مواجهة «اللامساواة»؛ بتجلياتها المختلفة فى شتى المجالات، باتت معيارا لتقييم برامج الأحزاب فى أوروبا، ومراجعة الحكومات، واختبار مدى جدوى وجدية المشروعات التنموية، وكفاءة المجتمع المدنى بتكويناته... وتمارس هذه المواجهة، بفعل استنفار الجماعة الأكاديمية، والبحثية، والدوائر السياسية، والحزبية والاقتصادية، منذ أن أصدر توماس بيكيتى مجلده العمدة المرجعى المعنون: «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» (2013)، ونجاحه اللافت ــ من خلال دراسته التاريخية الاقتصادية ــ فى إلقاء الضوء على قضيتي: «اللامساواة المتنامية على مدى مائتى سنة، والسوء المتزايد فى توزيع الثروة بين المواطنين على اختلافهم، ومن ثم غياب العدالة المجتمعية المواطنية،
ما أنتج حالة من الاضطراب المجتمعى متنوعة التجليات. وقد أعقب ذلك إصدار مجموعة من الدراسات والكتب سواء من الاتحاد الأوروبى أو الدوائر البحثية الجامعية تحاول أن تبحث عن حلول ناجعة لما بات يُعرف «بأبنية اللامساواة» ــ كناية عن أن حالة اللامساواة قد تمترست فى هياكل وبنى تشغلها «شبكات» منتفعة تدافع عنها وعن استمرارها مهما تكن التكلفة الاجتماعية المدمرة. المهم أن تبقى الامتيازات كما هى حكرا على هذه الشبكات (وقد ذكرنا الكثير من هذه الإصدارات فى مقالاتنا السابقة).
فى هذا السياق، صدر أخيرا كتاب «نحو علم اقتصاد من أجل الخير العام (أو المشترك)» «Economics for the Common Good»؛ لمؤلفه «جين تيرول» الحاصل على نوبل فى الاقتصاد عام 2014. ويشغل «تيرول» موقع رئيس مدرسة تولوز الفرنسية للاقتصاد، ويحاضر كأستاذ زائر لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا الشهير بأمريكا. وقد أثار الكتاب أهمية كبيرة وحوارا واسعا فى الشهور الماضية. كما رشحته الكثير من الملاحق والأروقة الثقافية ليكون كتاب العام. كما لاقى نجاحا تجاريا أدركته فى اثناء شرائى له فى إحدى المكتبات الرئيسية بأمستردام.
يحكى المؤلف فى تقديمه للكتاب موقفا تعرض له كان أثره كبيرا فى صدور مؤلفه. يقول «تيرول»: «إنه ذات يوم استوقفه البعض فى الشارع يطلبون منه التعليق على بعض القضايا الحياتية المثارة. فكر قليلا، وفى أثناء التفكير شعر بمدى المسافة التى تبعد بين القضايا التى تشغل عامة الناس وبين القضايا التى تشغله كباحث فى علم الاقتصاد». وهو ما دفعه إلى ضرورة التحول من عالم اقتصاد أكاديمى يتعامل مع الواقع عن بعد ــ إلى مثقف عام قادر على تلمس احتياجات المجتمع كاقتصادى يلعب دورا ملتزما وفاعلا تجاه المجتمع وحل قضاياه. وعليه انكب على مؤلفه المذكور كمحاولة لدفع علم الاقتصاد للاشتباك مع قضايا المجتمع الحقيقية والتحديات المؤثرة فى حياة المواطنين. ما يحرر «علم الاقتصاد من أن يكون علما كئيبا» ويجعله «قوة دافعة للخير العام». وذلك من خلال وضع «أجندة جديدة» لدور علم الاقتصاد فى المجتمع.
يقدم «جين تيرول» فى ما يقرب من 600 صفحة من القطع الكبير، أطروحته أو «المانيفستو» ــ بحسب وصفه ــ انطلاقا من محاولة إعادة تحديد دور علم الاقتصاد بأنه: «ليس خادما للملكية الخاصة والمنفعة الفردية فقط. ولا خادما لقلة توظف الدولة لمصالحها». وإنما علم الاقتصاد يعمل من أجل الخير العام/المشترك؛ لكل المواطنين دون تمييز.
وعليه، يطرح تعريفا للخير العام/المشترك بأنه: «الطموح/السعى الجماعى من أجل مجتمع أفضل» لكل مكوناته. أخذا فى الاعتبار تعددية الجسم الاجتماعى الطبقية والثقافية والسياسية وتنوع مطالبها ونسبية رؤاها.
وفى هذا المقام يدين اقتصاد السوق الذى فى المجمل وبعد عقود من الأخذ به لم يستطع أن يقنع يربح «القلوب أو العقول» على السواء. ذلك لأننا لم نحصد سوى «اللامساواة» وتهديد «التماسك الاجتماعي» «Social Cohesion». ففى الحالتين الأولى: التى جارت فيها المصلحة العامة على مصلحة المواطنين أو الشمولية. والثانية: التى بالغ فيها الأفراد ممن ينتمون لعقيدة السوق من تفضيله، انتهى الأمر باختلالات نوعية هائلة فى بنيتى الدولة والمجتمع...ومن ثم لابد من إعادة الاعتبار والإحساس بالخير/ الصالح ــ العام/ المشترك؛ التى تضمن استمرارية الحياة بكرامة للجميع.
فى هذا الإطار، يضع زجين تيرولس سؤال الكتاب المحوري: «كيف يمكن لعلم الاقتصاد أن يُسهم فى دعم الطلب على «الخير العام»؟...وذلك بابتكار المؤسسات والسياسات الاقتصادية والأدوات الداعمة والتى تيسر تحقيق الحياة الأفضل على قاعدة «الخير العام» حيث لا يجور العام على الخاص ولا الخاص على العام. أو بلغة أخرى نستعير فيها مفردة من لغة الحاسوب كيف يمكن أن تتوافق «Compatible»: «المصالح الفردية مع مصلحة الجماعة وسلامتها الجماعية».
وعلى مدى خمسة أقسام تتكون من سبعة عشر فصلا وخاتمة يتعرض المؤلف إلى العديد من الموضوعات منها: علاقة الاقتصاد بالمجتمع. ومهنة الاقتصادي. وفى خطر اقتصاد السوق على تماسك المجتمع. واللامساواة المتزايدة. الحدود الأخلاقية لاقتصاد السوق أو سقوطه. الإطار المؤسسى للاقتصاد فى ظل دولة حديثة بعيدا عن محترفى الاقتصاد التكنوقراط. وضرورة إصلاح الدولة قبل الاقتصاد.
ورصد التحديات الاقتصادية الكبرى مثل: تحديات سوق العمل، والتغير المناخي،.. والتحديات الصناعية. وكيف أن «الرقمنة» تغير كل شيء. والتنظيم القطاعي. والابتكار والملكية الفكرية،...إنه كتاب جدير بالترجمة والنقاش.