«أكبر كارثة جيوسياسية حصلت فى القرن العشرين هى انهيار الاتحاد السوفيتي، من لم يحزن على انهيار الاتحاد السوفيتي، لا قلب له. ومن يريد إعادته بهيئته السابقة، لاعقل له».
تعكس هذه العبارة التى جاءت على لسان الرئيس فلاديمير بوتين رؤيته لما جرى للاتحاد السوفيتى الذى انتهى رسميا فى 26 يناير 1991 بتسلم الرئيس بوريس يلتسين مقاليد الحكم وتوقيع رؤساء الجمهوريات السوفياتية على وثيقة حل الاتحاد السوفيتي. ولكن هذا الإقرار بنهاية الحقبة السوفيتية لم يعن الانكماش أو الكمون وإنما إعادة ترتيب الأوضاع داخليا وخارجيا فى آن واحد ومن ثم الانطلاق مجددا. أخذا فى الاعتبار أنه: لا معنى «لروسيا دون إمبراطورية».
فلقد عرفت روسيا الامبراطورية القيصرية ثم الشيوعية. ويُحتم حاصل جمع الجغرافيا والتاريخ وضرورات السياسة والاقتصاد أن تستعيد روسيا حضورها الكوني.
هذا هو المشروع الذى حمله بوتين منذ تولى المسئولية فى العام 2000 إلى أن تم التجديد له لولاية رئاسية رابعة مارس الماضي... وكان السؤال ــ آنذاك ــ هو كيف سيكون الإطار الذى تعود به روسيا الجديدة إلى العالم؟... وكانت الإجابة هى إحياء الإمبراطورية. فما من سبيل إلا أن تستمر روسيا فى رسالتها الإمبراطورية ذلك لأنها: أولا: أكبر من أن تخضع لفكرة الدولة ــ الأمة. وثانيا: لأن هذا هو السبيل لتقدمها ونهضتها. وعليه لابد من «تعظيم مزايا الجغرافيا والسياسة والحضارة»... كيف جرى ذلك؟.
انطلق بوتين من تحديد هوية الإمبراطورية الجديدة بقوله: «روسيا دولة أوراسية»؛ أى أوروبية آسيوية... ويتفق كثير من الأدبيات العديدة التى صدرت فى السنوات الخمس الأخيرة بعضها ناقد لبوتين مثل كتاب «رجل بلا وجه» (2013). أو تحاول فهم ما يجرى فى روسيا الجديدة مثل: «البوتينية» لوولتر لاكوير(2016) و«القيصر الجديد» لستيفين لى مايرز(2015)،...،إلخ، على أن التجربة الروسية الراهنة مهندسها هو بوتين ويمكن أن نطلق عليها التجربة البوتينية. وإنها تشهد مولد قيصر روسى جديد يقوم بإحياء الإمبراطورية الروسية التى تقوم على ثلاثية: العرقية السلافية والوطنية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية.
وهى ما يمكن أن نطلق عليها الإمبراطورية البوتينية.(ليست القيصرية التاريخية القديمة ولا السوفيتية التى تفككت)...
وقد سارت هذه التجربة فى ثلاث مراحل كما يلي: أولا: مرحلة إعادة البناء أو ما أطلق عليه عقيدة استعادة الدولة (2000 ، 2004)، ومنع تداعيات التفكيك السوفيتى من: فوضى حكومية، وتفسخ اجتماعي، وانهيار اقتصادي، وتبعية جيوستراتيجية للغرب. ثانيا: مرحلة بناء القوة العسكرية العابرة للقارات أو ما عُرف بعقيدة فرض الاحترام ( 2005 ، 2009)، من خلال بناء قدرات عسكرية دفاعية وهجومية استراتيجية متقدمة تقنيا. ومن ثم منع أى تدخلات أو التهميش على السواء. ثالثا: مرحلة تأكيد المكانة العالمية لروسيا الاتحادية أو ما سُمى عقيدة فرض التوازن الاستراتيجى (2010 ، 2015)، بامتلاك جسارة الإعلان على توجيه ضربات نووية استباقية إذا لزم الأمر.(لمزيد من التفاصيل نشير إلى روسيا الأوراسية زمن الرئيس بوتين).
تحركت روسيا الجديدة وفق رؤية تتضمن تسعة عناصر حاكمة هي: أولا: الإصلاح الداخلى الذى يضمن انطلاقا إقليميا ودوليا ناجحا. ثانيا: استمرار روسيا الاتحادية كقوة نووية عظمى وتطوير قدراتها العلمية والتكنولوجية. ثالثا: الحضور الروسى العالمى فى إطار عالم متعدد الأقطاب. وعدم السماح بالخضوع لهيمنة قوة عظمى واحدة. رابعا: الاستعادة التدريجية لدور روسيا الاتحادية فى كل من آسيا والشرق الأوسط. خامسا: مقاومة أى تجرؤ على روسيا الجديدة بحسم. سادسا: التخلص التدريجى للحرب الباردة وما نجم عنها من نتائج. ورفض الأحادية القطبية تحت أى ظرف. سابعا: المواجهة العسكرية الحاسمة والفورية لأى توسع لحلف الأطلسى شرقا باتجاه حدود روسيا الاتحادية. ثامنا: التعاون المرن مع كل دول العالم دون تمييز شريطة أن يدعم هذا التعاون المصالح الوطنية العليا لروسيا القادمة «الإمبراطورية». تاسعا: بلورة محاور تعاون قارية مثل: الصين والهند واليابان فى آسيا. والبرازيل فى أمريكا اللاتينية. وجنوب إفريقيا فى القارة الإفريقية. وألمانيا وفرنسا فى أوروبا. وذلك من خلال التعاون الثنائى أو من خلال الروابط والمنظمات.
وتشير نقاشات منتدى فالداى الروسي(تأسس فى عام 2004 ويشبه منتدى دافوس بحضور كوكبة سياسية واستراتيجية واقتصادية وأكاديمية روسية وغربية) فى دورته الـ 14 التى عقدت العام الماضى إلي: استعادة روسيا مكانتها الدولية مسلحة بالعديد من عناصر القوة. كما ترصد كثير من الدراسات أن الحضور الروسى بات مؤثرا وفاعلا ولا يمكن تجاهله فى الكثير من المواضع والمجالات.
وتؤكد الخطابات المتعاقبة لبوتين، عبر الفترة الزمنية من 2000 إلى 2018، على أن يعى تماما ما يفعله حيث تعكس النصوص مبادئ بوتين المتعددة التى اعتمدها من أجل حلم بناء الإمبراطورية الروسية، خاصة تلك الخطابات التى كانت تتلى فى المحافل الدولية والإقليمية البارزة مثل: مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية، ومؤتمرات رؤساء البريكس، وقمم شنجهاى للتعاون،...،إلخ.
وهكذا صعد نجم القيصر الروسى الجديد ــ بحسب الدوائر الأكاديمية والإعلامية الغربية ــ كما تنامت هيمنته إقليميا، وقدراته العابرة للقارات نحو تأسيس الإمبراطورية البوتينية...ويظل هناك الكثير من الأسئلة التى تحتاج إلى إجابات حول مستقبل هذا التوسع...