دول أوروبا: «نكون أو لا نكون»...

تجتاح دول القارة الأوروبية الآن نوبة صحيان وجودية عنوانها السؤال الشكسبيرى التاريخي «نكون أو لا نكون»...دافعهم «كيف تواجه أوروبا أزماتها الراهنة المتكاثفة ويؤمن الغرب مصيره»...

تتسم هذه النوبة باستنفار كل الأطراف والجهات المعنية: أكاديمية، ومراكز بحث سياسية، وحكومية، وحزبية، وبرلمانية،...،إلخ. بالإضافة إلى وحدات الاتحاد الأوروبى المختلفة. كلها باتت معنية ببحث الإشكاليات التى تواجه القارة العجوز...

وقد عكست «نوبة الصحيان»، حيوية كبيرة تعكسها آلاف السطور التى سُطرت فى هذا المقام خلال 2017 فقط. بالإضافة إلى العديد من النقاشات فى مختلف المنتديات الرسمية والمدنية والسياسية التى انشغلت بواقع أوروبا ومستقبلها ومصيرها...والسؤال ما الدافع لهذا الاستنفار القاري؟...يمكن تلخيص السبب فى عبارة مكثفة مفادها أن: »حلم أوروبا الموحدة فى خطر«؛ كذلك وحدة بعض الدول الأوروبية بفعل مستجدات دولية تمثل تحولات كونية غير مسبوقة من شأنها الإخلال بالتوازن الدولى التاريخى منذ الحرب العالمية الأولى من جهة. ومن جهة أخري، تنامى الكثير من المشكلات فى الداخل الأوروبي.

فجأة، أصبحت أوروبا مطالبة «وحدها» بمواجهة كل من:

أولا: «التملص الأمريكى» من مسئولياته والتزاماته التاريخية تجاه أوروبا والتحالف الغربي. وهو ما أشرنا إليه فى مقال الأسبوع الماضي. وأكدنا أن شرخا قد أصاب علاقة أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية وترك أثره على حلف الأطلسي.

ثانيا: »التوسع الروسي« نحو المناطق الحيوية التى تمثل بؤرا استراتيجيا تؤمن مصالحه النفطية والغازية والعسكرية فى إطار تمسك روسيا بالسيطرة على دول فى الجنوب الأوروبى تمثل له درعا ومنظومة لمشروعه القومى الإمبراطورى البوتينى الجديد.

وثالثا: «التمدد الصينى» الاقتصادى المهول العابر للقارات بنعومة شديدة.

ورابعا: وبالإضافة إلى ما سبق، «الداخل المتأزم الأوروبي»...

وتمثل المواجهات الأربع السابقة مجتمعة تهديدات تنتقص من المكانة التاريخية لأوروبا «القارة العجوز»...لذا أصبحت القارة الأوروبية ــ بحق ــ أمام امتحان تاريخي: «إما أن تكون أو لا تكون»...

ويعد هذا الاختبار هو الأصعب الذى تواجهه أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

وإذا كان الجانب العسكرى قد استطاعت ألمانيا بالاشتراك مع فرنسا وتأييد 21 دولة أوروبية إعلان التوافق على بدء تأسيس «اتحاد دفاعى أوروبي»، فى منتصف نوفمبر الماضي، وهو ما وصفناه ــ فى مقالنا السابق ــ «أوروبا تعتمد على نفسها»، ومن ثم استعدادها للدفاع والذود عن نفسها بعيدا عن القيادة الأمريكية وبخاصة مع التهديدات الروسية المتوقعة. يظل التحدى الاقتصادى قائما امام اقتصادات بازغة قوية مثل: الصين والهند وروسيا وغيرها...وأخيرا تبقى تحديات الداخل الأوروبي.

أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي؛ فإن أوروبا وفى مقدمتها ألمانيا تجد فى الصين شريكا مثاليا يمكن الاعتماد عليه. خاصة ان الصعود الصينى الاقتصادى التاريخى وتمددها الراهن اتسم ولايزال «بالسعى نحو الشراكة النزيهة غير الصراعية». ومن جهتها تريد الصين أن يكون لديها اكثر من «طريق حرير» أو تُطلق عليه: «طرق الحرير». أى لا يكون هناك مسار جهوى واحد للتبادل التجاري. وإنما تكون هناك مسارات متعددة للشراكات الاقتصادية. وفى هذا المقام تضع الصين أوروبا وعلى رأسها ألمانيا أولا(الشريك الأوروبى الأكبر منذ 2013 فى مجال المنتجات الصناعية بنسبة 90% من إجمالى التعاون).

ونأتى إلى الداخل الأوروبي؛ فلاشك أن أوروبا قد استطاعت أن تقضى على المشاكل الأساسية التى كانت تواجه المواطن فى حياته اليومية. حيث برزت نوعيات جديدة من المشكلات أكثر تعقيدا. من هذه المشكلات يمكن رصد ما يلي: أولا: الغضبة الشعبية الجارفة التى تتجلى فيما أطلقت عليه(فى دراسة قيد النشر) «الحركات المواطنية الجديدة» (التى توصف بالخطأ فى منطقتنا بأنها حركات قومية وشعبوية وفاشية وهى حركات مركبة بعضها يسارى مثل: بوديموس الإسبانية وسيريزا اليونانية وخمس نجوم الإيطالية. وبعضها يميني). وهى حركة تعيد بنية الحياة السياسية الأوروبية كليا. ثانيا: تعثر التحول الديمقراطى فى دول ما كان يُعرف بأوروبا الشرقية ما يمثل عبئا على مسيرة الاتحاد الأوروبي. ثالثا: قيام صحوة قومية تشجع على استقلال كثير من القوميات ما يدخل أوروبا فى حالة «تشظي» قومى محتملة. رابعا: التراجع الأوروبى لصالح القوى الصاعدة. خامسا: الاختلالات الطبقية واتساع فجوة اللامساواة. سادسا: تداعيات الهجرة المليونية الوافدة إلى أوروبا على الطبيعة السكانية لأوروبا، وعلى التنمية بمعناها الواسع.

وعليه، بدأت حوارات ممتدة من أجل عمل إصلاحات أوروبية ــ لا مفر منها ــ تحت عنوان: «نحو أوروبا أكثر تكاملا». ذلك لأنها السبيل «لجبر اى شروخ تكون قد حلت بالمنظومة الأوروبية»...ولعل الإشكالية التى احتلت الكثير من المناقشات والمراجعات الفكرية هى إشكالية التعددية الثقافية فى أوروبا. ذلك إيذانا لتشجيع الدول الأوروبية على اتخاذ إجراءات لمواجهة هذه الإشكالية التى بات يعدها البعض «أزمة» لعدم القدرة على إدارتها بحسب ما كان مأمولا. بل أصبح هناك من يعتبرها «قنبلة موقوتة» لابد من التحسب لها. وأظنها قضية جديرة بالتفسير نقاربها فى مقالنا المقبل...

وبعد، هكذا أوروبا فى حالة استنفار كيانية: إما أن تكون أو لا تكون...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern