إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى والصراع حولها

اصدار وثيقة للأمن القومى مع كل رئيس جديد يتولى إدارة الولايات المتحدة الأمريكية هو تقليد تاريخي. وتجديدها خلال دورة رئاسته أمر متعارف عليه.

فمن خلالها تحدد الإدارة الأمريكية الجديدة أولوياتها بشكل منهجى. كما تعكس قدرا من الشفافية عن مدى تطابق ما أعلنه الرئيس فى حملته الانتخابية من وعود تتعلق باستراتيجيته المزمع تطبيقها وما يتم تنفيذه منها، ونسبته، على أرض الواقع...وحتى منتصف أغسطس الماضي، تقريبا، لم يكن «ترامب» قد اعلن شيئا حول رؤيته ورؤية ادارته الاستراتيجية للأمن القومي.

ما دفع هنرى كيسنجر السياسى الكبير العجوز أن يتحدث عن حدود الفوضى والنظام فى عالم يتغير تغيرا شديدا «مطلع اغسطس الماضي». كذلك روجر أوين الأكاديمى بهارفارد يطرح سؤالا «دالا» بعد مرور سبعة أشهر كاملة من تولى ترامب منصب رئيس أمريكا يقول فيه: هل من أحد فى السلطة؟ «منتصف أغسطس الماضي».

.هذا بالإضافة إلى تندر البعض فى الإعلام الأمريكى عن احتمال أن تكون هناك استراتيجية سرية ومدى مشروعية ذلك سياسيا ونيابيا وديمقراطيا.

ونشير إلى أنه فى دراستنا لمسيرة هذه الاستراتيجيات يتم التمييز بين «استراتيجيات ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها». فمنذ الحرب الأهلية الأمريكية ـ فى الثلث الأخير من القرن الـ 18، كانت الاستراتيجيات الأمنية الأمريكية عسكرية بالأساس... وكانت هذه الاستراتيجيات ـ بحسب الباحث والإعلامى الشهير فريد زكريا ــ لا تصنعها الأمة ككل وإنما يصنعها أصحاب المصالح فى خدمة ما أطلقنا عليه ــ مرة ــ : «التوسع الأمريكى من الداخل إلى الخارج» راجع كتابنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة ــ 2003،.. وكان الرئيس الأمريكى مدعوما بأصحاب المصالح ـ يطرح رؤية هى أقرب إلى الاستراتيجية العسكرية المباشرة أكثر منها استراتيجية شاملة للأمن القومي...فى ضوء ذلك عرفنا مبدأ مونرو (1823)..كما عرفنا مبدأ العصا الغليظة الذى وضعه تيودور روزفلت (مطلع القرن العشرين).

إلا أن أزمة الكساد الكبير التى عرفتها أمريكا فى 1929، أدت إلى خلخلة احتكار أصحاب المصالح فى تشكيل السياسات القومية العليا لأمريكا. وأتاحت للشرائح الاجتماعية الوسطى حضورا فاعلا لمراجعة هذه السياسات ونقدها وتقديم البديل. والأهم أنها دخلت فى صراع لافت مع ما يُعرف «بالمجمع الصناعى العسكرى التكنولوجي». وذلك وقت الرئيس فرانلكين روزفلت (1933 ــ 1945) الذى طبق سياسة «الصفقة الجديدة الكينزية New Deal»، وحظيت بتأييد العمال والمنظمات المدنية وملايين من المزارعين وموظفى الحكومة وجميع الجماعات العنصرية والاجتماعية لهذه السياسة...والتى أيدها الليبراليون واليساريون فى أمريكا أيضا... ما دفع المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى بوصفه بـ«الرئيس الأحمر». لهذا سارع المجمع عقب موته يحاول استعادة حقه منفردا فى وضع هذه الاستراتيجية.

إلا ان توازنات القوى آنذاك قد أدت إلى القبول بصيغة وسط تتيح لجماعات المصالح وللإدارة والحزب الحاكم وقاعدته الاجتماعية معا وضع استراتيجية الأمن القومي. ومن ثم صدر قانون «الأمن القومى الأمريكى» سنة 1947 فى عهد الرئيس هارى ترومان، حيث تم تقنين إلزام الرئيس الأمريكى بإعلان رؤيته الاستراتيجية للأمن القومي.

ومنذ مطلع الخمسينيات ارتبط إصدار أو تأخر أو عدم إصدار استراتيجية الأمن القومى بطبيعة التفاعلات الداخلية بين القوى المختلفة. سواء بين جماعات المصالح والحزبين الكبيرين وبين القوى الاجتماعية التى تتحرك من خارج الأطر سالفة الذكر...ولم يفلح التطويق الذى حاوله ترومان ومن خلفه أصحاب المصالح فى منع القوى الاجتماعية من التأثير بدرجة أو أخرى على صياغة هذه الاستراتيجيات...وهو ما كشف عنه كثير من الدراسات الحديثة. كما لم تمنع كاريزما كيندى وكلينتون وأوباما وقاعدتهم الشعبية مؤسسات الدولة من التدخل.

وعليه، يمكن تفسير تأخر إعلان ترامب لاستراتيجية الأمن القومى ثم تقديمه بعضاً من ملامحها فى حديث له بولاية فرجينيا الأسبوع الأخير من أغسطس الماضى بأن هناك صراعا داخليا بين مؤسسة الرئاسة وبين المؤسسات العسكرية والأمنية الأمريكية. فكل ما أعلن أثناء الحملة الانتخابية ثم تسرب عن رؤى مستشارى ترامب حول باكستان فى العموم وأفغانستان خصوصا ويتعلق بالخروج الآمن منها.

إنما يشير إلى تضارب فى الرؤي...تضارب انتصرت فيه المؤسسة العسكرية لرؤيتها ومن خلفها جماعات المصالح. وهو ما تأكد من خلال مقال لزالماى خليل زادة الذى عمل سفيرا لأمريكا بكابول من 2002 إلى 2005 (نيو يورك تايمز فى 23 أغسطس).

كذلك تعيين الجنرال جون كيلى كبيرا لهيئة موظفى البيت الأبيض. واطلاق يد الجنرال اتش. آر. ماكماستير مستشار الأمن القومى الذى حل محل المستقيل مايكل فلين. وكلها تدور حول مسئولية أمريكا فى درء التهديدات التى تواجهها فى هذه المناطق والتى ربما تمتد إلى ما هو أكثر من ذلك. خاصة مع غموض ما أعلنه ترامب...

ويبقى السؤال إلى متى سوف يظل هذا الصراع...وما دلالته، وما تداعياته. فى ظل داخل مرتبك... وخارج يشهد تفجيرات كورية ومناورات روسية، وتمرد إيراني...هذا ما سيجيب عنه المستقبل...أخذا فى الاعتبار أهميته.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern