رحيل بريجنسكيى.. استراتيجى القوة الأمريكية

لكل قوة عظمى عبر التاريخ مُدبرها السياسي الذي ينصح ويقدم المشورة وربما يحيك المؤامرات التي تضمن استمرار هذه القوة على قوتها. وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعل هذا المدبر مهنة وأن تؤسس هياكل مؤسسية تستوعب فيها هؤلاء «المدبرين» أو «المنظرين الاستراتيجيين» برؤاهم المتنوعة تحت سقف مصلحة أمريكا العليا واستمرار هيمنتها...



من هؤلاء زبجنيو بريجنسكي الذي رحل منذ أسبوعين عن عمر يقارب التسعين عاما. وهو ابن عائلة بولندية غادرت بولندا إلى الشمال الأمريكي في عام 1938. وقد تلقى تعليمه الجامعي في هارفارد ـــ شأنه شأن كيسنجر ــ وصار معلما في جامعة كولومبيا وكانت مادلين أولبرايت أحد أهم من تتلمذوا عليه. وفي عام 1976 أُختير مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر.

وعلى الرغم من أهمية الرجل في الاستراتيجية الأمريكية سواء أثناء عمله الرسمي في الإدارة الامريكية أو خارجها، إلا أننا لم نعر الرجل اهتماما كبيرا في وسائل إعلامنا. مع أن هذه المناسبات تعد فرصة لمراجعة الكثير من الأمور. خاصة وأن بريجنسكي ظل ينتج بمعدل دوري كتابات استراتيجية في غاية الأهمية. ومهما كان موقفنا منها إلا أنها جديرة بالمراجعة خاصة إذا كان يؤخذ بها أو بجانب منها. أو أضعف الإيمان تخلق حالة حوارية في أوساط صناعة القرار العالمي الذي ظل الرجل حاضرا فيها إلى آخر لحظة. والأهم أثر ما يؤخذ به على الأوضاع الراهنة.

لقد عاش بريجنسكي وفيا لثلاثة أمور: الأول: كيف تظل أمريكا قوة عظمى، وإن أمكن وحيدة. والثاني: كيف يحاصر الاشتراكية سواء في طبعتها السوفياتية او اللاتينية(نسبة لأمريكا اللاتينية). وقد كان أكثر تشددا من كيسنجر ـــ في هذا المقام ــ الذي تبنى التهدئة. الثالث: الفكرة الغربية في بعدها الحضاري الرأسمالي. وهو ما عبر عنه تفصيلا في أكثر من مرجع هام مثل: «الأوتوقراطية والديكتاتوريات التوتاليتارية» (1957). و»الفوضى: الاضطراب العالمي عند مشارف القرن العشرين»(1998)، ورقعة الشطرنج الكبرى: الأولية الأمريكية ومتطلباتها الجيوستراتيجية»( 1999). وأخيرا «رؤى استراتيجية» (2014). وهكذا يقوم الاستراتيجي بتوظيف العلم والمعرفة لصالح المصالح السياسية للدولة وذلك بطرح خيارات عملية على أرض الواقع لا يهم هل تتناقض في الواقع من الأفكار والمصالح العليا. ففي سبيل اسقاط الاتحاد السوفيتي تم طرح فكرة منظومة أمنية شرق أوسطية خليجية تقوم على قاعدة فسيفسائية إثنية وهو ما طرحه مبكرا في كتابه «بين عصرين»(ترجمة الكاتب والمناضل المصري الكبير محجوب عمر) وقد رجعنا إليه في كتابنا «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط»(2000). وتفكيك المنظومة العربية. كذلك الدفع إلى المواجهة مع السوفييت في أفغانستان وبث الفكرة الجهادية في مواجهتهم. كما كان له دور كبير بحسب ما جاء في مذكرات البابا يوحنا بولس الثاني لحصار تنامي الحركة الدينية التقدمية والمنحازة للفقراء، والمعروفة بحركة لاهوت التحرير.

ومن الأفكار التي ظلت مسيطرة على بريجنسكي فكرة «استمرارية القوة الأمريكية». وعن هذا يقول: «أية قوة عظمى لا يمكنها البقاء مهيمنة إلا إذا أبرزت رسالة كفاءتها من خلال مسألة الثقة بالحق الذاتي»...وعليه «ضرورة التزاوج بين القوة والسلطة». ولديه السلطة تعني «مشروعية ممارسة أمريكا لدورها العالمي المرجعي». وإذعان الآخرين لهذه السلطة. ومن ثم ممارسة القوة لضبط الفوضى. وعليه لابد من نشر القيم المشتركة التي تيسر ممارسة القوة والسلطة معا. «فممارسة القوة في ذاتها باعتبارها هدفا من شأنه أن يقوض قوة أمريكا العالمية لو مورست بدون الشرعية المطلوبة والتي توفرها منظومة القيم الأمريكية».

وتعد الفكرة الأخيرة من الأفكار التي بقيت مع بريجنسكي بتنويعات مختلفة حتى كتابه الأخير «رؤى استراتيجية» والذي طرح فيه فكرة’’ الغرب الكبير الحيوي»: A Larger & Vital west؛...بالطبع مركزه الولايات المتحدة الأمريكية...لماذا وكيف؟...

«لأن النفوذ العالمي الأمريكي يمارس من خلال نظام عالمي مصمم أمريكيا ليعكس التجربة المحلية الأمريكية». فالثقافة «الأمريكية تسود العالم، والدردشات عبر وسائل التواصل الإلكتروني والتي يشارك فيها أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية مصادر التحكم فيها أمريكية، وهناك جاذبية النموذج الاقتصادي الأمريكي»...إذن، النموذج الأمريكي بأبعاده: الاقتصادية، والسياسية ، والثقافية،...،إلخ، قد جعل من أمريكا نموذجا مغايرا لكل ما سبقه من قوى عظمى عبر التاريخ.

وإن اجتماع التقدم: التكنولوجي، والعسكري، والحضاري، والاقتصادي، سوف «يمنح الولايات المتحدة الأمريكية قدرة سياسية لا تقاربها أية دولة أخرى. وبسبب اجتماع هذه العوامل الأربعة تصبح أمريكا القوة العالمية العظمى الوحيدة الشاملة»...

وبالرغم من اختلاف الإدارة الحالية من حيث أنها جمهورية ومن أن بريجنسكي قد خدم في إدارة ديمقراطية إلا أنه كان راضيا عن بعض مواقف الإدارة الحالية من حيث التلويح باستخدام القوة أو باستعادة بعض الاستراتيجيات التي تم اختبارها في الماضي. ولم يرض بالابتعاد عن أوروبا...بريجنسكي قصة مثيرة لاستراتيجي وظف علمه من أجل استمرار القوة الأمريكية...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern