أشرنا فى مقالنا السابق إلى أن أبحاث «المخ/الدماغ» قد اثبتت أن التقنيات الرقمية المتنوعة والتى ترتبط معا من خلال حزمة محركة جامعة بينهم: هى الانترنت؛ بات لها من القدرة على التأثير على «العقل البشرى» وجعله فى حالة تغيُر دائم...الأكثر من ذلك، وهو ما نناقشه اليوم، هو رفع قدرات العقل وإمكاناته كما لم يحدث من قبل فى التاريخ الإنسانى...كيف؟
أولا: رفع القدرة التحميلية للدماغ (إذا ما استعرنا التعبير «الإنترنتي»: تحميل؛ أحد أهم العمليات الرقمية الراهنة). فلقد أثبتت الأبحاث معمليا كيف أن الشاشة كوسيط مشترك بين التقنيات الرقمية قادرة على زيادة «الحمولة» المعرفية للمواطنين الرقميين. فلقد كان أقصى ما يستطيع المواطن هو حفظ محتوى منهج أو أكثر. أما المواطن الرقمى فلقد بات يستطيع أن يصبح أقرب إلى «الأكاديمية» المتنوعة المناهج. مع ملاحظة اختلاف الحفظ: حيث «المواطن الورقى» (إن جاز التعبير) كان يحفظ محتوى المنهج عن طريق الذاكرة بينما «المواطن الرقمي» ينظم المعرفة بما يؤهله لاستعادة المادة المعرفية فى أى وقت. وتؤكد الأبحاث المعملية ودراسات الشركات المروجة للألعاب والوسائل التعليمية الرقمية تنامى القدرة التحميلية للدماغ. ويشار فى هذا المقام إلى أن الشركات سالفة الذكر قد زادت مبيعاتها من الألعاب والوسائل التعليمية التى تراعى فى تصميماتها تكامل النشاطات المُحفزة للعقل من: «تفكير، وحفظ، وتحليل، وحساب، وتعرف، وعمل علاقات أو تربيط بين الظواهر والأحداث، والتوقع، والاستنتاج».
ثانيا: زيادة معدلات نجاح معالجة المشكلات المتعلقة بحيوية العقل واضطرابات الدماغ فى المراحل العمرية المختلفة. تشير التجارب والدراسات إلى أن التقنيات الرقمية نجحت فى علاج ما يعرف بـ§ «التدهور المعرفي» لدى كبار السن. حيث تم تعريض عينة من البشر، أولا لوسائل رقمية مرئية ليوم كامل. ثم ثانيا تعريضهم لاختبارات تتعلق بالعروض والألعاب التى تعرضوا إليها تتعلق: بالذاكرة البصرية، والتعليل المنطقي، والتحكم فى مجريات اللعبة أو الحدث،...إلخ. فوجدوا تحسنا ملموسا فى النشاطات الدماغية. كما تحققت نجاحات لافتة لمرضى الفصام، واضطرابات التوحد، ولمصابى حوادث السيارات. كما نجحت التقنيات الرقمية فى تلبية احتياجات نفسية محددة مثل ضعف البعض فى التحكم فى الانفعالات. وقد تأكد أيضا مدى فوائد التقنيات الرقمية بالنسبة للنشاطات الأكثر تجريدا مثل: النمو الاجتماعي، والعافية النفسية. وواكب كل ما سبق نشاطا إيجابيا للمواد الكيميائية المخية المحفزة للعقل على التغير نحو الأفضل.
ثالثا: تزايد القدرة على ممارسة أكثر من فعل فى وقت واحد. حيث يقدر أحد الباحثين أنه أصبح فى إمكان المواطن الرقمى أن يقوم بخمسة أفعال متزامنة مثل: إرسال رسالة نصية للأصدقاء أو صور عبر الانستجرام، وتحميل أغنيات أو أفلام من الانترنت، ومشاهدة عمل مرئى على شاشة لا تزيد على بوصتين، والحديث (الشاتينج) مع أحد الأصدقاء وربما مراجعة بعض الدروس معه، وتبادل المعلومات على الفيس بوك أو ماى سبيس،...وهى كلها أفعال تعكس حيوية عالية لقدرات الإنسان المختلفة التى تأتمر بالمخ فى المقام الأول. ويلاحظ هنا كيف أن هذه الأفعال تتم من خلال التشبيك بين مجموعة من التقنيات المختلفة عبر الشبكة العنكبوتية.. وفى المقابل يحدث «تشابك» أيضا بين قدرات الإنسان المختلفة، فى وقت واحد، حيث يتكلم ويتحرك ويفكر ويبصر وينصت ويتفاعل مع من يتواصل معه.
بالطبع، لا يمنع ما سبق من تحولات كبرى حظى بها العقل الإنساني، وغيرها (يمكن مراجعة سوزان جرينفيلد فى مرجعها الرائد: «تغيُر العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على ادمغتنا؟» 2015، ترجمة إيهاب عبدالرحيم علي، عالم المعرفة ــ 2017)، إلا أنه لا تزال هناك سلبيات تتعلق بممارسة العدوانية أو العنف أو التشهير. ولكن البحوث تقول أن الأمر يتوقف على الطبيعة السلوكية ــ بالأساس ــ للفرد من جهة. وعلى البيئة التى يتم فيها التفاعل بين التقنيات الرقمية والعقل الإنسانى من جهة ثانية. والاختيارات التى يختارها المرء من جهة ثالثة. وهو أمر لا يختلف عما كان يحدث من قبل مع المشاهدة التليفزيونية فى الستينيات...
ويضاف أيضا لما سبق إلى أنه لاتزال هناك مقارنات بحثية بين زمنين يفصل بينهما «ميلاد جوجل» على سبيل المثال حول: الأولوية النسبية للكتاب الورقى على حساب الكتاب الرقمى لأسباب كثيرة تم بحثها. كذلك البحث عن المعلومة بتدقيق من قبل جيل ما قبل جوجل مقابل تشتت جيل ما بعد جوجل نتيجة تعدد المصادر وتراوحها بين العمق والسطحية. إلا أنه ونتيجة أن المستقبل «لجيل جوجل» فإننا سنكون أمام عقل مغاير تماما لعقول «ما قبل جوجل» عقل فى حالة تغيُر دائم. واتساع معرفى يوصف «بعقل الأكاديمية»؛ بفعل تقنيات رقمية تتجدد تكنولوجيا بصورة مطردة...
ما يدفعنا إلى طرح السؤال المحورى التالي: إلى أى مدى يمكن أن تصمد نظم التنشئة/ التعليم التقليدية: «الأسرة، والمدرسة، والجامعة، ودور العبادة، والإعلام، أمام جيل جوجل»...نتابع...