قصة البرجوازية المصرية

إلى مصر

قضائى الذى أعانقه

وقدرى الذى أحتضنه

وأين يهرب المُريد وشوقه قضاؤه...وقلبه قدره...

كلمات حكمت صلاح عيسى فى تنقيبه التاريخي... فلقد توحد بمصر وأخذ ينقب فى تاريخها فمنحته ــ مصر ـ أن يكتشف، ويفسر ويسطر لنا إحدى درر المعرفة المصرية المرجعية. لذا قلنا إن الكشف المعرفى لا يقل قيمة عن الكشف الجغرافى والنفطى... ذلك لأن الكشف المعرفى خاصة التاريخى من شأنه أن يفسر لنا ما يجرى فى الواقع: أصوله، ومساره، وفهم تفاعلاته الجارية، وأخيرا تحديد مسارات وسيناريوهات المستقبل.

وظنى أن كشف صلاح عيسى الكبير الذى ورد فى كتبه: «الثورة العرابية» (1972)، «البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة» (1980)، «البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة» (1982)؛ هو «رصده لنشأة البرجوازية المصرية ورسمه خريطة أولية للجسم الاجتماعى المصرى فى القرن التاسع عشر، ومتابعتها بالتحليل والتوثيق لمسارها ومعاركها ونجاحاتها وإخفاقاتها...

ويبدو لى أن صلاح عيسى وهو يرسم خريطته الطبقية للجسم الاجتماعى المصرى كان فى ذهنه محاولة المقريزى الأولية التى قام بها فى كتابه: «إغاثة الأمة بكشف الغمة». والذى يعد استهلالا مبكرا لرسم تضاريس الخريطة الطبقية المصرية وقد حددها بسبعة أقسام(سبع طبقات)، وذلك كما يلي: « أولا: أهل الدولة. ثانيا: أهل اليسار من التجار وأولى النعم من ذوى الرفاهة. ثالثا: الباعة وهم متوسطو الحال من التجار وأصحاب المعاش من السوقة. رابعا: أهل الفلح وهم أرباب الزراعة والحرث وسكان الريف، خامسا: الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم. سادسا: أرباب المصالح والأجر وأصحاب المهن، سابعا: ذوو الخصاصة والمسكنة الذين يتكففون الناس»...

لم يتوقف صلاح عيسى عند محاولة المقريزى الأولية بل تجاوزها إلى رصد التفاعلات بين الطبقات المتنوعة خاصة ما أطلق عليه: «الجنين البرجوازي» الذى كان قيد الميلاد وحاولت طليعته الأولى أن إنجاز الكثير من التقدم بتحويل مصر إلى دولة صناعية ولكن «اندفاعات الجنين البرجوازي.... كانت أبعد مدى فعلا من إمكاناته الذاتية»...

فرأسمالية الدولة وسيادة شكل الإنتاج الزراعى التى تمثلت فى الإنتاج للتسويق ــ القطن بالأساس ــ وتحول الأرض لسلعة قد جعل من ملاك الأرض فى واجهة الحياة السياسية وسادت المهادنة سلوكهم فى إدارة الشئون العامة للبلاد. وعليه انحصرت الطبقة البرجوازية فى الحالة المصرية فى العموم هى «الطبقة المتوسطة التى كانت تسكن المدن مثل القاهرة والبنادر الكبري. وقد تمثلت لدينا فى شريحتين رئيسيتين هما: طبقة التجار وطبقة أصحاب الحرف،...». لم تستطع أن تتحول إلى رأسمالية صناعية لاعتبارات كثيرة...ومن أهم ما قدمه صلاح عيسى فى كشفه عن البرجوازية المصرية هو رصده مسيرتها فى القرن العشرين من خلال أربع مراحل كما يلي:

أولا: الحركة الشعبية الجماهيرية التى تصدت للغزو الفرنسى لمصر(1798 ــ 1801)، ولقد تصدت للقيادة خلالها عناصر من التجار والحرفيين ومثقفى الأزهر، وتحكمت هذه القيادة فى حركة جماهيرية نشطة تغلب عليها العفوية، ضمت صعاليك المدن والحرفيين والصناع وفقراء الفلاحين وصغار الملاك فى الريف والمدينة. وقد أحدثت هذه الحركة الجماهيرية أول انقلاب حقيقى فى السلطة الحاكمة، عندما واصلت حركتها عقب رحيل الغزاة إلى أن تمكنت فى عام 1805 من إنهاء الحكم التركى المملوكي.

ثانيا: تبلورت الحركة الثانية مع الثورة العرابية (1879 ــ 1882) التى تجمعت ظروف انفجارها منذ أواخر عصر الخديو إسماعيل ــ لتطرح كقيادة لها عناصر من البرجوازية الصناعية والتجارية ومثقفيها، ضمن جبهة عريضة تضم: العمال والملاك الصغار وفقراء المدن. وقد طرحت هذه الحلقة مجموعة من الأهداف الوطنية والديمقراطية ذات الأفق البرجوازي، وشكلت تحديا لعملية احتلال سلمى كانت الاحتكارات الأوروبية قد نجحت بالفعل فيه.

ثالثا: ثم كانت ثورة 1919، حلقة ثالثة أكثر نضوجا وأوفر تنظيما من سابقاتها، فقد ضمت قيادتها عناصر من البرجوازية الصناعية، وهو ما جعل عودها أكثر صلابة، كما انضم إلى طوفانها الجماهيرى شرائح من الطبقة العاملة الصناعية كانت وليدة آنذاك. فضلا عن تبلور شرائح من البرجوازية الصغيرة فى الريف والمدينة، نمت من خلال محاولات الاحتكارات الدولية تطويع السوق المصرية فى إطار المستعمرات. بيد أن كبار ملاك الأرض قد أفشلوا الكثير.

رابعا: وبالتأكيد كانت الحركة الرابعة للبرجوازية المصرية ثورة 23 يوليو 1952، كانت تعبيرا عن أكثر شرائح تلك الطبقة ثورية ووطنية، وبالرغم من كل ما أحاطها من ظروف معقدة، فإنها حققت من الإنجازات ما لم تحققه الحلقات السابقة مجتمعة، فإذا كانت الحلقات السابقة من الثورة القومية الديمقراطية ذات الأفق البرجوازى قد حققت على الصعيدين السياسى والاقتصادى تقدما لا يمكن إنكاره، فإن ثورة يوليو قد تميزت بأنها واكبت ــ وعبرت ــ عن نمو الجناح الصناعى للبرجوازية القومية، وهو أكثر أجنحة هذه الطبقة ثورية وأوفرها عداء للاستعمار...

إن كشف صلاح عيسى الثمين يفرض علينا أن نواصل البحث والتنقيب عن لماذا تعثرت هذه الطبقة ومستقبلها... وبحسب صلاح عيسى «لا خلاف فى حاجتنا الماسة للعودة إلى الينابيع، لفهم ما هو آن... وقادم...».


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern