حرب أكتوبر هى لحظة حق كبرى فى تاريخ مصر. عاصرها جيلنا وكنا بعد فى المرحلة الثانوية. عايشناها يوما بيوم، آنذاك، ودرسناها كباحثين، لاحقا، وأدركنا أهميتها الاستراتيجية التاريخية العالمية، بحسب جمال حمدان...
أثرت حرب أكتوبر، كما يقول يوسف الشاروني، على «المثقفين انعكاسات مختلفة بحكم اختلاف اختصاصاتهم». ولم يكن الأدب بعيدا عن الحدث الكبير. حيث تنوع التعبير عنه: شعرا، وقصة، ورواية، وأفلاما سينمائية، وأخرى وثائقية،...،إلخ.
وفى هذا السياق، كتب منذ أسابيع صديق العمر وأستاذنا نبيل كامل مرقس، الخبير التنموى وأحد عقول مصر المهمة ثلاث «أقاصيص» تحت عنوان رئيسي: خبرة حياتية من حرب أكتوبر. وعناوين فرعية كما يلي:
الأولى: ظهر يوم السبت 6 أكتوبر». والثانية: «آخر ضوء يوم الاثنين 8 أكتوبر. وثالثا: آخر ضوء يوم الثلاثاء 9 أكتوبر. وتقع «الأقصوصة» فى حدود الصفحة من الحجم الكبير عن خبرته «كمشارك» فى الخطوط الأمامية للحرب الأيام الثلاثة الأولى منها.
كتبها نبيل كامل مرقس بلغة أدبية رفيعة المستوى. لغة مكثفة وتفصيلية فى آن واحد. أو الإيجاز البليغ؛ بتعبير تشيكوف، بحسب التعليق الذى ردده صديقنا الباحث فى مجالى البترول والغاز والروائى عمرو كمال حمودة تعقيبا على قراءته «للأقاصيص».
والنص أكثر من شهادة شخصية أو توثيقية لحدث كبير. إنها لحظة إنسانية حقيقية ثرية بالمشاعر والأفكار. وباستنفار القدرات والاعتصام بالتماسك الإنسانى فى مواجهة تحديات مصيرية...من هذه النصوص أختار الأقصوصة الثالثة للقراءة والتأمل...
وقفنا على حافة الكوبرى من الناحية الشرقية. بدا الرائد طلعت (رئيس العمليات) فخورا بالإنجاز، فقد استطعنا إصلاح الكوبرى المعطوب وإعادته إلى التشغيل فى خلال ساعات معدودة من إصابته بضربات الطائرات الإسرائيلية الغاشمة. ونحن نستمتع بهذا الشعور الدافق بالقدرة على الفعل والإنجاز، بوغتنا بسيل من الطائرات الإسرائيلية تندفع ناحية الكوبرى كما لو كانت تترصدنا. تحركنا بسرعة للاختباء داخل الحفر البرميلية المتناثرة خلف الساتر الترابى الذى احتمى به الإسرائيليون طويلا قبل ساعة العبور العظيم. تلاحقت الضربات الإسرائيلية تستهدف جسم الكوبرى العائم ومن عليه من أفراد.
بدأ جسم الكوبرى يتهاوى تحت وقع الضربات المركزة والمتلاحقة. وتصاعدت من حولى انفجارات القنابل العنقودية المضادة للأفراد (ما نسميه باللغة الدارجة قنابل البلي) التى تنفجر عادة بشكل متتال علي ارتفاع قريب من سطح الأرض وتغطى بالشظايا المكونة من الأجسام المعدنية وكرات البلى دائرة واسعة تمتد بعيدا عن مركز الانفجار لتصيب عددا غير محدود من الأفراد. وتزاحمت حولنا أنات وصرخات الجرحى والمصابين والمفزوعين والمكلومين. فى وسط سحابة الموت المكللة بالسواد التى تمددت تفترش ارجاء المكان، لم يظهر منا سوى كتل متناثرة من اللحم الممزق والأشلاء غير المكتملة وعدد من الكائنات المذعورة تزحف على سطح من الدم والرماد والألم. كانت تبحث فى هلع عن أى شيء حى يتحرك لتلتصق به وتحتمى به من الموت القادم من كل صوب. التصقت بالرائد طلعت رئيس العمليات، كان صدره العارى مغطى بالدماء. بينما كانت عيناه الدامعتان معلقتين بالكوبرى «الغاطس» بعد أن أصابته ضربات العدو المتتالية. كان يشعر بالألم والمهانة بعد كل الجهد الذى بذله مع أبطال الكتيبة من الجنود البواسل للدفاع عن شرف مصر وكرامتها. كان الموت والسواد يحيط بنا من كل اتجاه، ولكن إرادة الحياة التى تنتفض داخلنا كانت تبحث عن ثغرة للنجاة. حضر اللنش من الضفة الأخرى وتحركنا ببطء دون تدافع نمسك بأيدى من جاءوا للإنقاذ والمساعدة.
كنت أشعر باختناق وآلام فى صدرى نتيجة التعرض للموجة الانفجارية القريبة التى عبرت بي. بينما تظل صلوات الأم الملتاعة تلاحقنى تحيط بأنفاسى تكاد تعبر بى من الظلمة الى النور من الموت الى الحياة من اللعنة الى البركة ومن الهلاك إلى النجاة. وهى لم تتوقع منى شيئا بالمقابل سوى استجابة ولو بكلمة لهذا الحب المتدفق العظيم.
وقفت فى وضع شبه متماسك على الشاطئ وأخذونى إلى نقطة اسعاف قريبة. دخلت وسط حشد من الجرحى والمصابين وضحايا القصف والانفجارات. كنت أبدو فى حال أفضل ، فقط اعانى من ضيق فى التنفس وأعراض ما بعد الصدمة. كشف على أحدهم فى عجلة وأمر لى بالترحيل الى مستشفى القصاصين.
خرجت بعيدا عن خط المواجهة، وزملائى الأبطال على الشاطئ ما زالوا يعملون فى همة ونشاط على تفكيك ما تبقى من الكوبرى لتحويله الى عدد من المعديات تعمل فى خدمة قواتنا على البر الآخر. ورغم الموت والألم ، كانت إرادة الحياة التى حفظت مصر عبر التاريخ تنساب بقوة عبر عقول وسواعد وافئدة أبنائها من المصريين».
وبعد، وبالرغم من مرور عقود إلا إن حرب أكتوبر وتجلياتها الإنسانية لم تزل حية خالدة. مايدل على زخم الحدث وحيويته فى عقول ووجدان المصريين جيلا بعد جيل...تحية لنبيل كامل مرقس ولأبطال أكتوبر وللمصريين الذين «يمشون فاردين طولهم متطلعين إلى الأمام» دوما؛ إذا ما استعرنا كلمات العزيز جمال الغيطانى بفضل البطل «الرفاعي» ورفاقه...