التمدد الصيني.. (3) منظومة التحديث المؤهلة للتقدم

هناك اتفاق، يكاد، يقترب من الإجماع بين المتابعين للشأن الصينى على أن تقدمها الاقتصادى والمعرفى والعسكرى يعد معجزة تاريخية بكل المقاييس.

ففى أقل من خمسين عاما حققت الصين، المُستعمرة والمهزومة، ذات الشعب المليارى العدد الغارق فى الأفيون ومجتمعها المنهك بالثلاثية الخبيثة الجهل والمرض والتخلف، قفزة تنموية شاملة غير مسبوقة... ولم يكن ليتحقق هذا دون أن يؤهل الشعب من جهة، وتتم تهيئة بنى المجتمع المتنوعة، من جهة أخري، لهذه القفزة المركبة فى شتى المجالات التى منحتها بالأخير أن تكون على قمة العالم... فكيف حقق الصينيون هذه القفزة/المعجزة؟

تقوم صيغة التقدم الصينية على مجموعة عناصر تمثل «منظومة التحديث الصينية»؛ تهدف إلى تحقيق «تجديد» كل من: «قدرات الشعب»؛ و«مقومات المجتمع»...

فما هى عناصر هذه المنظومة التحديثية الصينية أو الوصفة الصينية للتحديث؟ وكيف تم تشغيل وتفعيل هذه الصيغة؟

بداية، تشير القراءة التاريخية إلى أن عملية التحول التاريخية التى خاضتها الصين هى نتاج تراكم تاريخى بدأ مطلع القرن العشرين من خلال مجموعة من النضالات الوطنية والشعبية نذكر منها: حركة 4 مايو الثقافية الجديدة فى عام 1919. والمسيرة الكبرى التى امتدت لسنوات وانتهت بالثورة الصينية فى 1949على يد ماو تسى تونج. ثم بالإصلاحات المتعاقبة التى أجراها(ولم يزل يجريها) خلفاء ماو منذ التسعينيات وإلى الآن. ويمكن اعتبار ما سبق من نضالات بمنزلة حلقات مترابطة ومتعاقبة هدفها التقدم بالصين: المجتمع، والشعب، إلى المستقبل...ولقد كان السؤال الرئيس هو ما التحديث؟ وما مجالات تطبيقه؟ وما هى عناصره فى ضوء الخصوصية الصينية؟

أولا: حول معنى التحديث، يجيب أحد الباحثين الصينيين أن «التحديث هو عملية استخدام الناس للعلوم والتكنولوجيا الحديثة، والتحسن الشامل لأحوال حياتهم المادية والمعنوية، إنها عملية التغييرات الاجتماعية العميقة والتحولات الثقافية الاجتماعية التى تتسم بالمضمون الثرى والاتجاهات والمستويات المتعددة»...

ثانيا: تشمل عملية التحديث الحقيقية والجادة ــ لا الافتراضية والشكلية ــ أربعة مجالات. حيث لا تعد عملية التحديث، ناجحة ما لم تمس فى الصميم، بالتغيير والتطوير والتجديد وإعادة التنظيم، جوهر كل من: أولا: الهيكل الاقتصادي. وثانيا: النظام السياسي. وثالثا: بنية الوعي. ورابعا: البنية الثقافية الاجتماعية...

ثالثا: تبنت الصين منظومة تحديثية تتكون من سبعة عناصر وذلك كما يلي: أولا: التصنيع؛ باعتباره جوهر التحديث الاقتصادي. والمنوط به تغيير هيكل الإنتاج وتنظيمه على أسس حداثية. ثانيا: «مَدْيَنَة»الريف بما يحمل ذلك من أنشطة وعمارة وقيم حديثة. وبحسب أحد الباحثين «لا يكمن مغزى مدينة الريف فى اعتبار المدينة مركز الإنتاج الصناعى فحسب، بل إن ذلك المغزى فى الوقت نفسه يجعل المدينة أيضا مكانا مهما» حضاريا قادرا على هضم الثقافات والتقنيات والمعارف الحديثة والمتجددة. بالإضافة إلى تطوير منظومة العلاقات والقيم الاجتماعية لتتناسب ومتطلبات الإنتاج الصناعى والتقني. ثالثا: نظام إدارة متعدد المستويات. رابعا: إحداث تغييرات فى الهيكل الاجتماعى بما يضمن وضع حدود تميز بين كياناته النوعية مثل: الحزب السياسي، والمؤسسة، والمدرسة، وغيرها، ما يضمن أن يضطلع كل كيان بالوظيفة التى تأسس من أجلها فى الدولة والمجتمع. والاهتمام بتنظيم العلاقة بين هذه الكيانات وضبط توزيع الثروة بصورة عادلة. خامسا: الثقافة وتحديث البشر، وهو ما يستدعى تأسيس بنية ثقافية تتضمن: تطوير النظرة إلى الحياة والمجتمع. وتبنى نظام للمعانى جديد. ولغة تتكون من مفردات تتناسب والمجتمع الجديد. واستحداث أساليب تفكير مرنة ومركبة وعلمية. سادسا: تحديث أساليب الحياة المادية والقيمية. سابعا: رفع كفاءة المواطنين وحضورهم الفاعل فى المجتمع فى شتى المجالات.

بالطبع، تحت كل عنصر من العناصر السابقة من منظومة التحديث الصينية تكمن الكثير من التفاصيل تصب كلها فى اتجاه نقل الصين من الحالة التقليدية المُتخلفة الغائبة عن العصر إلى الحالة الحداثية التى تضع الصينيين فى قلب العالم الجديد والأكثر والأهم منافسة القوى التاريخية التى تقوده منذ قرون. وكان لهم ما أرادوه من خلال تحرير «الشعب والمجتمع من واقع التخلف». وذلك «بتجديد قدرات الشعب: فكريا، وسلوكيا، ومهاريا،...،إلخ». و«مقومات المجتمع: مؤسساته، ونمط وعلاقات وهياكل انتاجه،...،إلخ». وقد تم ما سبق عبر عملية واعية بأنه لا يمكن إحراز تقدم دون الأخذ بالتحديث فى إطار المنظومة السباعية العناصر(سالفة الذكر) لتجديد الشعب والمجتمع. لأنه دون أن يتجددا لن يتم الانتقال ومن ثم التقدم. إذن هناك علاقة شرطية وجدلية بين منظومة التحديث وتجديد الشعب والمجتمع.

الخلاصة، شكلت منظومة التحديث الصناعية بعناصرها السبعة الإطار الفكرى والعملى لقفزة «التنين» الصينى التنموية، ومن ثم «تمدده» الكونى فى قارات الكوكب المختلفة وفق رؤية استراتيجية متجددة تسعى للمساهمة الفاعلة فى نمو الاقتصاد العالمى بنسبة لا تقل عن 50% قبل عام 2025. وهى الاستراتيجية التى أعلنتها الصين خلال مؤتمر حزبها الحاكم منذ أكثر من شهرين باسم «مبادرة الحزام والطريق»... وهى مبادرة مهمة نعرض لها فى مقال الأسبوع المقبل. تعكس مدى التقدم الذى بلغته الصين بفضل عملية التحديث ــ التجديد التاريخية...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern