«الصفقة الجديدة الجديدة»

الصفقة الجديدة؛ هى السياسة التى اتبعها الرئيس الاستثنائى «فرانكلين روزفلت»(رئيس أمريكا من 1933 ـ 1945)عقب الأزمة الاقتصادية الأبرز فى القرن العشرين والتى بموجبها حاول حصار الآثار السلبية للأزمة والتى طالت بالأساس: العمال، والمزارعين، وصغار الموظفين، والجماعات العرقية. وذلك بمنحهم ضمانات اجتماعية غير مسبوقة فى الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد كانت «الصفقة الجديدة» بمثابة تأسيس لشرعية جديدة بين السلطة الرأسمالية التاريخية وبين مواطنيها، وبخاصة، الذين ينتمون للشرائح الوسطى والصغرى من الجسم الاجتماعى. وقد أشرنا الأسبوع الماضى كيف أفسد هذه السياسة أصحاب المصالح أو الأقلية الثروية للرأسمالية الاحتكارية الأمريكية من خلال إجراءين هما: أولا: تشويه روزفلت بنعته «بالرئيس الأحمر». ثانيا: حصار القوى التقدمية اليسارية البازغة فى سياق السياسات الاجتماعية «الحكومية» من خلال تهمة «المكارثية»؛ التى تسم من يدين بالأفكار اليسارية بالخيانة.(حملة قادها النائب الجمهورى جوزيف مكارثى، 1908 ــ 1957، مطلع الخمسينيات، وكان من ضحاياها العديد من المثقفين والمبدعين والفنانين وهو نفس ما جرى مع الحزب الاشتراكى الذى تأسس فى 1905 وتم تجميده عقب الحرب العالمية الأولي).

ولكن مع تنامى الأزمات الاجتماعية مطلع الستينيات، بدأت تتبلور موجة جديدة من الحركات المدنية التى عملت على بلورة مواقف مجتمعية تدافع عن حقوق المهمشين والمُضطهدين. وهى التى عُرفت «بحركة الستينيات المدنية».

ومن ضمن ما عملت عليه نشير إلى: أولا: تبنى قضية مواجهة التمييز العنصرى. وكشف إلى أى مدى وصل السلوك التمييزى فى أمريكا تجاه الملونين. ثانيا: استيعاب الطاقة الشبابية الاحتجاجية البازغة التى ترفض الكثير من السياسات الحكومية ــ آنذاك ــ ومن أبرزها تورط الإدارة الأمريكية فى حرب فيتنام وما ترتب عليها من إخفاق وتورط جنونى فى الانفاق. وهو ما حاول أن يعالجه جونسون، الذى خلف جون كيندى بعد اغتياله فى 1964،من خلال ما أطلق عليه «المجتمع الكبير». وهو المشروع الذى لم يتسن لجونسون أن يطبقه.

ويبدو لى أن الحركة المدنية كانت قد وعت درس أن السياسات السلطوية الإصلاحية إن لم تأت من «أسفل» أو القاعدة فإنها لا تستمر. فسياسات روزفلت لم تستمر وتصمد بعد رحيله. ولم يكن هناك ما يدفعهم للثقة بجونسون.

وحول هذا الأمر يشرح الصحفى ميشيل جرانوالد فى كتابه «الصفقة الجديدة الجديدة» (2012). كيف عرف المواطنون فى الولايات المتحدة الأمريكية أن يؤسسوا لتغيير حقيقى لا يضيع نضالاتهم المدنية فى شتى القضايا. ولا يتعرض لأى نكوص عن أى انجازات تتم لصالح الشرائح الاجتماعية العريضة. بغض النظر عن استمرار الإدارة أو لا.

وتشرح دراسة مهمة عنوانها «الراديكاليون فى السلطة»(2014، للبروفيسور «إريك ليف دافين» بجامعة بيتسبرج الكيفية التى طورت فيها الحركات المدنية الاحتجاجية من حركتها كى تكون مؤثرة فى العملية السياسية وذلك من خلال: أولا: إعادة تحديد قاعدتها الاجتماعية، وثانيا: التواصل معها، وثالثا: تنظيمها كقوة احتجاجية وقوة تصويتية فى وقت واحد.

وإذا كان لأوباما الفضل فى أن يكون أول رئيس ينتسب للمجتمع المدنى الأمريكى وكان أحد الفاعلين الميدانين فيه يصل إلى سدة الحكم. فإن «ساندرز» قد استطاع أن يبلور كتلة سياسية مؤثرة لها «أجندتها»: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية،...،إلخ.(راجع مقالنا عن ثورة ساندرز ـ الاهرام 3 مارس الماضي).

ولعل معركة التأمين الصحى التى خاضها أوباما، والتى تعتبر مشروعا اجتماعيا شاملا وليس إجراءات فنية تصب لصالح الشركات الخاصة توضح أن هناك قاعدة اجتماعية باتت تستميت من أجل الدفاع عن مصالحها حتى بعد أن يغادر الرئيس كرسيه(أوباما). قوام هذه القاعدة كل من: أولا: الطبقة الوسطى. ثانيا: الشباب. كما باتت لها حركيتها الفاعلة سواء من خلال التنظيم المدنى أو بدعم الحزبين الكبيرين فى نشاطهما الانتخابى من خارجهما كما جرى مع كل من «ساندرز» فى معركته الانتخابية داخل الحزب الديمقراطى. و «ترامب» فى تنافسه مع هيلارى كلينتون على مقعد رئاسة أمريكا.

وفى هذا السياق، نشير إلى عدة حركات فاعلة تنحو إلى اليسار فى الحياة السياسية والمدنية الأمريكية مثل: أولا: حركة «أنفيتا» المضادة للنزعات الفاشية فى أمريكا أو ما أطلقنا عليه جماعات الكراهية البيضاء التى لديها مواقف ونزعات عنصرية ضد الملونين والمهاجرين. ثانيا: حركة «لن يتكرر» التى تدعو إلى ضبط انتشار السلاح وتداوله بين المواطنين خاصة مع تنامى استغلال النص الدستورى بحق امتلاك السلاح لاستخدامها فى عمليات ذات طابع عنصرى أو لترويع كل من يخالف النزعات القومية البيضاء العرقية. ثالثا: حركة «أنا أيضا» التى تناهض التحرش الجنسى. والتى تتكون عضويتها من طالبات المدارس الثانوية. هذا بالإضافة إلى حركة «احتلوا وول ستريت».

الخلاصة، هناك حركية مجتمعية أمريكية جديرة بالرصد والفهم. لديها من الوعى الحركى الذى يؤهلها لاكتساب القوة اللازمة لكى تنافس على السلطة من خلال العملية الانتخابية. كما انها تعمل جديا لتغيير قواعد اللعبة التى صيغت «بإحكام» لصالح القلة الثروية...والأهم أنها تعكس تحولا حقيقيا فى الداخل الأمريكى: جيليا، وطبقيا، سيكون له أثره على الإدارة الحالية والإدارات التالية...إنها الصفقة الجديدة الجديدة التى يؤسسها المجتمع الأمريكى..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern