ميونيخ للأمن 2018: عالم على الحاف

المشاهد لغلاف التقرير السنوي لمؤتمر ميونيخ للأمن سوف يجده معبرا عن ما آل إليه العالم، وتحديدا النظام العالمي من وضع تاريخي غاية في الحراجة. ففي القلب من اللوحة التي تتصدر غلاف التقرير سوف نجد قبضتين متصلبتين تتواجهان، تمسكان بورقة بدأت تتمزق من أعلى، وفي كل ناحية هناك ثلاثة حروف، إذا ما جمعتها معا تشير إلى كلمة عهد (بالإنجليزية: Treaty)،

ولكن التمزق ليس بالكامل...حيث لم يصل بعد إلى أسفل الورقة. نعم يخرج من امتداد كل قبضة دخان صواريخ منطلقة أعلى اللوحة صوب بداية سلم يؤدي إلى مخرج يظهر منه قبس من نور وكأن الصواريخ المنطلقة تحول دون الوصول إلى النهار...وفوق اللوحة مباشرة وعلى الجانب إلى اليسار من غلاف التقرير الصادر في يناير 2018، ويعرض لأحوال العالم في 2017، مطبوع عنوان التقرير الذي يلخص محتواه (ما يقرب من 90 صفحة من القطع الكبير)، والذي يأتي دالا لما حاولت أن تعبر عنه اللوحة وهو: «إلى الحافة ــ ثم العودة

To the Brink and Back.

أما عن التقرير، فنجده يرصد بدقة وبوضوح شديدين كيف أن النظام الدولي الراهن يعاني حالة من التآكل المستمر نتيجة الصراعات البازغة والتوترات المتزايدة في كثير من بقاع العالم. ما تجعله على حافة الانهيار. تآكل ينعكس بصورة واضحة، ولا لبس فيها، في أمرين هما: أولا: أن الأعمدة الفكرية التي ارتكزت عليها بنية النظام الدولي عبر عصور قد تم تجاوزها. ثانيا: أن المؤسسات التي كان منوط بها تسيير وعمل توازنات وعلاقات النظام الدولي بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية قد باتت فاشلة إلي حد كبير في أداء دورها الكوني...ومن هنا كانت الدلالة الرمزية لبدء تمزق الورقة التي تحمل اسم «وثيقة/عهد»، كناية عن بداية الخروج على التوافق التاريخي الذي كان يجتمع العالم حوله. صحيح لم يعلن بعد ــ بصفة نهائية ــ نهاية العالم القديم. ذلك لأن الصراعات والتوترات تذهب بالعالم إلى حافة الهاوية ولكنها لم تنزلق بعد إليها.

والسؤال ما الذي أدى بالنظام الدولي إلى حافة الهاوية؟ يجيب التقرير بأن هناك ثلاثة ملامح رئيسية دفعت بدول العالم إليها وهى:

أولا: أصبح العالم أقل ليبرالية وبعضه ينحو نحو اللا ـ ليبرالية. ويرصد التقرير كيف أن الحريات السياسية والمدنية حول العالم قد تراجعت بدرجات متفاوتة في 2017. وحوصرت الديمقراطية في كثير من المواضع.

ثانيا: التصعيد المتزايد بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية والقوة عموما بين القوى الدولية المختلفة. ما يؤدي إلى الفوضى العالمية ومن ثم تفكك النظام الدولي. ويعدد التقرير المناطق التي تعرضت إلى تهديدات جادة بالتصعيد خلال 2017 في معظم القارات ومنها: آسيا، والخليج، والبلقان.

ثالثا: انتشار فكرة العزلة والانكفاء بين دول العالم على الطريقة «الترامبية» الذي رفع شعار «أمريكا أولا» وانسحب من كثير من الفعاليات الدولية متخليا عن التزامات أمريكا الدولية (الخروج من اتفاقية النافتا، ومن معاهدة باريس الخاصة بالتغيرات المناخية، واليونيسكو، واتفاقية المحيط الهادئ، وتهديدها بالانسحاب من الاتفاق النووي). والأخطر الذي رصده التقرير هو تكريس أمريكا لمبدأ اهتمام أقل بالدبلوماسية، لذا تم تخفيض ميزانية الخارجية لصالح التصعيد النووي. حيث يصير العالم ليس منظومة دولية جامعة لدول تتفاعل فيما بينها. وإنما العالم ما هو إلا حلبة تتنافس فيها الأوطان، والبيزنس، والفواعل غير الحكومية، فيما بينها. ومن ثم لا يعود هناك مجتمع دولي. وهو الأمر الذي اعتبر خلال مناقشات المؤتمر، التي حضرتها شخصيات رفيعة المستوى، مسئولية ترامب الذي وصف بأن سياساته أقرب إلى الوقود المُشعل للحرائق، كما أخلت فترة السنة الأولى من رئاسته بالنظام الدولي الذي لم يعد نظاما، نسبيا.

في هذا الإطار، يؤكد التقرير أهمية بناء منظومة أمنية ثلاثية الأبعاد: بيئية، ورقمية، ونووية. كما يحذر من الأخطار التي يمكن أن تجد طريقها إلى الحضور في العام الجديد والتي يمكن أن تسرع من سير العالم في اتجاه الهاوية وسبل العودة الآمنة, سواء أخطار الصراعات المناطقية في إفريقية، آسيا، والبلقان، والخليج،...، إلخ، أو أخطار تحول دون تقدم الدول بفعل سلوك سياسات انعزالية ومن ثم تراجع التعاون الدولي، أو تضع عوائق وحواجز أمام الاستفادة من التقدم الرقمي أو الصناعات الإبداعية ما يقلل فرص التقدم بالنسبة لكثير من الدول، وأخيرا انهيار المؤسسات الدولية ما يسبب تدهور رخاء المجتمعات.

وبعد، إذا كان تقرير العام المنصرم قد أشار إلى بدء زمن جديد تحت عنوان ثلاثي العناصر: «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام»...ها هو يواصل تحذيره بأن العالم سوف يتجه نحو حافة الهاوية إذا ما استمرت التوترات على ما هي عليه. وإنه لا مفر من ضرورة المواجهة لما أطلق عليه «التخريب» المتعمد للنظام الدولي الراهن...وبالرغم من أهمية ما طرحه التقرير وهو صحيح في خطوطه العريضة... إلا أنه لم يتطرق إلى الأسباب التي أدت بالدول إلى الحافة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern