الرأسمالية والمواطنة والمسئولية الاجتماعية

انشغلت الفترة الماضية بقراءة عدة كتب تعالج موضوعا واحدا من زوايا متعددة...موضوع أظنه لم يأخذ اهتماما كبيرا في كتاباتنا ألا وهو: »الدور المجتمعي للرأسمالية من منظور المواطنة«...

أطلعت من خلال قراءات متنوعة على تجارب الهند وتشيلي وبولندا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية عن موقف الرأسمالية في كل دولة من هذه الدول ودورها في فترات التحول والأزمات والانطلاق المجتمعية المختلفة، فلقد كانت الرأسمالية تستجيب لحاجة المجتمع. ما طور أدوارها بالتالي...



قد يقول قائل: إن الرأسمالية لا تتحرك لوجه الله. وقد يقول قائل آخر: هل تقارن تطور الرأسمالية في هذه الدول »برأسماليتنا« التي لم تزل في البدايات. وقد يقول قائل ثالث: كيف يحدث تطور مجتمعي ونصف اقتصاد البلاد يعد غير رسمي،...،إلخ. اتفق مع هذه الملاحظات المنهجية التي لا تخلو من وجاهة. إلا أنه يبقى البعد الاسترشادي لهذه التجارب. يضاف أن قراءة هذه التجارب تشير إلى أن التفاعل الإيجابي بين ــ سأقول ــ »الرأسماليات المختلفة« وبين المجتمع بمواطنيه على اختلافهم فد أدى إلى انتعاش لجميع الأطراف، وهو ما أظن ان ارهاصاته متوافرة لدينا.

فالعالم الغربي الذي طاله الركود الشديد بعد أزمة 1929 وأدى إلى إفلاس آلاف البنوك وانخفاض حجم الأجور المدفوعة إلى 60%، بالإضافة إلى بطالة وصلت إلى 12 مليونا من العاطلين قد أسهمت في أن تعيد الرأسمالية التفكير في ممارساتها، وبالفعل بدأ تشكل ما بات يعرف في الأدبيات بمرحلة ما بعد »الفوردية«(نسبة إلى فورد رائد صناعة السيارات الشهير). فلقد اتسمت هذه المرحلة باهتمام الرأسمالية »برفاهة المجتمع«، ولو تحت ضغط،(بحسب جالبيرث في كتابه تاريخ الفكر الاقتصادي)...فتعددت أشكال الاهتمام بالمجتمع ومواطنيه.

من جهة قامت الرأسمالية بتطوير نظم تأمينية وصحية للعاملين في المصانع والشركات التي تملكها، والأهم، من جهة أخرى، دعمها المالي لكثير من المشروعات ذات الطابع التنموي والثقافي من خلال المجتمع المدني. أخذا في الاعتبار استثمار الطبقة الوسطى التي كانت من الوعي بأن تتلقف هذا الدعم وتمارس دورا طليعيا من خلال التشكيلات المدنية والسياسية والثقافية المتنوعة، حدث هذا في إسبانيا منذ مطلع الثمانينيات ما يسر تحولا ديمقراطيا ناعما وناجحا وتقدما اقتصاديا متميزا، كما حدث ذلك في الهند ما دعم إمكانية تجاوز الاحتكاكات الطائفية الحادة، كذلك في تشيلي، وبولندا،...،إلخ.

إذن، كانت المنفعة متبادلة بين الرأسمالية وبين المجتمع، فالدعم الرأسمالي لم يعطها الحق في التحكم في مسارات المجتمع المدني بما يتضمن من ألوان طيف مختلفة، كما انعكست حيوية المجتمع المدني إيجابا على المجال الاقتصادي بدرجة أو أخرى، ما سمح بتطور دور الرأسمالية في هذه المجتمعات من:

أولا: الدور الإغاثي. إلى ثانيا: الدور الخيري. إلى ثالثا: الدور الخدمي. إلى رابعا: الدور المجتمعي الأكثر شمولا إلى خامسا: الدور التنموي...

فلقد حرر هذا التطور التفاعلي بين الرأسمالية والمجتمع ـــ بعض الشيء ـــ من: أولا: الدور التحكمي لرأس المال عند تمويل بعض الأنشطة وكأنها امتداد لنشاط الشركات التي تتبعه. وثانيا: النظر إلى الخدمات باعتبارها «سلعا». وثالثا: التكاسل عن ممارسة المسئولية المجتمعية تجاه المجتمع ومواطنيه. ورابعا: الهيكلة المؤسسية النمطية إلى هيكلة تتضمن ـــ بالضرورة ـــ إدارات تعنى بالمجتمع وكيفية تنميته وتنمية مواطنيه. ومن ثم ميلاد جيل جديد من الشركات يطلق عليه: Corporate Citizenship.

لقد رافق هذا التطور أن تبلور »عقد اجتماعي جديد« بين الرأسمالية والناس باعتبارهم مواطنين. وحدثت تحولات على أرض الواقع على أربعة مستويات.

أولا: على مستوى المواطنين؛ من حيث توفير منتجات آمنة، ومعايير عمل علمية، وسلامة مهنية، واستجابة للحقوق بأبعادها، وتأمين فرص متساوية.

ثانيا: المساهمة في العملية التنموية للمجتمع في مجالات تتجاوز الإغاثة والخيرية مثل: التعليم(أكاديميات تعليمية) والصحة(معاهد طبية ذات طابع تعليمي/مجتمعي)، والفن والرياضة،...،إلخ.

ثالثا: على مستوى المجتمع والواقع والبيئة من حيث تطبيق تكنولوجيات خضراء متطورة ومتميزة.

رابعا: تنشيط المجال العام: السياسي والمدني؛ بدعم سياسي حزبي (شريطة ألا يكون الحزب امتدادا للشركة) ودعم المؤسسات. لقد دفعت الضرورة في كثير من المجتمعات إلى ضرورة المبادرة من أجل فتح آفاق جديدة نحو التطور و«عبور« لحظات التأزم بما يدعم المواطنة وتطلعات المواطنين دون تمييز بين الأثرياء والفقراء، أو بين الرجال والنساء، أو المختلفين دينيا أو سياسيا،...،إلخ. وتقول خبرة الدول التي مارست فيها الرأسمالية دورا مجتمعيا حقيقيا وفق إحساس ــ نسبي ــ بالمسئولية أنها حظيت على تأييد العمال والمنظمات المدنية وملايين من المزارعين وموظفي الحكومة وجميع مكونات المجتمع لهذه السياسة...كما أسهمت في تطوير السياسات العامة الحكومية فباتت أكثر فاعلية وتأثيرا في حياة المواطنين. كذلك ارتفع أداء الخدمات والمرافق العامة، كما ارتفعت معدلات النمو والتوظف، وترسخت الديمقراطية لتستوعب الطاقة الحيوية المجتمعية.

بالطبع لم يكن الأمر سهلا، ولم يلغ هذا من صراع المصالح، إلا أن هناك حدا أدنى تم التوافق عليه في ضوء رؤية عميقة لكيفية النهوض بالوطن...وأظن أن الأمر جدير بالنقاش...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern