع فكرا وممارسة...