مئويات ألمانيا والاحتفاء «بماركس» بعد «لوثر»

تقدم ألمانيا نموذجا حضاريا فى كيفية الاحتفاء برموزها الإبداعية: الفلسفية، والفكرية، والعلمية، والرياضية،...،إلخ...فبعد أن احتفت، منذ شهور، بمرور 500 عام على إصلاح مارتن لوثر الدينى التاريخي(1517 ـ 2017)، تحتفل بمرور 200عام على ميلاد كارل ماركس (1818 ـ 1883)...

المتتبع للكيفية التى تحتفل بها ألمانيا برموزها سوف يلحظ كيف أن العقل الجمعى الألمانى ينطلق من أن التاريخ هو «عامل وحدة واندماج بين مواطنى الوطن الواحد». وأن الذاكرة التاريخية الواحدة تعد أحد عوامل «التماسك الوطني» بين المواطنين. ولهذا يقول الباحث الألمانى الكبير «يان أسمن» إن إعمال «المونتاج» على التاريخ يؤدى إلى إضعاف الذاكرة التاريخية ومن ثم إضعاف الجماعة الوطنية. ذلك لأنه ما إذا اتجهت كل مجموعة نوعية: تيار سياسي، اتجاه فكري، اتباع معتقد ما، إلى تمجيد رموزها والتحقير من رموز المختلفين. أى إعمال «المونتاج» على التاريخ فلا تعود الجماعة النوعية ترى إلا رموزها فإن هذا يعنى تكون «ذاكرات تاريخية متعددة وموازية». وفى هذه الحالة سوف يغلب الصراع على العلاقة بين المجموعات المختلفة. ما يدمر الحاضر والمستقبل. أو بحسب «أسمن»:» إن من يطلق رصاصة على التاريخ ( بالقص أو التوظيف أو...) يكون قد أطلق صاروخا على المستقبل»...

ودلالة الاحتفاء بكل من «لوثر» و»ماركس»، تعنى أن تاريخ الوطن(الأوطان) هو «محصلة اجتهادات وأفكار ونضالات قام بها دعاة ومفكرون وحركات». قد نختلف أو نتفق مع بعض من هذه المحصلة. ولكن يقينا سنقدرها كلها لأنها منحت الحيوية اللازمة للوطن كى يستمر ويبقى ناهضا. بالطبع يزداد التقدير إذا ما عبرت المحصلة التاريخية: للاجتهادات، والأفكار، والنضالات، الحدود وبات مضمونها أحد مكونات المحصلة الإبداعية للإنسانية. وتجاوز تأثير رموزها الحياة الألمانية إلى أرجاء الكون. بلغة أخرى لا يعود لوثر أو ماركس أو بيتهوفن أو هيجل أو اينشتاين، وغيرهم، هم ملك لألمانيا فقط وإنما ملك للبشرية جمعاء.

وظنى أنه لولا هذا التراث المعرفى الإبداعى الذى راكمته ألمانيا ما كان يمكن أن تقوم ألمانيا من هزائمها المدمرة فى الحروب. أو تستطيع ان تشفى من سطوة النازية المدمرة. فلقد مثل هذا التراث رصيدا حضاريا لا ينفد. يمنح ألمانيا زخما تستعين به، دوما، يجدد من روحها وعقلها وحيويتها. ويحفظ لها شخصيتها القومية المبدعة وتماسكها الوطني.

فى هذا السياق، نجد ألمانيا تنتج فيلما عن كارل ماركس بالاشتراك مع بلجيكا وفرنسا اسمه: «كارل ماركس الشاب» Young Karl Marx ؛ انتج فى 2017. وتم عرضه فى مهرجان برلين العام الماضي. والفيلم يركز على مرحلة الشباب من حياة ماركس وكيف اكتشف العالم على المستوى الحياتى ومن ثم كيف عبر عنه فلسفيا واقتصاديا من خلال كتاباته. وذلك من خلال أوروبا القرن التاسع عشر حيث المشهد الإجمالى لها يحمل مجموعة من التناقضات الاجتماعية الحادة كما يلي: رأسمالية صناعية بازغة متعسفة مع عمالها، وطبقة عاملة صاعدة تبحث عن حقوقها فى ظل ظروف وأحوال بائسة، وتحالف أسود ذات طابع إقطاعى بين بقايا العائلات الأوروبية القديمة الحاكمة «الأميرية» الإقطاعية والمؤسسات الإصلاحية العاجزة عن قبول التجديد والإصلاح. تحالف استمر فى ممارسة البطش بالفقراء وعجز عن إدراك التحولات الجذرية التى دخلت فيها أوروبا. اعتمد الفيلم على تجسيد المشهد الأوروبى الشامل بصورة تذكر بإبداعات تشارلز ديكنز أعظم من تناول أوروبا فى هذا الوقت.

فى هذا الإطار، يتتبع الفيلم التطور الفكرى لماركس، وعلاقاته العاطفية، ونمو علاقته الفكرية الفريدة مع فريدريك إنجلز: بداية من قراءة إنجلز لكتاب «مساهمة فى نقد الاقتصاد السياسي» لماركس. وإطلاع ماركس على كتاب «حال الطبقة العاملة فى انجلترا» لإنجلز. ونضالهما المشترك وارتحالهما من مكان لمكان فى أوروبا. ويواصل الفيلم تقديم كيف تولدت أفكارهما بسلاسة شديدة وصولا لكتاب رأس المال الذى أنجز ماركس جزءا منه وأكمله إنجلز. ومن جهة أخرى كيف تطورت أوروبا وتغيرت مع مطلع القرن العشرين. كذلك العالم من خلال خاتمة الفيلم ونزول «التيتر» حيث نرى حركات وشخصيات ثورية ورافضة ومحتجة عرفتها البشرية لاحقا وذلك على نغمات بوب ديلان الحائز على نوبل للآداب العام قبل الماضى وكنا كتبنا عنه تفصيلا وقت حصوله على الجائزة.

وظني، أنه ليس مصادفة أن تعتنى ألمانيا بالاحتفاء برموزها على اختلافهم خاصة وقد أصبحت إنجازاتهم ملكا للإنسانية من جانب. ومن جانب آخر وهى تستعد ومعها فرنسا فى التقدم إلى العالم باعتبار أوروبا قوة عظمى مستقلة فى لحظة تنسحب فيها أمريكا من كثير من المحافل.

وهنا تذكرت مقولة لأنور عبد الملك تقول:«إن فلسفة التاريخ تلعب دورا رئيسيا فى تفهم، ومن ثم تحديد، معالم الشخصية الوطنية، والقومية، والحضارية، التى بدورها، تلعب دورا توجيهيا رئيسيا فى تحديد الحراك السياسى والحضارى للمجتمعات البشرية: استراتيجيا وتكتيكيا».

والرموز على اختلافها والأفكار على تنوعها بالنسبة لشعب أوبلد هى فى واقع الأمر «مدارس فكر وعمل»، وليس مدارس منهجية أكاديمية مجردة» أو «نشاطات احتفالية»...ومن هنا كان الاحتفاء مسئولية تاريخية..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern