«إن عالمنا، الذى ينطوى على نوافذ يستطيع البعض المروق من خلالها نحو الأعلي، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها كثيرون نحو الهاوية». عبارة تذكرتها لأحد الباحثين الألمان، وأظنها تلخص أحوال أهل الكوكب الذى انقسم سكانه بين قلة باتت قادرة على النجاة تعيش حياة رغدة وأكثرية تعانى عيشا متدنيا، خاصة بعد الأخذ بالليبرالية الجديدة وتعميم سياساتها كونيا. ومن ثم تحولت الدول إلى أسواق تحركها الأسهم والمضاربات. ما أنتج التفاوتات المتنامية بين القلة والأكثرية بشكل غير مسبوق فى تاريخ الإنسانية. وكان من الطبيعى أن يتبلور تيار نقدى يرصد الآثار السلبية لليبرالية الجديدة ولعصر العولمة الذى انطلق منذ 40 سنة وتداعياته.
المفارقة أن نخبة العولمة التى تلتقى سنويا منذ مطلع السبعينيات(منذ 1971) فى ما يعُرف بالمنتدى الاقتصادى العالمي؛ وذلك فى منتجع دافوس أعلى جبال الألب، نجدها تعترف بتردى الأحوال وخاصة فى اجتماعاتها على مدى السنوات السبع الأخيرة أى بعد أزمة 2008 وانطلاق الحركات الميدانية المقاومة للعولمة ــ بتنويعاتها المختلفة ــ التى انطلقت فى 2011.
فلقد التأم المشاركون (3000مشارك من قادة واقتصاديين وساسة وباحثين ورجال أعمال...) هذا العام تحت عنوان: نحو خلق مستقبل مشترك فى عالم ممزق. حيث ناقشوا العديد من القضايا مثل: القفز إلى العام 2020، ومستقبل العالم العربي، والانقسام المجتمعي، وعصر جديد من الصحة العالمية، ونموذج جديد للنمو فى ظل اقتصاد بازغ، وحوكمة رشيقة فى زمن الثورة الصناعية الرابعة، والتعليم من أجل الثورة الصناعية الرابعة، والجسور فى مواجهة الحدود: أزمة المهاجرين والنازحين، وهل يمكن العيش فى ظل الاحتكار، وأجندة جديدة من أجل مستقبل أوروبا الوسطى والشرقية، والديمقراطية فى زمن ما بعد الحقيقة، وتمكين التجارة الالكترونية: مشروعات صغيرة ولاعبون عالميون، وأوروبا: الأزمة والرؤية المستقبلية، والتعافى الاقتصادى الأوروبي: حقيقى وقوى أم وهمى، ونحو إيجاد توازن جديد فى الشرق الأوسط، والتنوع: أن نكون أحرارا ومتساوين، ومن النمو إلى الرخاء، ومن مدن متشظية إلى متجددة وقوية ومنتجة، ومن الجوع إلى الأمن الغذائي، وخطر الحروب الالكترونية التى لا تراعى أى قواعد، وخطر التكنولوجيا المارقة، وخطر الاهتزاز التنظيمى للتجارة العالمية بفعل الضعف المؤسسى وتنامى الحركات المضادة للعولمة، والأسواق العالمية فى ظل عوالم مجزأة، وأفق حقوق الانسان فى العالم، وكيف تقود الصين العالم، وكيف فاقم الاقتصاد الريعى اللامساواة؟، والمتروكون فى الولايات المتحدة الأمريكية: كيف يمكن التعاطى مع الانقسام المجتمعى الراهن؟، والامبراطوريات الجديدة والقديمة، والتهديدات النووية، ودور الهند فى العالم، والحركات الجديدة وسياسات ما بعد المؤسسية، وتقوية الاقتصاد الرقمي، وكيفية مواجهة التحديات المناخية، ومواجهة التحرش،...،إلخ...هذا بالإضافة إلى عديد المؤتمرات الصحفية التى أجريت مع قادة الدول والتى كانت فرصة لتمرير الكثير من التصورات الاستراتيجية.
ولاشك أن المنتدى قد وصل إلى حالة من النضج والحرية والصراحة ــ خاصة وقد بلغ عمره الـ48 عاما ــ وهو ما يتضح من: أولا: العنوان الذى تم اختياره للقاء هذا العام. وثانيا: نوعية الموضوعات التى تم نقاشها بشفافية كاملة. وثالثا: وضع جدول أعمال متجدد للقضايا والإشكاليات التى يمكن أن تتم مناقشتها محليا على أكثر من مستوي. ورابعا: الاعتراف بالتمزق الذى لحق بالعالم، حيث يستكمل المنتدى ما تبناه منذ العام 2011 فى التحذير من الإشكاليات الكونية المتراكمة من: تفاقم لللامساواة، وتزايد للصراعات السياسية والمجتمعية العالمية، وتدهور للطبقة الوسطي، وتنامى ما يوصف بالحركات الشعبوية المضادة للعولمة فى أنحاء العالم دون استثناء (نختلف فى توصيفها بالشعبوية وهو ما اجتهدنا فى إثباته عند دراستنا لما أطلقنا عليه الحركات القاعدية المواطنية: اليمينية واليسارية الجديدة فى أوروبا من خلال مقالات عدة فى هذا المكان).
إلا أن الثابت أيضا، أن النقاشات مهما تكن جرأتها وتنوعها واتساعها وتعدد زوايا الرؤية إلا أن الحلول تأتى فى إطار السياق ذاته الذى أنتج الإشكاليات التى تم رصدها. نعم قد تكون هناك ملاحظات نقدية إلا أنها ليست جذرية. وعليه تزداد الأزمة الكوكبية احتقانا... وكأن المنتدى يبرئ ذمته مما آلت إليه أوضاع العالم بسبب ما تفعله نخبته.
وفى هذا المقام، نشير إلى أن مؤسسة أوكسفام التنموية الدولية تحرص على أن تنشر تقريرها السنوى فى وقت متزامن مع انعقاد فاعليات المنتدي. وكنا أشرنا العام الماضى فى مقالنا إلى ما رصدته أوكسفام فى تقريرها بأن: «ثروة الـ8 أفراد الأكثر غنى فى العالم، تساوى ما لدى 4 مليارات مواطن يعيشون على الأرض»... وفى هذا العام أشارت أوكسفام إلى أن 82% من ثروة العالم يملكها 1% من البشر... وأن أكثر من 8 دولارات من كل 10 دولارات تذهب إلى 1% من أثرياء الكوكب. ونشير أيضا إلى تقرير اللامساواة العالمى الذى صدر متزامنا لانعقاد المنتدى ويتضمن أرقاما مقلقة للغاية.
ما يؤكد أن اجتماع قمة العالم لنخبة العولمة لم يعد يكفى فيه الحديث الصريح بل اتخاذ قرارات راديكالية لإنقاذ شعوب العالم.