الديمقراطية الأمريكية: من نشوة الانتصار إلى سؤال الاحتضار

طرحت دورية «فورين أفيرز» الأمريكية الشهيرة منذ أيام(عدد مايو/يونيو ــ 2018)، التى تصدر عن مجلس الشئون الخارجية الأمريكى أحد أهم مراكز التفكير الأمريكية ــ سؤالا مفاجئا بل ربما مباغت، هو: هل تحتضر الديمقراطية؟.

ويعد السؤال فى ذاته، مشروعا وضروريا فى ظل ما تتعرض له البنية الديمقراطية سواء فى الداخل الأمريكى من جهة. أو الخارج الأوروبى وباقى دول العالم من تحولات وتغيرات مركبة وظواهر جديدة، بدرجات متفاوتة، من جهة أخرى. وقد حاولت فورين أفيرز الإجابة عن هذا السؤال من خلال إجابات خمس تصدت الدورية لنشرها لكوكبة من المتخصصين المعروفين فى الفكر الاستراتيجى الأمريكى لفهم وتفسير حالة الاحتضار التى طالت الديمقراطية فى الولايات المتحدة الأمريكية والعالم فى الآونة الأخيرة من خلال مقاربات تاريخية ونظرية وسياسية. وقبل أن نلقى الضوء على أهم ما جاء فى هذه الإجابات نشير إلى أن هذه الدورية شأنها شأن دورية «أمريكان انترست» وغيرها قد احتفت بنشوة انتصار النموذج الأمريكى للديمقراطية فى التسعينيات وما بعدها من خلال الاستراتيجى الأمريكى ــ الهندى الأصل فريد زكريا، وهانتينجتون، وفوكوياما، وغيرهم...والآن، وعن سؤال احتضار الديمقراطية؛ تُجيب دورية فورين أفيرز بما يلى:

أولا: إن ما وصلت إليه أوضاع الديمقراطية من ارتباك يعود إلى التحول الكبير الذى يمر به المجتمع الأمريكى فى الانتقال من زمن الثورة الصناعية إلى عصر ثورة المعلومات. إنما يُعطل النظام الاجتماعى والاقتصادى برمته. فما كان ينفذ من أفكار وسياسات وتعودت عليه أجيال كاملة زمن الثورة الصناعية وكان ملائما فى حينه. بات غير ملائم فى عصر ثورة المعلومات.

ثانيا: نتج عما سبق، ضعف النخبة السياسية والثقافية عن إدارة الأوضاع المُستجدة. ما ترتب عليه تنامى التحركات القاعدية الشعبية(التى يصفها أحد الباحثين بالحركة الشعبوية). وبالأخير، تزايدت الفجوة بين النخبة والقاعدة الشعبية. ذلك لأن صورة هذه النخبة ــ أمام الجموع الشعبية ــ بدت عاجزة عن تطوير نفسها. ومتوحدة بنموذج قديم غير صالح للزمن الجديد...على الجانب الآخر، تسعى الحركة الشعبوية على أن تحل محل هذه النخبة التى تراها قديمة وعاجزة. إلا أنها لا تملك ــ فى نفس الوقت ــ الإجابات اللازمة للتعاطى مع المستجدات. وهنا تحديدا تتجلى أزمة الديمقراطية عامة وتجليها الأمريكى خاصة. وذلك فى عدم قدرتها على مواجهة أزمة التحول الكبير. ومن ثم التحلل وعدم القدرة على التجدد.

ثالثا: وقد واكب هذه الأزمة الحادة مرور العالم بما وصفه باحث آخر فى الدورية بعصر يتسم بعدم الأمان والاستقرار. ومن ثم ــ أيضا ــ إلى أى مدى يمكن للديمقراطية أن تنقذ نفسها وبالتالى المواطنون من أهم ما يتسم به هذا العصر من ملامح عدم الاستقرار والتى تتمثل فى: اللامساواة المتنامية بين الفقراء والأغنياء حتى فى الدول الغربية الأكثر ثراء. والتهديدات المتزايدة التى تتهدد البشرية بسبب إحلال الآلة محل البشر فى ظل ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة. وترهل المؤسسات الحديثة وعدم قدرتها على تلبية حقوق المواطنة بحسب وعودها التاريخية. وهى كلها عوامل أدت إلى عدم الأمان وخلخلت البنية الديمقراطية التاريخية ما أدى إلى سلوكيات تصويتية وتحالفات غير مألوفة. هذا بالإضافة إلى اشتعال موجات العنف المجتمعى مجددا. وانطلاق موجات إرهابية عولمية الطابع متعدية الحدود.

رابعا: ويصف أحد مقدمى الإجابات عن سؤال الاحتضار، بأننا نشهد نهاية قرن الديمقراطية من جانب. وفى المقابل صعود «الاوتوقراطية العالمية»، متمثلة فى حالتى الصين وروسيا. واللتين نجحتا فى التمدد والتوسع عالميا واستخدام نوع من القوة الناعمة فى بعض الأحيان والقوة الحادة فى أحيان أخرى. (وكنا قد أشرنا لتجربتى التمدد الصينى والتوسع الروسى فى سلسلة مقالات سابقة كذلك لمفهوم القوة الحادة الذى تمارسه الصين مستبقة أى تحرك مضى لمصالحها). ورغم تأكيد أحد الباحثين التمييز بين القوى الأوتوقراطية الجديدة الصاعدة وبين القوة الفاشية التاريخية من حيث إنها اقل عنفا وعدوانية. وتحاول أن تقدم نموذجا فى الإنجاز الاقتصادى دونما الحاجة إلى ممارسة تامة للعملية الديمقراطية.

خامسا: ولكن الأوتوقراطية الصاعدة تصاحبها تحركات شعبوية تتجاوز الحزبية التقليدية. تحركات تنفى عنها إجابات الفورين أفيرز ما تتهمه به بعض التحليلات بأنها فاشية. فهذه التحركات بالرغم من أنها لا توافق بالكلية على الأوتوقراطية إلا أن السياق يجعلها تصطف معها. ذلك لأنها تعكس حالة من حالات رفض مؤسسات وأفكار وسياسات ما بعد الحرب الثانية التى أدت إلى اللامساواة على عديد الأصعدة، وفتحت الباب لتدفقات الهجرة المكروهة، وإلى عمليات إرهابية واسعة.

وعلى الرغم من أهمية ما تضمنه الملف حول سؤال احتضار الديمقراطية؛ من أفكار، وتحليلات. إلا أنه لم يتطرق إلى أزمة الرأسمالية العالمية. الأزمة الحاضرة بقوة منذ 2008 وإلى الآن. وكيف أن هناك مقاربات أخرى تشير إلى أن المستفيدين منها من المحتكرين والماليين والذين يصرون على الاستمرار فى نفس النهج الاقتصادى هم الذين من مصلحتهم التقليل من الديمقراطية كقيمة وكممارسة تمكن المواطنين من مراجعتهم ومساءلتهم ومحاسبتهم. وأن الديمقراطية لا تزال قيمة عليا حاكمة للتطور الإنسانى وستظل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern