«التوسع الروسى القيصرى».. وحلم الانتصارات المشرفة(2)

كان فلاديمير بوتين، منذ اليوم لقيادة روسيا، عازما أن يؤسس «لإمبراطورية جديدة»، ليست هى الإمبراطورية القيصرية التاريخية ولا السوفيتية...وإنما «إمبراطورية قومية» ذات مقومات حضارية ثلاث: العرقية السلافية، والوطنية الروسية والدينية الأرثوذكسية...مدركا الدرس التاريخى المتوارث أنه لا معنى لروسيا بدون إمبراطورية...

فى هذا المقام اعتمد خطة مركبة على المستويين الداخلى والخارجى قوامها ما يلى:

أولا: على المستوى الداخلى تتكون من عنصرين هما: الأول: «منع انهيار» روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى. الثانى: الانطلاق من أفضل ما بلغه الاتحاد السوفيتى من تقدم وتطويره ليواكب المعايير العالمية، خاصة التكنولوجية، والمعلوماتية وتطبيقاتها المتنوعة فى العديد من المجالات. كذلك استثمار ما لدى روسيا من موارد طبيعية، خاصة فى مجالى النفط والغاز ليس فقط فى مجال تسويقه، وإنما ــ أيضا ــ من خلال إقامة مشاريع ضخمة لاستغلاله داخل وخارج روسيا. وهو ما يتطلب إعداد المسرح الخارجى لتمكين روسيا من توسعها خارج الحدود. ما يدعم فى المحصلة المشروع التنموى الروسى.

وثانيا على المستوى الخارجى فقد عمل على أمرين هما: الأول «الدفاع بضراوة عن الحدود الروسية» والتى فى رؤيته تتجاوز حدود «روسيا» إلى روسيا الكبيرة: «الأوراسية»؛ الممتدة مع جيرانها الحدودية إلى كل من أوروبا وآسيا. ومنهما إلى باقى قارات العالم. انطلاقا من قاعدة جيو- سياسية متواترة فى كتب الاستراتيجية تفيد بأن: «من يسيطر على روسيا يسيطر على أوراسيا» (أوروبا وآسيا). وهو ما تجلى فى تدخلاته الحاسمة فى كل من الشيشان وجورجيا وأوكرانيا والقرم لتأكيد أن هذه الدول وإن كانت قد نالت استقلالها بعد «تفكيك» الاتحاد السوفيتى إلا أنها تدخل ضمن نطاق روسيا الجديدة : «الإمبراطورية الأوراسية الجديدة»؛ وذلك لتأمين مسارات أو «مطلات» مائية مثل حالة « سيفاستوبول» بالقرم على البحر الأسود. أما الأمر الثانى فيمكن أن نطلق عليه «النفوذ العابر للقارات»...ومن هنا وجدت ما يمكن أن نُطلق عليه «استراتيجية البحرين». أى «البحر الأسود» و«البحر الأبيض».

حيث تعتبرهما القيصرية الروسية البازغة مناطق نفوذ روسية لا يمكن التخلى عنهما. فالسيطرة عليهما تؤمن حماية المصالح الروسية الراهنة، والتى تتمثل فى أنابيب طاقة تعبر هذه المياه إلى جهات عدة عبر قارية. وفى هذا المقام تعتبر روسيا هذه المنطقة هى «مجالها الحيوى» الذى لا ينبغى لأى قوة أن تعبث فيه. وهو أمر يشبه إلى حد كبير ما أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1821 بما عُرف ــ آنذاك ــ «بمبدأ مونرو» الذى كان يعتبر دول أمريكا اللاتينية الفناء الخلفى لها.

وفى هذا المقام، ينبغى الاطلاع على ما ورد فى نص العقيدة العسكرية البحرية الجديدة التى صدق عليها الرئيس بوتين فى 26 يوليو 2015. حيث أكدت ضمان وجود عسكرى بحرى «دائم» لروسيا فى البحر المتوسط، وتعزيز المواقع الاستراتيجية لروسيا فى البحر الأسود، رداً على تحرّكات الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسى فى البحر الأسود، على خلفية الأزمة الأوكرانية...ولعل ما سبق يفسر بعض الشيء ما يحدث فى سوريا.

ويضاف إلى ما سبق ــ كما شرحنا فى مقالنا السابق ــ هو تأكيد الحضور الروسى فى المنظومة الكونية. وأنه لم يعد هناك مجال لعالم أحادى القطبية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. فالعالم الجديد ــ بحسب الرؤية البوتينية ــ عالم متعدد الأقطاب. وهى رؤية نجحت فى استقطاب الكثير من دول آسيا والأهم بعض دول أوروبا التى اتسعت المسافات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية «الترامبية».

ولعل خطاب بوتين عشية إطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية ــ نهاية فبراير الماضى أمام الدوما الروسى تؤكد رؤية القيصر الروسى بوتين التى حاولنا أن نوجزها فى السطور السابقة. فلقد أعلن بوتين بداية: أنه تم تطوير صاروخ جديد عابر للقارات ولا يقاوم. كما توالت التقارير حول تعاظم نفوذ روسيا فى القارة الإفريقية خاصة فى شمالها فى مجالات التسليح، والسياحة، والتبادل التجارى السلعى. كما صدر تقرير فى نفس الفترة حول تصاعد النفوذ الروسى فى أسواق القمح بالشرق الأوسط حيث تُصدر ربع ما تنتجه تقريبا ــ إليها. (تنتج روسيا محليا ما يقرب من 80 مليون طن). بالإضافة، بالطبع، إلى المشروعات العملاقة مثل أنابيب الغاز عبر اليونان إلى أوروبا. والتعاون الاقتصادى الهائل عبر التحالفات الاقتصادية مثل رابطة «الآسيان» لدول جنوب شرق آسيا التى بلغ حجم التجارة الخارجية الروسية معها ما يقرب من مليارى دولار تحظى فيتنام بأكثر من ثلثى هذا الرقم. هذا بخلاف التعاون الثنائى مثل ما تم مع ماليزيا.

وعمليات التنقيب عن الغاز والنفط وتسويقهما عبر شركاتها لصالح كثير من الدول... والمحصلة أن وعد بوتين الروس فى الداخل بأن عدد من يعيشون تحت خط الفقر سوف يهبط إلى النصف فى المدى القصير الذى سيحمل للإمبراطورية الروسية «الانتصارات المُشرفة»: «البوتينية الجديدة». ويبقى السؤال هل «نخبة القياصرة الجدد» قادرة على مضاعفة النجاحات. وأن توسع من قاعدتها الاجتماعية لتشمل طبقات جديدة غير الرأسمالية المهيمنة، وشرائح نوعية مثل الشباب...هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة، ومدى ما يتحقق من حلم الانتصارات المشرفة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern