في الصيف الماضي، كنت أقرأ كتابا عن مستقبل الصين، وورقة بحثية عن أهمية المؤتمر التاسع عشر لحزبها الشيوعي الذي يقودها ويدير مشروعها التنموي الضخم...واستوقفتني خريطة جغرافية ترسم موقع الصين، في قلب العالم المعاصر، حيث تخرج منها «خطوط» ممتدة إلي كل الدول في جميع القارات ــ تقريبا ــ تكاد تكون متقاربة ومتزامنة...
إنه «التمدد الصينى» هذه هي الرسالة المباشرة والواضحة التي تعكسها الخريطة. تمدد: متسارع بغير تهور، يحمل مضمونا اقتصاديا ومعرفيا كونيا للعالم المعاصر. لا تبغي الصين من خلاله أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح قوة عظمي وحيدة، أو لمعاداة قوي أخري بمنطق الصراع القطبي التاريخي أو ما عُرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وإنما لتأكيد حقها في أن تكون قوة كونية أساسية. وبحسب أحد الباحثين: «ليس من ضمن حسابات الصين أن تتخلي عن فرصتها التاريخية في أن تسترد منزلتها في الشئون العالمية. المنزلة التي كانت تحتلها في القرن السادس عشر وحتي مطلع القرن التاسع عشر، عندما كانت في قلب نظام المبادلات الصناعية الدولي. وهي تسلك اليوم، متسلحة بعنفوانها المُستعاد، سبلا غير مألوفة.
وفي محاولة لوصف هذا «العنفوان» أو القوة الصينية الصاعدة، أمضيت بعض الوقت من خلال عدة مصادر، في محاولة لبحث وفهم جوهر هذه القوة ومكوناتها. فوجدت السلوك الصيني يتسم بالصرامة والصلابة والإصرار. والقدرة علي فرض ما يحقق مصالح الصين بحسم، وبإيقاع منضبط ومرن في آن واحد، دون استخدام العنف بالرغم من امتلاكها قوة عسكرية متجددة تكون قادرة علي تأمين الحماية الجادة «للعنفوان» أو القوة البازغة...إلا أنني لم أستطع أن أضع يدي علي هذا الوصف...حتي نشرت مجلة «الإيكونوميست»، مطلع الأسبوع الماضي، الكلمة المفتاحية لوصف هذا «العنفوان» حيث وضعت علي صدر غلافها واصفة إياه «بالقوة الحادة» Sharp Power...
و«القوة الحادة» هو مصطلح صكته الوقفية الوطنية للديمقراطية «أحد مراكز التفكير المُعتبرة التي يمولها الكونجرس» لتصف القوة التي تستخدمها الصين فيما أطلقنا عليه «تمددها» الكوني. كما يلخص المقاربة التي تنتهجها الصين في حركتها الكونية.
فعلي الرغم من امتلاكها القوة الذكية (التكنولوجية/المعرفية/الرقمية)بنوعيها: الصلب (العسكري) والناعم (الثقافي/القيمي/العلمي)، إلا أنها تمارس زقوة حادةس مفادها: االتأثير في/علي المؤثرين اInfluencing the Influencers؛ بحسب الوصف الذي ورد في المقدمة الافتتاحية لمجلة «الإيكونوميست»، لدفعهم إلي تحقيق المصالح الصينية...
وتتسم القوة الصينية الحادة بثلاثة ملامح أساسية هي: أولا: باتت منتشرة ومستخدمة بكثرة. ثانيا: تمتلك قدرة علي الرقابة الذاتية التي تجعلها تستخدم بدقة شديدة وفي موضعها وعند الحاجة دون رعونة لمنع ما يعوق الحلم الصيني. ثالثا: يصعب اثبات أن الصين الرسمية وراء ممارسة هذه القوة، حيث يمارسها ما يطلق عليه التقرير «خبراء أو عملاء ممارسة التأثير» أو القوة الحادة. اي كوادر تم إعدادهم إعدادا جيدا لممارسة هذه القوة المُستجدة.
وتقوم ممارسة «القوة الحادة» علي التواصل مع الدول عبر مؤسساتها المتنوعة: الرسمية/الحكومية، والمدنية، والخاصة في شتي المجالات: السياسية، والعلمية، والاقتصادية، والثقافية،...،إلخ. حيث تمارس أنواعا من الخطط الموضوعة بدقة التي تضمن تأمين توافر التكنولوجيات المتجددة والأفكار المبتكرة والصفقات الرابحة وضمان الصعود الصيني المستمر بشتي الطرق...
من هذه الطرق: أولا: إغراء النافذين في أي مكان من الدول التي تتعامل معها الصين لتنفيذ مصالحها مثل المشرعين، قيادات الجهاز الإداري، القيادات المصرفية، قيادات المجتمع البنكي، صانعي السياسات، السياسيين، الإعلاميين، الأكاديميين،...إلخ. ثانيا: إرسال البعثات إلي البلدان المتقدمة لنقل المعرفة. ثالثا: تنفيذ الشراكات الاقتصادية بكل الوسائل. رابعا: الحضور والتبادل الثقافي. خامسا: انتشار السلاسل الصينية في العديد من المجالات خاصة في أوروبا لتنافس السلاسل الغربية المعروفة، شريطة أن تحمل أفكارا مستحدثة غير متكررة. سادسا: توظيف أصحاب الشركات من الصينيين في الولايات المتحدة الأمريكية للعب دور لوبي اقتصادي قادر علي أن يطالب بمناقشة ومراجعة الكونجرس الأمريكي في تصويب وتعديل الاستراتيجيات الصناعية الأمريكية خاصة في تحركاتها الخارجية. سابعا: تيسير الاستثمار في الصين في مشروعات مبتكرة. ثامنا: تسهيل السفر إلي الصين للتعرف علي التجربة الصينية...
ويُقر المُعلقون أن ممارسة هذه القوة الحادة يمكن تفهمها. فأي قوة صاعدة لها الحق كاملا أن تشارك في رسم وبلورة قواعد النظام العالمي الجديد وفق ما يحقق مصالحها. وليس من شك أن الصين لديها الرغبة و«الشهية» في إعادة رسم هذه القواعد التي ظلت غربية الطابع لوقت طويل. شريطة ألا تسيء استخدام هذه القوة.
«التمدد الصيني»؛ الذي بات حاضرا في كل مكان من خلال القوة الحادة له بداية ومسار متميز وذروة عكستها أعمال مؤتمر الحزب الحاكم الذي عقدت فعالياته في نهاية الثلث الثاني من شهر أكتوبر الماضي. تمدد، ومسار، ونجاح جدير بالتأمل...مهما تكن الاختلافات حوله إلا أنه يستحق الدراسة... لذا سنواصل الحديث عن «التمدد الصيني» من النجاح التنموي الداخلي إلي الحضور الكوني الفاعل... ومستقبل هذا التمدد.