صلاح عيسى و«كشفه الكبير»..(1)

صلاح عيسي، أحد المبدعين الكبار فى تاريخنا المعاصر. هو حالة ثقافية ابداعية متعددة الأبعاد، واستحالة أن تحصره فى بعد واحد. صلاح عيسى هو «أسطى صحافة» كبير. و«أستاذ تاريخ» معتبر. و«كادر سياسي» رفيع المستوي...عاش مخلصا «للمهنة»، وباحثا «منقبا» بدأب شديدــ فى حفريات التاريخ المصري، و«مدافعا» عن الحريات ومناضلا سلميا من أجل تقنينها لتكون واقعا حيا للجميع...

عرفته فى نهاية صيف عام 1982 فى اجتماع تقييمى لجريدة الأهالى وكان مدير تحريرها، وكانت آنذاك صحيفة المعارضة الأولى فى مصر، وتوزع ما يقرب من الـ200 ألف نسخة ــ ويومها طلبت الكلمة وسردت بعض الملاحظات وما إن عدت إلى مقاعد الحاضرين حتى وصلتنى ورقة من المنصة التى كانت تضم: الراحلين «محمد سيد أحمد وفيليب جلاب وصلاح عيسى» بالإضافة إلى حسين عبد الرازق ــ أمد الله فى عمره ــ والذى كان يرأس تحرير الصحيفة وقتها. وحملت الورقة طلبا رقيقا للقاء عقب انتهاء الاجتماع.

وقد كان. حيث تلقيت دعوة كريمة للكتابة فى صفحة الرأى بالجريدة. وكان صلاح عيسى هو الشخص الذى تواصلت معه بعد ذلك ولمدة ثلاثة أعوام. كنت أكتب المقال واذهب إلى مكتبه فى الجريدة التى كانت فى شارع عبد الخالق ثروت فى ذلك الوقت. وكان دوما على صغر سنى ينادينى بلقبى المهني. يقرأ المقال ثم يبدى ملاحظاته بنعومة شديدة. ومن المفارقات التى لم أخطط لها ولا الأستاذ صلاح هو أننى توقفت عن الكتابة الدورية بعد تجربة الكتابة فى الأهالى وبعد أن ترك صلاح عيسى وحسين عبد الرازق الجريدة. ولم أكتب مرة أخرى وبشكل منتظم إلا فى مجلة اليسار التى توليا مسئوليتها مطلع التسعينيات. وذلك من خلال باب ثابت كان عنوانه: «نحو المواطنة». وتكرر الأمر نفسه عندما رأس تحرير جريدة القاهرة.

إلا أننى عرفت صلاح عيسى قبل لقاء الأهالى الأول، كقارئ لمجلده التاريخى المرجعى «الثورة العرابية» (تجاوز الـ500 صفحة من الحجم الكبير). حيث وقعت فى يدى نهاية السبعينيات طبعته الأولى الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر البيروتية (1972). ووقتها كنت أعد بحثا عن «النخبة القبطية المدنية» ودورها فى تأسيس «المجلس الملي». (نشر عام 1982)...

ولعل من أهم ما استوقفنى فى أطروحته هو ما أطلقت عليه كشفه الكبير عن جذور الطبقة «البرجوازية» المصرية.

نعم، فالكشف العلمى شأنه شأن الكشف الجغرافي، والبترولي، لا يقل عنه... ويعد ثروة معرفية ترتفع قيمته بقدر ما يتم معالجته منهجيا.

وهو من أهم ما انكب عليه بالبحث والمتابعة ــ مبكرا، فى رأيى صلاح عيسي. شأنه شأن كل الذين انكبوا على البحث عن إجابة لتفسير هزيمة 1967 التى اعتبروها هزيمة حضارية مثل: زكى نجيب محمود الذى أنتج «تجديد الفكر العربى»، ولويس عوض الذى أبدع «تاريخ الفكر المصرى الحديث»، وجمال حمدان الذى أطلق أسفاره الأربعة «شخصية مصر»، وعادل حسين الذى تتبع مسيرة «الاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية»،...،إلخ.

عمل صلاح عيسى على تتبع رحلة البرجوازية المصرية منذ بزوغها فى الدولة الحديثة. وحاول رصد معاركها ونجاحاتها وإخفاقاتها. وما آلت إليه رسالة نخبة هذه الطبقة عبر عقود. فتعمق فى ميلادها الذى حمل «عيبا خِلقيا». مما جعلها «أعجز من أن تحقق شيئا، قعد بها على حجر الامبريالية ترضع لبنها حتى شاب شعرها وملأت التجاعيد صفحة وجهها»...

فى هذا السياق، أنجز، صلاح عيسي، بعد مجلد «الثورة العرابية» الكتب التالية: أولا: «حكايات من مصر» (دار الوطن العربى 1974). ثانيا: «البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة» (مطبوعات الثقافة الوطنية ـ 1980). ثالثا: «البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة» (دار التنوير ــ1982)...فى هذه الكتابات بلور صلاح عيسي، كشفه الكبير» عن البرجوازية المصرية. وأنه لا مناص من فهم ما جري، وما يجري، وما سيجرى إلا وفق ما يلي:

أولا: أن الجسم الاجتماعى ليس كتلة صماء متماثلة العناصر وإنما تنقسم إلى طبقات وشرائح وقوي. كل منها تتسم بملامح ما وفقا لمصالحها، ونمط الانتاج الذى تتبناه، من ثم تحيزاتها، وتحالفاتها، وقيمها.

ثانيا: أن هذه الطبقة البرجوازية ــ مثلها مثل باقى الطبقات ــ ليست ساكنة وإنما هى تتحرك، وتصارع، وتهادن، وتناور، وتتواطأ، وتنتفض، وتثور، وتنشط، وتنكفئ، بحسب موازين القوة السائدة ونوعية قدراتها الذاتية: الانتاجية والابداعية.

ثالثا: محصلة لما سبق تتشكل حركة التاريخ ــ ايجابيا وسلبيا ــ بالانتصار لقيم التقدم أو الانكسار والخضوع لقيم التخلف.

رابعا: والأهم؛ هو أنه لا يمكن فهم تطورات الواقع المصرى ومستقبله فى أى مرحلة ما لم يكن فى ذاكرتنا تاريخنا الوطنى، شريطة أن تكون نصوصه مكتوبة كتابة علمية لا دينية، أو سلطوية. أى تاريخ القوى الاجتماعي، تاريخ المواطنين (الناس) وتفاعلهم مع الواقع المصري...

وهكذا تمكن صلاح عيسى من أن يحقق «كشفه الكبير» عن البرجوازية المصرية عصب الدولة الحديثة فى مصر: أصولها، ومسارها التاريخي، وصراعاتها. وأن يغوص فى الجسم الاجتماعى المصرى...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern