الفجوة الجيلية في روسيا: أسبابها ومستقبلها

خصصت دورية «شرق أوروبا جديدة»؛ التى تصدر عن بعض الجامعات البولندية وبدعم من وزارة الثقافة والتراث الوطنى فى بولندا، ملفا متميزا فى عددها قبل الأخير (عدد يناير ـــ فبراير 2018) عن أحوال الشباب...وجاء الملف تحت عنوان «الفجوة الجيلية المتنامية».

امتاز الملف بأنه تحرر من المعالجة النمطية للمسألة الشبابية من المنظور البيولوجى أو السيكولوجى الذى يعتمد مقاربة إشكاليات الشبابية بحسب سمات المرحلة العمرية وطبيعتها(الطفولة، الصبا، الفتوة، المراهقة، الشباب، الرجولة، الكهولة، الشيخوخة) دون الأخذ فى الاعتبار المستجدات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتكنولوجية التى أسهمت فى قلب المنطق القديم فى التحليل رأسا على عقب. فلم تعد السن وسماتها النفسية مسألة ميكانيكية فقط وإنما هى محصلة، أيضا، أولا: تفاعل مع المجتمع، وثانيا: وأثر ما يحمله هذا المجتمع من مستجدات.

وفى هذا المقام أتذكر مقولة الفيلسوف الفرنسى «بورديو» التى يرى فيها: «الحدود بين الأعمار أو الشرائح العُمرية حدودا اعتباطية، فنحن لا نعرف ــ بحسب قوله ــ أين ينتهى الشباب لتبدأ الشيخوخة، مثلما لا يمكننا أن نقدر أين ينتهى الفقر ليبدأ الثراء»...بلغة أخرى لم يعد مقبولا أن نصف مرحلة الشباب، متى تحدثنا عنها، بأنها تتسم بقيم النشاط، والفحولة، والعنف،...،إلخ. فى حين تبقى قيم الحكمة والرصانة من شيم الشيوخ. ومن ثم يتم توزيع الأدوار وفق هذا التوصيف «الميكانيكي» «الكلاسيكي». فالمستجدات المعرفية والمعلوماتية باتت تصنع لنا أجيالا شابة تتسم بالحكمة والبحث الدءوب أيضا.

فى هذا الإطار حاول الملف أن يرصد ما طرأ على شباب روسيا. فانطلق من جديد الواقع «الشرق أوروبي» وتحولاته الحادة. كما قدم شهادات وحالات شبابية متنوعة. خاصة أن ما شهدته روسيا وأوروبا الشرقية، منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفيتى كان كثيفا ومركبا.

ينطلق الملف من مجموعة أسئلة وذلك كما يلي: أولا: هل بعد التظاهرات التى جرت فى ميادين أوكرانيا، وأرمينيا، وروسيا، والحديث عن الفساد بكثافة فى روسيا 2017، بات الشباب أكثر راديكالية عن ما قبله من أجيال شابة؟ ما هى طبيعة الحياة الحديثة لشباب ما بعد الاتحاد السوفيتي؟ وما مدى قدرتهم ــ بالأخير ــ على بناء مجتمع ديمقراطى مدني؟

بداية، يقول أحد الباحثين: «فى روسيا، سوف تجد الجيل الأصغر من الشباب، باتوا أقرب إلى جماعة فرعية ذات طبيعة سياسية حساسة، خاصة منذ عام 2010. لم يعد يمكن أن نطلق عليهم فقط جيل فلاديمير بوتين، بل جيل «اليوتيوب». كما بات واضحا لدى الكرملين أن الشباب الروسى يمكنه أن يفعل ما فعله أقرانهم من الأوكرانيين فى «كييف». فالمراهقون أصبحوا يدركون أن بلوغهم النضج يعنى أن يكونوا أكثر ذكاء، ونشاطا فى السياسة. وهو ما تؤكده الأعداد المتزايدة من «المراهقين» ، الذين انخرطوا فى العمل السياسي. وتسجل دراسة أخرى كيف أن الحيوية السياسية التى شهدتها روسيا وجيرانها قد بلورت «وعيا» سياسيا متناميا لدى الفئات الأصغر من الشباب من جيل «اليوتيوب»، «وعيا» منحهم قدرا من الاستقلالية عن جيل الكبار. والأهم تبلور رؤى لديهم حول الأوضاع التى تحتاج منهم إلى مزيد من الانخراط فى لب العملية السياسية. وهى حالة يمكن وصفها بما يلي:»بالتسييس من خلال الممارسة العملية الميدانية». وهو ما تأكد فى أكثر من موضوع بأن الشباب الروسى فى حالة تسييس».

وفى تفسير ما سبق، يقول أحد الباحثين إن هؤلاء الشباب والصغار منهم يدركون «أن منهم من سيدخل الجامعة، ومنهم من سيدخل سوق العمل...ومن ثم سوف يواجهون العديد من الحقائق»...ويشير أكثر من مقال إلى أهمية عنصر الفساد فى تأجيج التحالفات الشبابية المضادة له. كذلك الحديث عن أن توزيع الثروة العامة للبلاد غير مُنصف أو عادل، وغيرها من القضايا الحياتية.

وبعد، لقد بات السؤال الحاكم للكثير من النقاشات هو كيفية تمكين الشباب لكى يكونوا عناصر للتحول السلمى والمدنى نحو مستقبل افضل...يطرح البعض ضرورة مراعاة أن الشباب ليسوا كتلة جيلية صماء. ففى داخلهم تنوع اجتماعى يُشكل توجهاتهم. فالتنوع حالة جوهرية كامنة فى تركيبة جيل الشباب.

وعليه لا ينبغى اقتصار التعاطى مع الجيل من منظور أنهم شباب وإنما من منظور أن لهم احتياجات اجتماعية واقتصادية لابد من تلبيتها. خاصة أن هؤلاء الشباب ولدوا فى التسعينيات. فهم جيل «البريسترويكا والجلاسنوست» (البناء والمكاشفة). والقبول بأنهم لا يمتون بصلة لمرحلة الدولة السوفيتية «الستالينية» وما بعدها.

وعليه لا يمكن التعاطى مع ملايين من الشباب يمثلون المستقبل بمعايير «ماضوية» كانت محل جدل طوال الوقت. نعم لها إنجازاتها ولكن يقينا كان لها اخفاقاتها. فمن غير المعقول استدعاء نماذج من الفترة السوفيتية كى يقتدى بها الشباب اليوم. إنها قضية مثار صراع معقد وكبير فى روسيا اليوم، خاصة مع محاولة انجاز منهج تاريخ «سلطوي» الطابع(يمجد ستالين بالمطلق ويبرر ما هو قائم)، مقابل تاريخ يراه الشباب قابلا للنقد والحوار والمراجعة والفرز. وهى رؤية مع رؤى أخرى جديرة بأن يحصل الشباب على فرصتهم من أجل طرحها مع أطروحات أخرى لضمان تحول ديمقراطى هادئ لدولة كبيرة وقوة عظمى عريقة متجددة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern