منذ أقل من عامين، كتبنا عن كل من «الخبير المثقف» و«الخبير الموظف»... وميزنا بينهما... الخبير المثقف, يمارس تخصصه أو مسئوليته الإدارية وفق منهج مركب يتكون من ثلاثة عناصر هي:
أولا: التكوين المعرفى الواسع.
وثانيا: الرؤية الشاملة.
وثالثا: إدراك وفهم بطبيعة المجتمع وتفاعلاته وصراعاته...
أما الخبير الموظف؛ فلا يخرج ــ أبدا ــ عن تخصصه الضيق. قد يكون أسطى ماهرا فيما درسه. ولكن ليست لديه القدرة على الربط بين دراسته الفنية المتخصصة وبين السياق التاريخى والسياسى والمجتمعى الذى يمارس فيه عمله المهني...لذا تميز الأدبيات بين الطبيب الذى يصف الدواء لمريض «سوء التغذية» دون أن يعرف الأسباب التى أدت إليه. وبين الطبيب الذى يعنى بأخذ تاريخ المريض. ويعمل على اكتشاف الظروف الاجتماعية المحيطة بالمريض وأدت إلى اصابته بداء سوء التغذية. فربما يكون ذلك بسبب عادات غذائية غير سليمة، أو بسبب الفقر... إلخ. ومن ثم يعمل على إيجاد حلول لتغيير السياق المحيط بالإضافة إلى الدواء. ذلك لأن الدواء وحده سوف يعالج المريض علاجا آنيا بينما تغيير السياق سوف يقضى على المرض من جذوره.
فى هذا المقام، وجدت أن من أهم النماذج التى أثارت جدلا كبيرا فى العالم خلال الأعوام الأخيرة وزير المالية اليونانية يانيس فاروفاكيس. وقد تولى المسئولية فى ظل أخطار حقيقية تتهدد الاقتصاد اليوناني. فلقد جاء بعلمه و«خبرته» من باب السياسة والواقع الاجتماعي. فكان جل همه أن يوظف هذا «العلم» وهذه «الخبرة» من أجل مواجهة المشاكل الحادة التى تواجه الشعب اليوناني.
فلقد مثل مع الكسيس تسبيراس جيلا جديدا صاعدا. حملا، مع آخرين، مشروعا ثوريا: فكريا وعمليا(وصفناه مرة بيسار التحرر من رابطة العنق)، من أجل تغيير نمط الاقتصاد التاتشري/الريجانى أو اقتصاد السوق (الليبرالية الجديدة) الذى ساد العالم منذ عام 1979، من أجل اخراج اليونان من محنتها. شكلا حزب سيريزا الذى حظى بتأييد شعبى كبير تجاوز الاهتمام التقليدى لليسار التاريخى بالطبقتين العاملة والفلاحية إلى من هم دون ذلك. أو ما بات يعرف بالبريكاريات أو طبقة «المهمشين/المستبعدين/المنسيين/ الخطرة الجديدة/ البرية التى لا تصلها أى خدمات أو مرافق آدمية أو انسانية/الساقطون من المعادلة الاجتماعية/ من هم خارج الحسابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية» التى كان لنا سبق ادخالها للغة العربية مبكرا من خلال كتابات جى ستاندينج (الأهرام، يناير وفبراير 2016) الذى رصدها فى الحالة البريطانية بنسبة تتجاوز الـ 15%...
تولى فاروفاكيس، الذى ولد فى عام 1961، مهمته كوزير للمالية فى حكومة سيريزا مطلع 2015. ولم يكن بلغ الرابعة والخمسين من العمر. إلا أنه قدم نموذجا مثاليا للخبير المثقف، من حيث تمتعه بالمعرفة العلمية، والخبرة المهنية، والممارسة السياسية. قاد بلاده فى مفاوضات عسيرة مع الاتحاد الأوروبى كان له تأثيرها فى تعبئة اليونانيين سياسيا لرفض الشروط الأوروبية.(درس فى جامعة أثينا وفى عديد من الجامعات البريطانية مثل: إسكس، كِمبريدج، وجلاسجو. قام بالتدريس لمدة اثنى عشر عاما فى جامعة سيدنى بأستراليا. كما عمل مستشارا اقتصاديا فى شركة فالف كوربورشن للبرمجيات وهى شركة تنتمى لقطاع ما بات يُعرف (باقتصاد المعرفة)...
وضع لنفسه إطارا فكريا حاكما فى ادارته لماليات اليونان، يتكون من العناصر التالية: أولا: الدفاع المستميت عن مصالح الشرائح الوسطى والفقيرة والمهمشة والحفاظ على حقوقهم. ثانيا: حماية اليونان من تداعيات الكارثة المالية الأبرز فى مسيرة الاقتصاد العالمى من خلال آليات مرنة للتدخل من قبل الدولة. ثالثا: تفعيل مبدأ العدالة للجميع وتأمين فرص متكافئة لكل اليونانيين على اختلافهم.
كان واعيا أن تحسين الاقتصاد اليونانى لا يتوقف عند عمل إجراءات مالية ذات طبيعة مهنية وفنية محضة. فتمام التعافى لن يتأتى مالم يتم تطبيق إصلاحات متشابكة ــ فى آن واحد ــ لعدة قطاعات وبنهج متشابك فيما بينها. وهذه القطاعات هي: الاستثمار الانتاجى تحديدا، والائتمان، والمنافسة، والضمان الاجتماعي، والإدارة العامة، والمنظومة القانونية بعناصرها، وسوق العمل، والإبداع والانتاج الثقافي...وذلك فى إطار عملية ديمقراطية حقيقية يكون فيها المواطن حاضرا بفاعلية.
قدم «فاروفاكيس» نموذجا للخبير المثقف، المُبدع، المرن. الذى يوظف سعة اطلاعه وفهمه الدقيق لطبيعة الأزمة البنيوية التاريخية للرأسمالية العالمية. والمُتحرر من «الدوجما» أو الجمود الأيديولوجي. تسنده خبرة عملية كخبير اقتصادى فى إحدى المؤسسات الاقتصادية الحديثة...
ومن أهم ما يحرص عليه «فاروفاكيس» هو تدوينه لرؤيته حيال ما يجرى من مستجدات عالمية ومحلية، وما يتعرض له من خبرات سياسية. فقبل ان يتولى الوزارة ألف مرجعا مهما للغاية حول الأزمة الاقتصادية العالمية وجذورها التاريخية وأثرها المعاصر على العالم وعلى اليونان عام 2013 بعنوان: «المينوتور الكوني: أمريكا وأوروبا ومستقبل الاقتصاد العالمي». كاشفا ــ بلغة رفيعة المستوى وببساطة ــ فى آن واحد ــ عن عمق أزمة الرأسمالية الراهنة. وفور أن ترك الوزارة بعد يومين من نجاح الاستفتاء الشعبى اليونانى الداعم لموقف حزب سيريزا التفاوضى استقال وانكب على كتابة مجلدين(2016 و2017) كتبهما بأسلوب جمع بين كتابة المذكرات والكتابة الاقتصادية التحليلية لأزمة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ورؤيته المستقبلية... سوف نعرض أهم ما تضمناه من أفكار تباعا...