من نحن؟

ينتمي سؤال «من نحن» إلى فئة الأسئلة التي نظن أننا أجبنا عليها. ومن ثم أي استعادة للسؤال، تبدو عند البعض، نوعا من الحوارات النخبوية «البيزنطية». إلا أن سؤال من نحن؟ على بساطته المفرطة حيث يتكون من كلمتين وخمسة أحرف فقط لا غير، فإنه سؤال مركب متعدد الاتجاهات وإجابته الصحيحة تضمن الاستمرارية الحضارية الفاعلة... لذا يكون دائم الحضور في الذهن الجمعي للمجتمعات الحية...

إنه سؤال الهوية، والتاريخ، والجغرافيا، والحضارة. تتبلور إجابته وفق محصلة الأرض وطبيعتها ومقوماتها، وحركة المواطنين النضالية والمبدعة والمتجانسة على هذه الأرض من أجل التقدم، وديمومة قدرتهم على إبقاء روح الوطن والشعب حية ومتقدة.

وبقدر ما تكون الحصيلة المعرفية والعملية لما سبق حاضرة في ذهن ووجدان كل مواطن بقدر ما تكون الإجابة عن سؤال من نحن؟ واضحة دون لبس، أو ارتباك، أو جهل...ومن ثم أمننا القومي ومصالحنا العليا، وتماسكنا الوطني والمجتمعي، وعلاقتنا بالآخرين ــ على اختلافهم ــ عبر دوائر الحركة المختلفة: داخليا وخارجيا على مستوى الإقليم والعالم.

ويبدو لي أن الإجابة عن سؤال من نحن؟ قد تاهت ــ لسبب أو لآخر ــ عن بالنا. لذا تحل بنا أحداث كاشفة عن تقصيرنا في غياب/تغييب إدراك من نحن؟...فعندما أثير تغيير اسم أحد شوارع القاهرة: شارع سليم الأول. وجدنا ردة الفعل اقل بكثير من أهمية القضية التي تصب مباشرة في إشكالية: «من نحن». فالأمر أعقد بكثير من مجرد تغيير اسم شخص بآخر...فالأمر يتعلق كيف نرى تاريخنا، وأي تقسيم نتتبعه في دراسة التاريخ، وكيف سمحنا للمغالطات والتحيزات السياسية بأن نقبل بما لا يمكن قبوله؟ وما هي معايير تقييم الشخصيات التاريخية، ومن الذي يستحق التكريم؟ ومن الذي يجب حرمانه من تكريم المصريين لما تعرضوا له من معاناة اقتصادية وسياسية واجتماعية في عهده.

في هذا المقام، أذكر أنه منذ ثلاث سنوات أو أكثر، كتبت عدة مقالات حول مناهج التاريخ المصري وقتئذ ــ في جريدة الأهرام (13و20 مايو و3و10 يونيو 2014) ــ وذكرت مثالين حول تكريم الحكام الوافدين المستعمرين الأجانب الذين حكموا مصر عنوة هما: أولا: أغسطس قيصر. وسبب التكريم ــ بحسب ما ذكر في منهج الصف الخامس آنذاك ــ هو «القضاء على ثورات المصريين في بداية حكمه». بدلا من الاحتفاء بثورات المصريين ضد أغسطس قيصر الذي تقول كتب التاريخ إنه لم زيدع هو وجنوده وسيلة إلا ابتكروها لاستغلال موارد البلاد إلى أقصى حد ممكن.(راجع كتابنا: الحماية والعقاب). ثانيا: تكريم دقلديانوس في منهج السنة الرابعة الابتدائية ــ على ما أذكر وقتئذ ــ. وهو الحاكم الوثني الذي يعد نموذجا تاريخيا مرجعيا لكيفية إيذاء المخالفين بالقتل الجماعي. مما دفع بالمصريين إلى أن يكرموا هؤلاء القتلى باعتبارهم شهداءً. وعليه وضع التقويم القبطي عام 284 ميلادية الذي عرف «بتقويم الشهداء». والمفارقة أن منهج التاريخ يبرر التكريم بأن دقلديانوس «نجح في القضاء على ثورة المصريين في الإسكندرية».(يمكن مراجعة غربال، العبادي، وبل، وطاهر عبد الحكيم،...).

بنفس القياس، أشرت في دراسة عنوانها: «منهج التاريخ: أمن قومى»؛ كيف يتم الاحتفاء «بالمأمون» الذي جاء على رأس جيش لقمع المصريين: أقباطا، ومسلمين، وعربا كانوا يقيمون بمصر، فيما عرف بثورة «البشامرة» التي انتفض فيها المصريون ــ دون تمييز ـ ضد الظلم والقهر والاستعمار الذي لم يميز بين المصريين. (راجع المقريزي، ونعمات أحمد فؤاد، ووليم سليمان قلادة، وأحمد صادق سعد، وحسين نصار، سمير مرقس)...

والسؤال الذي يفرض نفسه هل يمكن أن نصل إلى إجابة صحيحة لسؤال: من نحن؟: «البسيط الصعب» إذا كانت ذاكرتنا هي ذاكرة تمجيد المُستعمر على نجاحه في القضاء على ثورات المصريين ضده. هذه الثورات هي المنجم الذي يتضمن أحجار مصر الكريمة البشرية التي أسهمت بتعبير محمد شفيق غربال في «الاستمرارية الحضارية» لمصر.

وبالعودة إلى قضية رفع اسم سليم الأول من على أحد شوارع القاهرة (يقع بالمنطقة الشمالية من محافظة القاهرة التي تشرفت بقيادتها نائبا للمحافظ في فترة حرجة جدا ومثيرة من تاريخ مصر من أغسطس 2011 إلى أغسطس 2012). فإن ما لفت أنتباهي أن ردود الفعل حول القرار قد اتسمت بما يلي: أولا: تعاطي الأغلبية مع القرار باعتباره قرارا إداريا محضا. على طريقة «أحمد زي الحاج أحمد». بالرغم من دلالته الرمزية الوطنية لفترة شهدت حالة من التدهور المستمر في مصر. كما شهدت ارهاصات الوعي بالاستقلال الوطني. ثانيا: الحوار الذي دار بين القلة عكس انقساما وتراوحا حول القرار. انقساما يعبر عن أن هناك من بيننا من يعتبرون «العثمانية مرجعية لمصر». وأننا جزء من التاريخ العثماني...مما يعني بوضوح شديد أن بعضا من مواطنينا «غرباء عن تاريخهم»؛ لسبب أو لآخر. والبعض الآخر مغرم بالاحتفاء بالحكام الوافدين المستعمرين على حساب نضالات المصريين الذين صارعوا من أجل مسار مستقل عن مسار الباب العالي: سياسيا، وقانونيا، وثقافيا،... وهي قصة ــ لابد من أن نفخر بها ــ نرويها في مقالنا القادم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern