التمدد الصيني.. (2) القفزة التاريخية المركبة ـ الحذرة

 «القفز المتعدد المُقترن بالحذر»؛

مقولة تُلخص التجربة الصينية المهمة فى الانتقال من مجتمع تقليدي، ظل تقليديا على مدى قرون، ومُثقل بالأعباء إلى مجتمع حديث «يُناطح الكبار» فى سنوات قليلة. ما جعلها «تجربة فريدة» فى التقدم ــ بحسب أحد الأكاديميين الفرنسيين ــ والأهم «التمدد» بهذه التجربة إلى كل أنحاء العالم بهدوء ونعومة بحسب ما أعلنت عنه نتائج أعمال الحزب الشيوعى الحاكم فى أكتوبر الماضى من حيث الامتداد الكونى وحجم التبادلات التجارية التريليونية بين الصين والجميع وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.... ما يدعو إلى دراستها دراسة عميقة...

بداية، ربما يكون السؤال المشروع طرحه هو كيف يستقيم الحذر مع القفز المتعدد الخطوات...فالمنطقى أن تكون الحركة متأنية لضمان نجاحها ومن تثبيت عائدها ثم الانتقال إلى خطوة أخري، وهكذا...إلا أن الصين كان عليها أن تتحرك على عدة مستويات فى آن واحد شريطة أن تكون هذه الحركة محسوبة بدقة. وهو منهج اتبعه ماو تسى تونج (أبو الصين الحديثة) فى إدارته للصين عقب ثورتها على الفقر والتخلف فى 1949. مبدأ استعاره من التراث الصينى الثقافى يقول: بضرورة «عبور النهر» شريطة «تلمس الأحجار»... وهو المبدأ الذى التزم به خلفاء «ماو».

بلغة أخرى كان مطلوبا من الصين الزراعية العريقة المتعثرة، أن تُنجز فى وقت واحد أى متزامن، ما بات يطلق عليه فى الأدبيات التى تناولت «تجربة التحديث الصيني»: «العصرنات الأربع» «Four Modernization». أى إحراز التقدم فى الصناعة، والزراعة الحديثة، والعلوم والتكنولوجيا، والدفاع(راجع المرجع العُمدة المعنون: الصينيون المعاصرون: التقدم نحو المستقبل انطلاقا من الماضي)...هذه هى القفزة «المُركبة» والتى اتسمت بالحذر الشديد...

وهو مبدأ، يعكس كما جاء فى كتاب: «التنين الأكبر: الصين فى القرن الحادى والعشرين»؛ «اتجاه آلاف السنوات من الثقافة» والخبرة الصينية التى تعرضت لكثير من المحن والآلام من: مجاعات، وكوارث طبيعية، وانتفاضات شعبية،...، إلخ، بالإضافة إلى الاختراقات الاستعمارية من الجار اللدود اليابان وأوروبا... وهى كلها عوامل أكدت ضرورة الانطلاق والتقدم، ولكن بحذر... ما هى ملامح هذا التقدم؟ أو ما هى الوصفة السحرية التى اتبعتها الصين للتقدم نحو المستقبل؟ ولكن قبل ذلك ماهى ضرورات الحذر؟...

بداية، يمكن رصد بعض من دواعى الحذر عند محاولات النهوض والتقدم الصينى بأنها تحمل العديد من الأعباء منها: أولا: بالرغم من أن الصين تعد من «أوائل الدول التى شهدت تطورا راعيا» إلا أنها لم تشهد تطورا جذريا على مدى قرون. ربما منذ توحدها السياسى عام 221 ق.م. وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين. ما أدى إلى اختلال التوازن بين نصيب الفرد والأراضى المزروعة. ثانيا: العبء السكانى الذى يبلغ أكثر من مليار وربع المليار نسمة. وهى الكتلة السكانية الأعلى بين شعوب العالم يتحدث أكثر من نصفها بلغة واحدة. بينما هناك سبع لغات يستخدمها الباقون. ثالثا: المساحة الجغرافية الممتدة والحاجة إلى تأمينها وتنميتها. رابعا: ضعف الموارد الطبيعية. خامسا: معدل التلوث الذى يعد الأعلى فى العالم. ساديوا: النقص المُقلق للمياه. سادسا: خطر الكوارث الطبيعية. هذا بالإضافة إلى مجموعة من القيم التقليدية والأساطير التى بقيت حاضرة فى ثقافة «التقليديين» من الأجيال القديمة الريفية. والذين يمثلون إعاقة حقيقية «للعصرنة الرباعية» التى يجب أن تطرقها الصين...

هذه الأعباء حتمت أن يراعى الصينيون المحدثون الحذر فى حركتهم نحو المستقبل خاصة أنهم يتعاطون ــ بالضرورة ــ مع كتلة بشرية «مليارية». وهو أمر يحتم إحداث تحولات جذرية...وفى هذا يستدعى أحد أهم قادة التحول التاريخيين فى الصين (ممن عاصروا المسيرة الكبرى فى الصين عام 1949 بقيادة ماو تسى تونج التى عبرت بالصين من التخلف والاستسلام للأفيون) لمقولة «إنجلز» العميقة: «إنه يجب عدم البحث عن أسباب التحولات الاجتماعية والتغييرات السياسية داخل أذهان الناس، أو فى معرفتهم بالحقيقة الأزلية والعدالة التى تزداد يوما بعد يوم، بل يجب البحث عن تلك الأسباب فى تغيير طريقة الإنتاج وأسلوب التبادل. كما يجب عدم البحث عن تلك الأسباب فى الفلسفة التى لها علاقة بالعصر، بل يجب البحث عنها فى عالم الاقتصاد المرتبط بالعصر»...

ومن هنا كان القرار التاريخى بضرورة إنجاز «التحول التاريخى للصين نحو التقدم» من خلال الانخراط فى دائرة التقدم صناعيا وتكنولوجيا، وتبنى قيم العصر الجديد. ولم يكن التحدى هو كيف يمكن الانخراط فى هذه الدائرة بقيمها؟. وإنما كان التحدى الحقيقى الذى واجه قادة الصين هو كيف يمكن ترويض التراث الصينى القيمى العريق لكى يكون فى خدمة الزمن الجديد بقيمه بتجلياته الانتاجية المختلفة: الصناعية والتكنولوجية والرقمية والبيولوجية... ونجح الصينيون فى مواجهة التحدي. وذلك بتجديد المنظومة القيمية الثقافية التراثية فيما عُرف «الكونفوشية الجديدة». فالقيم التى كانت قابلة للتفاعل الحى مع العصر تم دعمها على أوسع نطاق وتم استبعاد المعوق منها... وهى عملية تتم فى بنية المجتمع والبشر على حد سواء، منذ مطلع القرن العشرين وإلى الآن تحت عنوان: «تحديث البشر وتجديد المجتمع»...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern