ماذا جرى لقارة الأحلام؟...وما الذي أصاب الحلم الأمريكي الذي من ضمن أحد أهم عناصره المبهرة هو قدرته على صهر المختلفين من الوافدين إليه من شتى أنحاء العالم؟...هل «البوتقة» الأمريكية فقدت صلاحية «الصهر» التاريخية بين الأعراق المختلفة؟...ولماذا؟
كل هذه الأسئلة وغيرها، أصبحت محل نقاش واسع في المحافل البحثية، والبرامج الإعلامية، وعلى صفحات الكتب والدوريات المختلفة. فعلى مدى السنوات العشر الأخيرة طلت «بحدة» أحداث عنف مجتمعية ضد غير البيض في الولايات المتحدة الأمريكية. وتسارعت هذه الأحداث في عهد ترامب، بشكل غير مسبوق. والأخطر هو انحياز الرئيس نفسه للممارسات التي تقوم بها ما يمكن أن نسميها «جماعات الكراهية البيضاء» ضد كل من هم لا ينتمون إلى اللون الأبيض...
وهي الظاهرة التي أشرنا إليها مبكرا في أكثر من مقال حول مدى «الانقسام» المجتمعي الحاد الذي طال الولايات المتحدة الأمريكية ويمثل «ارتدادا» للإنجازات التي تم اكتسابها نتيجة لنضالات حركات الحقوق المدنية التي انطلقت في الستينيات ونجحت في تحقيق: تشريعات، وقوانين، ومناهج تعليم،...،إلخ، تصب كلها في دعم المواطنة من جانب، في محاولة لترميم شروخات السنين من اضطهادات وعنف ممنهج ضد السود في المقام الأول من جانب آخر. ما أثمر في النهاية وصول «أسود» لرئاسة امريكا. (راجع مقالنا المعنون: أمريكا بين جدل الاستقلال والانقسام ــ الأهرام 27 يوليو 2017). إلا أن حادث «شارلوتسفيل بولاية فرجينيا» جاء ليكشف لنا عمليا ماذا يحدث في «القاع» الأمريكي...من الذي يمارس العنف؟ ولماذا؟ وما دلالة واقعة فرجينيا وتداعياتها؟
أولا: ’’جماعات الكراهية والعنف البيضاء‘‘؛ هي التي تمارس العنف المادي وتشيع ثقافة الكراهية ضد الملونين من جميع الأعراق، بدعوى أنهم الأمريكيون الحقيقيون. وهم جماعات ثلاث تنتمي إلى تعظيم اللون الأبيض. وأنهم الأمريكيون الحقيقيون. نرصد هذه الجماعات في الآتي: الأولى العرقيون الجدد البيض الأنقياء الذين يرون في «اللون الأبيض» علامة هوية أحادية/منفردة (إذا ما استعرنا تعبير أمارتيا سِن في الهوية والعنف الحاصل على نوبل في الاقتصاد). وأن غير البيض لا يعتد «بأمريكيتهم». وفي هذا استعادة للفكرة التاريخية بأن المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية هم ال“WASP”(الوايت أنجلو ساكسون بروتستانت). وأن حماية أمريكا تستدعي عدم تلوثها باختلاط هؤلاء العرقيين البيض بالهويات الأخرى.(راجع مؤلفنا الامبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة ــ 2003).
الجماعة الثانية ويندرج تحتها من يمكن تسميتهم «الفاشيون الجدد». وهم يجددون الدعوة الانفصالية التاريخية التي كانت ترفعها ولايات الجنوب إبان وبعد حرب الاستقلال. من هذه الجماعات والتي ظهرت ظهورا واضحا جماعة «كو كلوكس كلان»»(تأسست في 1866) وهي يمينية فاشية تستظل بالدين لممارسة العنف تجاه الزنوج في أمريكا. وتمارس العنف وهي مُقنعة. وقد قدمتها السينما الأمريكية وكشفت مدى عنفها المُفرط في أكثر من فيلم لعل أشهرها ما قامت به في ولاية ميسيسبي من قتل وحرق وترويع. ولعل أخطر ما تروج له هذه الجماعة هو ضرورة هدم ما هو قائم تختلط فيه أمريكا الحقيقية بدخلاء. ومن ثم إعادة بناء أمريكا بيضاء جديدة.
أما الجماعة الثالثة النشطة ضد الملونين فتضم: «النازيين الجدد» (بحسب جون ميتشام في مجلة التايم). إنهم «أحفاد الرايخ» أو «رماده» الذي سيعاود الاشتعال مرة أخرى في وجه الملونين وهي جماعة تعتنق فكرة هتلر حول النقاء العنصري الأبيض.
ثانيا: في إطار حالة ’’التشتت التي انتشرت في قطاعات كثيرة بين الأمريكيين بسبب ما يشاهدونه من تجاذبات و استقطابات سياسية‘‘. تحركت جماعات الكراهية البيضاء التي تتكون من: «العرقيين والفاشيين والنازيين الجدد» وكان ظهورهم الأوضح في الاعتداء على مدينة شارلوتسفيل المدينة الجامعية ذات الطابع «المدني والمديني» والتي تجمع بين عديد ألوان الطيف وتعكس روح أمريكا «البوتقة». وذلك من خلال القيام بتظاهرات استعراض القوة ضد الكتلة المدنية المتعايشة العناصر من كل الإثنيات. حيث قام أحد الذين ينتمون إلى جماعة «النازيين الجدد» بقتل إحدى الطالبات دهسا بسيارة كان يقودها. ردا على موقف المدينة التي عُرفت بأنها ضد القادة التاريخيين الذين ينادون بالانفصال والمنحازين إلى استعباد الملونين.
وبعد، هذا ما حدث ويحدث في الولايات المتحدة الأمريكية وبدأ يثير الجدل كما أشرنا من قبل. ومن الأهمية بمكان أن نضع أيدينا بدقة على سبب انتشار مثل هذه الممارسات «العُنفية» في جسم المجتمع الأمريكي؟ وتزايد وتيرة حدوثها؟ وبالتبعية تنامي ثقافة الكراهية؟...
هل يعني أن هناك ’’تصدعا‘‘ في بنية المجتمع بفعل هذا التناقض اللوني ــ العرقي ـ الحضاري...ونقف عند حدود الاختلافات الحضارية الثقافية...
أم أن ما يحدث هو انعكاس عميق لأزمة أعقد جوهرها الصراع الطبقي الحاد؟ أم أن الأمر هو تقاطع لأزمة مركبة بين الأمرين؟...
وهل أصلا يمكن أن يتعرض مجتمع كبير لدولة متقدمة وصفت يوما بأنها: قطب أوحد، وقوة عظمى وحيدة، وإمبراطورية للتصدع وللصراع ؟...هذا ما سنقاربه في مقالنا القادم...نتابع...