أوروبا فى الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر الماضي، فى وقت كانت بعض دول أوروبا منشغلة بالاحتفال بمرور 500 سنة(1517) على الإصلاح الديني. كذلك انخراط الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية بمرور 150 عاما على صدور الجزء الأول من كتاب رأس المال لماركس (1867). ومرور 100 سنة على انطلاق الثورة الروسية(1917)...
وتشير المتابعة المتأنية للكيفية التى يتم بها الاحتفال بهكذا مناسبات إلى عدة أمور: أولها: التقدير الوطنى للانجازات التى تجاوزت الحدود وكان لها أثر إنسانى لا يخفى على أحد. ثانيها: تنشيط الذاكرة التاريخية الوطنية والأوروبية وجعلها حية فى وجدان الأجيال الجديدة. بإعادة التذكير بالأدوار التى قام بها رموز هذه المناسبات. وبالأماكن التى جرت فيها الأحداث. والآثار التى ترتبت على الأحداث والكتابات...إلخ. ثالثها: إعادة قراءة التاريخ قراءة جديدة ولا مانع من أن تحمل مراجعات لهذا التاريخ وأحداثه ورموزه لأنه «لا قداسة للتاريخ». وذلك من خلال الندوات والمؤتمرات والأفلام الوثائقية والكتب العلمية والتذكارية والأعمال الفنية. رابعها: والأهم هو إطلاق حوار عام يتجاوز النخبة إلى المواطنين العاديين وبخاصة الأجيال الجديدة منها. التى باتت تعكس «مزاجا عاما» له وجاهته ــــ مهما كان منطقه بسيطا ــــ وله حضوره الضاغط الذى يفرض على النخبة عدم تجاهله من جهة. ومن جهة أخرى يدفعهم ليس فقط فى إعادة النظر للإشكاليات المعاصرة بل الاجتهاد فى معرفةما العمل؟ فى كيفية معالجتها...
وأذكر أننى شاهدت برنامجا يناقش تشريعا تريد إحدى الحكومات الأوروبية تمريره. وتختلف الأحزاب حوله ومن ثم تتراوح بين مؤيد ومعارض. ورصدت أجهزة الرأى العام أن هناك «مزاجا شعبيا» لرفضه. لم يناقش البرنامج مضمون التشريع بقدر ما ناقش موقف أو «مزاج» الرأى العام. وأنه لا يمكن التغافل عنه ولا يكفى القول إن هناك من يمثلهم برلمانيا. وكانت المناقشة رفيعة المستوي.
ويبدو لى أن ما وصفته «بالمزاج العام» لدى عموم المواطنين ــــ على اختلافهم ـــ هو إحدى وسائل المقاومة التى يتسلحون بها فى مواجهة مؤسسات وسياسات لاتخدمهم بقدر ما تخدم القلة. وهو ما اعتبرته النخبة رصيدا لها وشجعها على إنتاج أعمال تاريخية فى الأعوام العشر الماضية بعدما ثبت أن الأزمة المالية العالمية التى حدثت فى سنة 2008،والتى وصفت بأنها «الأزمة الأسوأ فى تاريخ البشرية». وعليه انطلقت ما أسميه «الحركات المواطنية الجديدة» والتى نصفها هنا ـــ بالخطأ ـــ «بالقومية»،والشعبوية،الضد مؤسسات،...،إلخ. فهى ليست كذلك بالضبط. ولكنها أكثر من ذلك إنها لحظة تحول عميقة وناعمة تتم من خلال كتلة تشعر بالإقصاء من حسابات القلة. وتؤكد أن مؤسسات وسياسات وتحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية قد فقدت صلاحيتها. وعليه أنتجت هذه الكتلة نخبتها التى تطرح أسئلتها الجديدة وإبداعاتها. وتأتى المناسبات التاريخية لتكون فرصة لإبراز جديد هذه النخبة. حدث هذا عندما جاءت ذكرى الحرب العالمية الأولى فى العام الماضى وقبلها ذكرى نابليون،...،إلخ.
مما سبق، تؤسس هذه المناسبات بالمعنى الذى طرحناه ـــ ورأيناه ـــ ما يمكن أن نطلق عليه «فضيلة المراجعة». وهى الآلية التى تضمن ديمومة تحول(ولادة) «آمنة» نحو التقدم. ومن ثم لا يوجد «ممنوع أو محذور» فكل شيء قابل للنقد والمراجعة. وتمثلت الأجيال الجديدة والشرائح المهمشة هذه الفضيلة لتمثل «مزاجا عاما»، تلقفته نخبة جديدة تبلور رؤى مبدعة فى الاقتصاد، والمجتمع، والثقافة، والسياسة،...،إلخ. ونشير هنا إلى الكتاب المهم لكارل بولانيى «التحول الكبيرالذى أكد أن التغيير مشروط بالمراجعة الدائمة»...
فى هذا المقام، يمكن أن نرى عناوين ندوات وأبحاثا تتحدث عن:«مستقبل الإصلاح الديني«، و«مراجعة دور المؤسسات الدينية»، و«ما هو الميراث الذى تركته ثورة أكتوبر الروسية»، وما الذى أخفقت ونجحت فيه ثورة 1917»، و«كيف ستنتهى الرأسمالية»، وهل الاشتراكية ضرورة؟،...،إلخ.
ولا تقف القضايا المثارة عند حد الموضوعات المرتبطة بالأحداث مباشرة أو ما يتفرع عنها. بل نجد العقل الأوروبى منشغلا بدور أوروبا نفسه المستقبلي. والأهم الاجتهاد فى تصور عالم أفضل. وفى هذا المقام نشير إلى عدة كتب نشرت الشهور الماضية (لا تقل أهمية عن مجلد بيكيتى الشهير:«رأس المال فى القرن الواحد والعشرين، الذى أثار جدلا كبيرا والذى شرفنا بلفت النظر إليه بمجرد صدوره عام 2013)، منها: «الاقتصاد من أجل الخير العام لجين تيرول»، و«دفن العالم الجديد: نهاية العولمة وعودة التاريخ لستيفن كينيج«، و«المربع والبرج:الشبكات والهيراركيات والصراع من أجل القوة العالمية لنيل فيرجسون«، وغيرها...لنا عودة إليها لاحقا...
الخلاصة، يتبلور فى أوروبا «مزاج عام» شعبى قاعدته كتلة مهمشة متضررة من العولمة وسياسات الليبرالية الجديدة تشكل حركات خارج الأحزاب التقليدية حركة البوديموس الإسبانية، والخمس ومنها نجوم الإيطالية، وغيرها (كنا أشرنا إليه فى مقالات عدة حول الحركات المواطنية والقاعدية الجديدة) وقد جرأت هذه نخبة جديدة على إعادة النظر« Re Consideration وعبرت عن أحلام وتطلعات هذه الكتلة..ولم تقف هذه النخبة عند حد إعادة النظر بل تجاوزته إلى الإجابة عن سؤال:ما العمل,...نتابع...