«المينوتور»: الوحش الجشع

لا شئ يجعل منا بشرا حقيقيين مثل مواجهتنا للمعضلة. تلك الحالة من الحيرة الشديدة التى نجد أنفسنا فيها عندما تتحطم مسلماتنا، وتتحول إلى أشلاء، وعندما نرى أنفسنا فجأة أمام طريق مسدود، واقعين فى حيرة من أمرنا تجاه شرح ما يظهر أمام أعيننا، وما يمكن لأصابعنا أن تلمسه، وما يمكن لآذاننا أن تسمعه. فى تلك اللحظات النادرة؛ حيث يحاول عقلنا أن يستوعب بصعوبة ما تنقله إليه الحواس، تدفعنا هذه المعضلة إلى التواضع، وتجعل العقول الفذة قابلة لاستيعاب الحقائق التى لم تكن تطيقها من قبل. وعندما تلقى المعضلة بشباكها على القاصى والدانى لتوريط الإنسانية جمعاء، ندرك ـ حينها ـ أننا نعيش اليوم فى خضم إحدى اللحظات الفذة للغاية فى التاريخ. كان سبتمبر 2008 مجرد لحظة من تلك اللحظات التاريخية.

بهذه الكلمات، يبدأ «يانيس فاروفاكيس»، العالم والوزير اليوناني(الخبير المثقف)، كتابه: «المينوتور العالمي: أمريكا وأوروبا ومستقبل الاقتصاد العالمى» (2011)...كلمات تعكس أننا أمام رغبة صادقة من قبل كاتبها لكشف الأسباب الحقيقية لأزمة الرأسمالية العالمية المزمنة منذ الكساد العظيم الذى لحق بالعالم فى سنة 1929 من القرن الماضى وإلى يومنا هذا بعيدا عن التفسيرات النمطية أو التحليلات التى تعنى بالأعراض دون الجذور. وهو ما اجتهد فى تحقيقه «فاروفاكيس»، من خلال: أولا: ثقافة موسوعية تتجاوز التخصص الضيق. ثانيا: تقديم اجتهاد أصيل، تاريخى ومتعدد الزوايا، لتفسير أزمة الرأسمالية العالمية. ثالثا: محاولة اقتراح الحلول الناجعة «العادلة»...

بداية، وباعتباره سليلا للفلسفة اليونانية، يستعير «فاروفاكيس» إحدى الأساطير اليونانية القديمة ليصف «الجشع الرأسمالى» الذى أدى لأزمة 2008 الكارثية، بالمينوتور...وهو عبارة عن «مخلوق نصف بشرى ونصف ثور(يطلق عليه أحيانا ثور مينوس، من الكلمة اليونانية Taurus التى تعني: الثور). ولد فى ظروف معقدة، وبات يقتات على اللحم البشري. امتلكه الملك مينوس ملك كريت وأخذ يهدد به من حوله وخاصة اثينا والأثينيين. وتمتعت كريت فى عهد مينوس بالهيمنة الاقتصادية والسياسية فى منطقة بحر إيجه. وكان على التابعين ارسال المال لكريت بشكل منتظم بالإضافة إلى ارسال سبعة فتية وسبع فتيات كل فترة ليتغذى بها الوحش(المينوتور). ولكن ثيسيوس ابن الملك أيجيوس (الذى ينسب بحر إيجه إليه) ، ملك أثينا انتفض على هذا الوضع وقرر أن يقتل الوحش لتحرير أثينا من الهيمنة الكريتية.

تشير الأسطورة التى استعارها «فاروفاكيس» من التراث اليونانى إلى «القوة المهيمنة التى تتغذى على الأضحية ــ طواعية أو قسرا ــ التى يقدمها الآخرون». فلقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية دور الوحش «المينوتور» الذى يتغذى على السلع الواردة ورء وس الأموال. انها العلاقة التى عرفها العالم منذ الحرب العالمية الأولى وتنامت بعد الحرب العالمية الثانية والتى اعتمدت على «تدفق ثابت للضريبة الثقيلة من المحيط إلى المركز الرأسمالي. الضريبة الثقيلة التى حافظت على الدعم المتبادل فيما بين العجز الأمريكى المزدوج والطلب الكلى على فائض الدول من السلع والخدمات».

إذن، فإن التدفق المستمر من رأس المال العالمى إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى وول ستريت كان أقرب إلى «القرابين» التى على العالم أن يقدمها إلى الوحش القابع هناك. الوحش الجشع الذى لا يتوقف عن الالتهام...وأى تفسيرات أخرى من عينة «سوء السياسات التمويلية، والتنظيم غير الفعال للبنوك» هى أعراض لمرض عميق وليست من الأسباب الجذرية للأزمة الاقتصادية والعالمية.

لقد استطاع «المينوتور» أو الوحش الرأسمالى المركزى أن يلتهم أكثر من 70%من تدفقات رأس المال العالمية. خاصة فى الفترة من 2006 إلى 2008، أى حتى اندلاع الأزمة. ويقول المؤلف: «تحولت جبال النقود من جميع أنحاء العالم إلى وول ستريت، ومنها إلى الشركات الأمريكية وأصحاب المصالح على شكل أسهم وقروض».

ويؤصل «فاروفاكيس» تاريخيا لدور» القوة الجيوسياسية الصاعدة صعودا متناميا مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكيف تم تسخيرها «لاحتياجات» المينوتور/الوحش». لم يتوقف الأمر على الفوائض الدولية وإنما أيضا امتد إلى المطالبة بجرأة بالثروات الطبيعية وبخاصة المعدنية. وهو ما كشفت عنه «مذكرة دراسة الأمن القومى رقم 200» التى تم اعدادها زمن كيسنجر لضمان تدفق المال إليها «لتغذية المينوتور» دون توقف. وقد تم استخدام كل من آليتي: أولا: رفع وخفض اسعار النفط. وثانيا: التحكم، صعودا وهبوطا، فى سعر الفائدة الأمريكي. وذلك بهدف ضمان «التدفق المستمر» للأموال من شتى جهات العالم دون إعاقات. كما تم الاستفادة المثلى من «الإقراض» فى إضعاف كثير من دول العالم خاصة التى كانت تلعب دورا تحرريا مناهضا لمعسكر «الوحش». ومن هذه الدول: يوغوسلافيا، وبولندا، وبلغاريا، ورومانيا، وكثير من دول العالم الثالث التى اعتصمت بشعارى الحياد وعدم الانحياز اتقاءً «لشراهة الوحش»...

لقد اعتمد المركز الرأسمالي، ولمدى زمنى طويل، على تفعيل «المينوتور» لالتهام الفوائض المالية الدولية وإعادة توظيفها لحساب القلة الثروية الحاكمة»...أو ما أطلق عليه «فاروفاكيس»:آلية إعادة تدوير الفوائض العالمية(GSRM)...ولكن حدثت كارثة 2008...ويطرح «الخبير المثقف»: «فاروفاكيس»، الموهوب والمبدع بحسب جوزيف ستيجلتز الحاصل على نوبل للاقتصاد؛ رؤيته التى تفسر حقيقة الأزمة ووصفته للتعافى منها، أوروبيا ويونانيا،...فماذا جاء فيها...هذا ما نعرضه فى مقالنا القادم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern