القارة التي يطلق عليها «القارة العجوز»..تفور حركة وحيوية على كل الأصعدة. العنوان العريض لهذا الفوران هو:«الانشغال بالمستقبل». الجميع يعيد طرح الأسئلة «الحرجة». ويعمل بجدية بحثا عن تصورات قابلة للتنفيذ تضمن استمرارية تجدد الدور. الجميع:ساسة، ومثقفون، وحزبيون، وأكاديميون، وإعلاميون، واقتصاديون، وفنانون، ومن قبل الحيوية القاعدية البازغة ـــ التي أظنها ملهمة ــ والتي اتخذت شكلا حركيا مغايرا للشكل المؤسسي السائد منذ الحرب العالمية الثانية. إنها ما أصفه «بالحركات المواطنية الجديدة» (والتي نصفها هنا بالشعبوية أو القومية)...يحدث هذا ليس في دول أوروبا المتقدمة وإنما في كل دول أوروبا..نعرض في مقالنا اليوم كيف ستواجه أوروبا المستقبل سياسيا وعسكريا...
ولعل من أهم وأخطر ما تم طرحه في الثامن من نوفمبر الماضي هو تسريب الإعلام الالماني وثيقة استشرافية استراتيجية عنوانها: «رؤية استراتيجية ـــ 2040». وتعود أهميتها إلى أنها اُعدت في مؤسسات سيادية تستشعر خطرا تاريخيا. كما تحمل رسالة للعالم ــ بحسب تعليق إحدى المؤسسات التي تعمل في مجال «المستقبلات الجيوسياسية لأوروبا والعالم» تقول: «إن عالم أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد 1991،بهياكله، لم يعد موجودا «is no more».
أما عن السيناريوهات التي جاءت بالوثيقة فإنها ترصد ستة سيناريوهات تواجه ألمانيا والاتحاد الأوروبي والقارة الأوروبية خلال العشرين سنة المقبلة. وذلك كما يلي:
الأول: يرى استمرارية الاتحاد الأوروبي في أداء دوره بالرغم من التحديات والأزمات الراهنة التي يواجهها. الثاني: انغماس ألمانيا في المزيد من المشاركة في عمليات حفظ سلام ومواجهة وتدخل في الداخل الأوروبي وخارجه. الثالث: يصف وقوع توترات عالية الحدة تصيب الداخل الغربي، الأوروبي خاصة، دفاعا عن «القومية». وفي إطارها تتصاعد العمليات الإرهابية. الرابع: يرى المنظومة العالمية تعود لثنائية قطبية ولكن متعددة. حيث يتكون القطب الأول من أمريكا واوروبا ــ وليس الاتحاد الأوروبي ــ . والقطب الثاني يتكون من روسيا والصين. حيث تنمو المنافسة الاقتصادية بينهما مع وجود توتر عال بين هذين القطبين. إلا أن حجم التجارة العالمية المتنامي بإطراد سوف يحول دون وقوع صراعات عسكرية كبرى. (وهو ما أشرنا إليه منذ عامين بالحرب الهادئة). الخامس: ويخص ألمانيا. حيث تتعرض أوروبا والصين إلى متاعب اقتصادية. وهما «السوقان» الرئيسيان لألمانيا. ما يلحق بالاقتصاد الألماني بتهديدات اقتصادية كثيرة. السادس: يميل إلى انهيار كامل للاتحاد الأوروبي. وعدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في لعب دور حاسم لمنع حدوث أزمة كونية. ـ وفي هذه الوثيقة إشارة إلى الصدع الذي حدث بين حلف الأطلنطي وبين الاتحاد الأوروبي. ومن ثم ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها وفي القلب منها ألمانيا.
ولم تمض أيام على إطلاق الوثيقة، ومع أول لقاء للاتحاد الأوروبي وقعت 23 دولة من دول أوروبا (من 28 دولة) أعضاء بالاتحاد على ما عُرف إعلاميا «بالاتحاد الدفاعي الأوروبي». وهي آلية أوروبية بالكامل، من الألف إلى الياء من حيث: الفكرة، ووحدة المصلحة، والتطوير التقني، والتمويل، والهيكلية،...،إلخ.أو ما بات يوصف في الإعلام «بالتعاون الهيكلي الدائم»؛ (اعتذر عن المشاركة كل من البرتغال ومالطا وأيرلندا بالإضافة إلى بريطانيا التي خرجت من الاتحاد والدانمارك التي فضلت عدم الانخراط في الأمور العسكرية)...
ويرى كثيرون أن هذه الخطوة تعد تاريخية بكل المعايير. وأظنها تعد انقلابا أوروبيا هادئا وناعما على التقيد الأوروبي التاريخي بالولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى. فأوروبا اضطرت تاريخيا إلى الدخول في سياسات ميزان القوى فيما بينهما منذ القرن السابع عشر وتحديدا مع صلح وستفاليا (1648)عندما لم تستطع ان تحقق أي من دولها حلم العصور الوسطى في إقامة إمبراطورية عالمية. ما دفعها إلى الرضا باقتسام العالم تحت المظلة الأمريكية الصاعدة مطلع القرن العشرين.(شرحنا ما سبق تفصيلا في كتابنا الإمبراطورية الأمريكية) إلا أن الموقف الأخير يعني بوضوح عودة أوروبا الموحدة أمنيا ودفاعيا وعسكريا والمعتمدة على نفسها في إطار «شراكة مستقلة». ولن يمنع ما سبق أن تُنسق الآلية الجديدة مع الناتو وغيره، عند اللزوم. وفي هذا المقام، نشير إلى أن ألمانيا وفرنسا قد قادتا الأخذ بهذه الآلية من أجل تأمين مستقبل القارة الأوروبية والعمل من أجلها ــ أولا وأخيرا ــ تجاه: تراوحات الموقف الأمريكي و«ابتزازاته» الدائمة، ومواجهة الإرهاب، والطموحات الروسية الباعثة على القلق في القرم، والاستجابة إلى حالات القلق المحتملة في البحر البيض المتوسط، وإفريقيا والشرق الأوسط. ونشير إلى أن هناك من يوصف ما جرى في أن أوروبا تعود إلى ماضيها الاستعماري. وهو ما أظنه تفسيرا اختزاليا لا يدرك طبيعة العلاقات المعقدة بين القوى الكونية الراهنة. وأؤكد أن المستقبل كان العامل الحاكم في سرعة اتخاذ هذه الخطوة. بالطبع هذا لن يمنع أوروبا من أن تسعى من أجل مصالحها شأنها شأن روسيا والصين وغيرهما..
في هذا السياق، لا يتوقف العقل الأوروبي عن طرح القضايا الإشكالية...نعرض جانبا من حصيلته ورد في عدة كتب معتبرة في مقالنا المقبل...